ثَبَّتَ عصاه " الأبانوس" أعلى مراقي الدرج، وكأنها فسيلةٌ يستيقن غراسها؛ مع كل مهبط يود لو أنها ضغطةٌ على " ماكينة الصرافة" تَطيرُ معها أرصدتُه إلى مستحقيها: ليتها تُحِلُّنِي من وحل السنين. أعرف أنه صدق المضطر.
يجاهد في الوصول إلى الطابق الأسفل،
فلم يعد يغريه زيفُ العالم العلوي، تعكسُ ملامحُ نفسيته عزيزَ قوم ذل؛ فقدتركته زوجه الشابة يسامر المرض.
يتلهى بأرصدته المنتفخة بها خزائنه، فما بقي له سوى كابوس يترصده، ووحدة تفترسه، بينما "عوض" الخفير ينال شرف خدمته.
يعاود محاولة الهبوط والعودة بالذاكرة إلى الماضي؛ لعلها تقصف جبهة كبريائه، وتمحو معها جبالَ السيئات، وتمشط حياته مما علق بها من جبروت؛ فالعمر يغرق في أجواء الغروب: أعرف أنها محاولات بائسة لاستمطار أرض على غير موعد؛ فالخريف تكثر به الريح العقيم، وتنفض الأشجار أوراقها.
تخونه قدماه، وتطيشُ به عصاه؛ يَنْقَضُّ إلى أسفلٍ كالحجر أُطْلِقَ عِنَانُه من قمة الجبل؛
يتداعى البنيانُ فتلتقمه فُوَّهَةُ ألمٍ مستعرٍ ندما، بحجم ما جنت يداه،
يتمنى أن يدفن ماضيه في بطنه المنتفخ أمامه، فلا تترعرع في الدنيا سيئاته، وتتكاثر من بعده سوآته.
صوت الارتطام بخلفية التأوه، يتجاوز الآذان المغلقة، خلف أسوار قلعته المحظورة.
تلتقط أذنا "عوض" صوتا هزيلا يخبو شيئا فشيئا، كالهاتف قد ضعف منه الإرسال؛ الحمى مزقت أحباله الصوتية، تناهت إلى رئتيه؛ لم تعد أيّ منهما صالحة لاستقبال إكسير الحياة، أو طرده بعد تلويثه بأدران الجسد وسيئاته.
يسترق " عوض" السمع:
أيعقل أن يكون هذا حضرة العمدة؟!
ماذا تراه قد حدث؟!
يتراءى للعمدة شبحُ الموت مهرولا، وقد غلفته الحمى بسياج من اللهب، تصنع حوله أخاديد تفيض بأثر التعرق. سهام الألم لم تترك مكانا في جسده؛ حتى تلقَّى منها الطعان.
يعاود الأنينُ إرساله بما تبقى لديه من طاقة في بطارية الصوت، يستفيق على هسهسة الزهور؛ حيث يستجلبها البستاني لزوجه:
إنها أوراد لعنتي التي ارتوت بدماء الأطفال؛ فَحَلَّتْ فيها؛ تسبقني هناك إلى شفير القبر؛ تلتمع التحف والنجف، فيخطف بريقها شيئا من روحه، يذهب به على أعتاب البرزخ؛ تنتظر بقايا روحٍ رشحتها الأقدار للموت.
تناهت إليه صورة البرزخ الذي شيد له قصرا داخل دواره، تحت شجرتي الرمان والمانجو.
تلتمع أمامه زركشة القبر بالزجاج الإيطالي الراقي؛ كان حريصا ألا تغيب عنه الأملاك في مرقده!
مع كل نَفَسٍ يفتقده من رصيده في الحياة يقترب من سراب أمنيات لو عاد لفعلها؛ فالحياة والموت لا يقبلان التفاوض عليهما؛ سأدفن مع الفلاحين هناك، سأجتمع بهم قبل أن يضم رفاتي عالم الآخرة؛ لا أريد منهم أن يلفظوني كما لفظتهم.
يتغشاه الإغماء مرة أخرى
كاد الرصيد ينفد، فينقطع عن العالم، يدخل في مرحلة الاستقبال دون الإرسال،
يعاود " عوض" التسمع لاستجلاء الأمر،
يقتحم المكان في توجس
يتتبع أثر الصوت الذي بات في رمقه الأخير، على وشك أن توافيه تلك الرسالة: لقد نفد رصيدكم؛ يرجى إعادة الشحن،
يا للهول! حضرة العمدة!
ماذا جرى؟!
يتراءى له وجه "عوض" مشوها؛ تعكسه مرآةٌ عكَّرَ صفوَهَا بخارُ الماء، وضعت الإغماءة بينه وبين العالم حاجزا، لا يستطيع التواصل معه.
يُهرع "عوض" إلى المطبخ الذي لا يعرف من القصر سواه؛ يجلب قارورة من الماء يسكبها على وجهه.
يومئ نبض القلب بما لديه من بقايا الطاقة.
الحمد لله؛ فقد لطف الله بجنابك !
ذهبت بقايا الإشارة التي يصدر عنها مظنة التواصل، وينفد الرصيد .
يغور في جب من الإغماء؛ لم يتبق له سوى قليل من الشحن يمده بأسبابِ حياةٍ مكتومة، أقرب منها إلى الموت.
يحمله "عوض " إلى المستشفى ، مرهقا مجهدا، تبدو عليه أعراضٌ سبقت إلى العمدة" لقد أوشك رصيده على الانتهاء أيضا.
التقارير تؤكد أصابتهما” بكرونا”
العزل فرض نفسه على كليهما ،
ينفد الرصيد والشحن؛ إيذانا بوقوع قدر الله المحتوم.
يتلقى أهل القرية إشارة:
مات في العزل السيد "عوض محمدشلبي". العمرتسعة وخمسون عاما.
المهنة خفير الدرك بناحية "أبو شهاب"
تقف القرية بقيادة شقيق "العمدة"في وجه سيارة الإسعاف.
أهالي القربة يمتنعون عن استقبال الجثمان ودفنه في مقابرهم.
يرجمون السيارة بالحجارة:.
ليس لديه مقبرة هنا، ولن يستقبل أحدنا هذا الوباء في مقبرته.
بعد ساعة يجبر الأمنُ الأهالي على دفنه بمقابر الصدقة.
يمر أسبوعان والقرية تنعمُ بالصفاء؛ حتى أظل سماءَهَا غيمةٌ رمادية.
أعقبها إعصارٌ من الذعر والهلع.
وكأن ذئبا نزل بساحةِ غنمٍ فقدت الراعي؛ هُرِعُوا متفرقين هنا وهناك.
أصبح"عوض" ظلا لجميع شخوصهم، أينما ولوا، وضجيعهم أينما حلُّوا.
تنادى الناس فيما بينهم، وعبر مكبرات الصوت بالمساجد:
احذروا؛ فقد وافتكم لعنة "عوض" جراء ما فعلتم به!.
لم يستوعب "عوض " ما يجري، غير أنهم يتجنبونه اتقاء عدوى"الكرونا".
تناقلوا الأخبارَ والرؤى عبر الهاتف:
نتصيده بالمسدس!
لا ؛ إن كان حقا ما ترى، فلن يجدي مع الروح "أسلحة "البنتاجون"!.
بينما أحمق يصيح بأعلى صوته: عفريت "عوض "
و دهش فاغرٌ فاه؛ توقفت لديه كل آليات التفكير؛ فلا يستطيع تصنيفَ ما يحدث.
يمضي" عوض" في طريقه إلى الدَّوَّار، لا يأبه بشيء؛ الخوفُ يسوق أهلَ القرية أمامه كالجرذان؛ فَيُصِيبُ مَن بالدوار ما أصاب إخوانهم في الطريق؛ واجبُ العزاء قد تحتم عليه بخروجه من المستشفى، بينما الجميع في هلع وحيرة!
ومن يكون قد دفناه في مقابر الصدقة؟!
التليفون يدق في الدوار:
زوج" العمدة" وافتها المنية بالعزل، ونحن قادمون بالجثة.
يجاهد في الوصول إلى الطابق الأسفل،
فلم يعد يغريه زيفُ العالم العلوي، تعكسُ ملامحُ نفسيته عزيزَ قوم ذل؛ فقدتركته زوجه الشابة يسامر المرض.
يتلهى بأرصدته المنتفخة بها خزائنه، فما بقي له سوى كابوس يترصده، ووحدة تفترسه، بينما "عوض" الخفير ينال شرف خدمته.
يعاود محاولة الهبوط والعودة بالذاكرة إلى الماضي؛ لعلها تقصف جبهة كبريائه، وتمحو معها جبالَ السيئات، وتمشط حياته مما علق بها من جبروت؛ فالعمر يغرق في أجواء الغروب: أعرف أنها محاولات بائسة لاستمطار أرض على غير موعد؛ فالخريف تكثر به الريح العقيم، وتنفض الأشجار أوراقها.
تخونه قدماه، وتطيشُ به عصاه؛ يَنْقَضُّ إلى أسفلٍ كالحجر أُطْلِقَ عِنَانُه من قمة الجبل؛
يتداعى البنيانُ فتلتقمه فُوَّهَةُ ألمٍ مستعرٍ ندما، بحجم ما جنت يداه،
يتمنى أن يدفن ماضيه في بطنه المنتفخ أمامه، فلا تترعرع في الدنيا سيئاته، وتتكاثر من بعده سوآته.
صوت الارتطام بخلفية التأوه، يتجاوز الآذان المغلقة، خلف أسوار قلعته المحظورة.
تلتقط أذنا "عوض" صوتا هزيلا يخبو شيئا فشيئا، كالهاتف قد ضعف منه الإرسال؛ الحمى مزقت أحباله الصوتية، تناهت إلى رئتيه؛ لم تعد أيّ منهما صالحة لاستقبال إكسير الحياة، أو طرده بعد تلويثه بأدران الجسد وسيئاته.
يسترق " عوض" السمع:
أيعقل أن يكون هذا حضرة العمدة؟!
ماذا تراه قد حدث؟!
يتراءى للعمدة شبحُ الموت مهرولا، وقد غلفته الحمى بسياج من اللهب، تصنع حوله أخاديد تفيض بأثر التعرق. سهام الألم لم تترك مكانا في جسده؛ حتى تلقَّى منها الطعان.
يعاود الأنينُ إرساله بما تبقى لديه من طاقة في بطارية الصوت، يستفيق على هسهسة الزهور؛ حيث يستجلبها البستاني لزوجه:
إنها أوراد لعنتي التي ارتوت بدماء الأطفال؛ فَحَلَّتْ فيها؛ تسبقني هناك إلى شفير القبر؛ تلتمع التحف والنجف، فيخطف بريقها شيئا من روحه، يذهب به على أعتاب البرزخ؛ تنتظر بقايا روحٍ رشحتها الأقدار للموت.
تناهت إليه صورة البرزخ الذي شيد له قصرا داخل دواره، تحت شجرتي الرمان والمانجو.
تلتمع أمامه زركشة القبر بالزجاج الإيطالي الراقي؛ كان حريصا ألا تغيب عنه الأملاك في مرقده!
مع كل نَفَسٍ يفتقده من رصيده في الحياة يقترب من سراب أمنيات لو عاد لفعلها؛ فالحياة والموت لا يقبلان التفاوض عليهما؛ سأدفن مع الفلاحين هناك، سأجتمع بهم قبل أن يضم رفاتي عالم الآخرة؛ لا أريد منهم أن يلفظوني كما لفظتهم.
يتغشاه الإغماء مرة أخرى
كاد الرصيد ينفد، فينقطع عن العالم، يدخل في مرحلة الاستقبال دون الإرسال،
يعاود " عوض" التسمع لاستجلاء الأمر،
يقتحم المكان في توجس
يتتبع أثر الصوت الذي بات في رمقه الأخير، على وشك أن توافيه تلك الرسالة: لقد نفد رصيدكم؛ يرجى إعادة الشحن،
يا للهول! حضرة العمدة!
ماذا جرى؟!
يتراءى له وجه "عوض" مشوها؛ تعكسه مرآةٌ عكَّرَ صفوَهَا بخارُ الماء، وضعت الإغماءة بينه وبين العالم حاجزا، لا يستطيع التواصل معه.
يُهرع "عوض" إلى المطبخ الذي لا يعرف من القصر سواه؛ يجلب قارورة من الماء يسكبها على وجهه.
يومئ نبض القلب بما لديه من بقايا الطاقة.
الحمد لله؛ فقد لطف الله بجنابك !
ذهبت بقايا الإشارة التي يصدر عنها مظنة التواصل، وينفد الرصيد .
يغور في جب من الإغماء؛ لم يتبق له سوى قليل من الشحن يمده بأسبابِ حياةٍ مكتومة، أقرب منها إلى الموت.
يحمله "عوض " إلى المستشفى ، مرهقا مجهدا، تبدو عليه أعراضٌ سبقت إلى العمدة" لقد أوشك رصيده على الانتهاء أيضا.
التقارير تؤكد أصابتهما” بكرونا”
العزل فرض نفسه على كليهما ،
ينفد الرصيد والشحن؛ إيذانا بوقوع قدر الله المحتوم.
يتلقى أهل القرية إشارة:
مات في العزل السيد "عوض محمدشلبي". العمرتسعة وخمسون عاما.
المهنة خفير الدرك بناحية "أبو شهاب"
تقف القرية بقيادة شقيق "العمدة"في وجه سيارة الإسعاف.
أهالي القربة يمتنعون عن استقبال الجثمان ودفنه في مقابرهم.
يرجمون السيارة بالحجارة:.
ليس لديه مقبرة هنا، ولن يستقبل أحدنا هذا الوباء في مقبرته.
بعد ساعة يجبر الأمنُ الأهالي على دفنه بمقابر الصدقة.
يمر أسبوعان والقرية تنعمُ بالصفاء؛ حتى أظل سماءَهَا غيمةٌ رمادية.
أعقبها إعصارٌ من الذعر والهلع.
وكأن ذئبا نزل بساحةِ غنمٍ فقدت الراعي؛ هُرِعُوا متفرقين هنا وهناك.
أصبح"عوض" ظلا لجميع شخوصهم، أينما ولوا، وضجيعهم أينما حلُّوا.
تنادى الناس فيما بينهم، وعبر مكبرات الصوت بالمساجد:
احذروا؛ فقد وافتكم لعنة "عوض" جراء ما فعلتم به!.
لم يستوعب "عوض " ما يجري، غير أنهم يتجنبونه اتقاء عدوى"الكرونا".
تناقلوا الأخبارَ والرؤى عبر الهاتف:
نتصيده بالمسدس!
لا ؛ إن كان حقا ما ترى، فلن يجدي مع الروح "أسلحة "البنتاجون"!.
بينما أحمق يصيح بأعلى صوته: عفريت "عوض "
و دهش فاغرٌ فاه؛ توقفت لديه كل آليات التفكير؛ فلا يستطيع تصنيفَ ما يحدث.
يمضي" عوض" في طريقه إلى الدَّوَّار، لا يأبه بشيء؛ الخوفُ يسوق أهلَ القرية أمامه كالجرذان؛ فَيُصِيبُ مَن بالدوار ما أصاب إخوانهم في الطريق؛ واجبُ العزاء قد تحتم عليه بخروجه من المستشفى، بينما الجميع في هلع وحيرة!
ومن يكون قد دفناه في مقابر الصدقة؟!
التليفون يدق في الدوار:
زوج" العمدة" وافتها المنية بالعزل، ونحن قادمون بالجثة.
محمود المهدى
محمود المهدى ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit محمود المهدى und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die...
www.facebook.com