أوقف سيارة طاكسي . فتح الباب ، وجلس بجانب السائق . بعد التحية حدد له الوجهة .
مرت بضع دقائق . اشتكى للسائق من الحرارة المفرطة التي تعرفها مراكش هذه الأيام . رأى السائق بأن الأمر عادي ، والفترة يطلق عليها أهل مراكش شمس البلح . وهي الشمس التي تنضج تمر النخيل ، وقد تمتد إلى ما بعد أواسط أكتوبر . رد عليه متأسفا بأن البلح افتقده منذ زمن بعيد ، وبقيت فقط شمسه .
عادت به شمس البلح إلى زمن الطفولة على بعد أكثر من خمسين سنة . عندما كانت أشجار النخيل محملة بغذوق صفراء مليئة بالبلح ، تزين المدينة القديمة وترمي بظلالها على الأسوار التي تواجدت خارجها أحياء قليلة . الأغلبية المطلقة من السكان كانت تسكن وتعمل وتعيش داخل الأسوار .
خريف مراكش يختلف عن خريف المدن الساحلية . ترتفع درجات الحرارة بشكل ملفت ، خاصة إذا مرت بعض أيام فصل الصيف معتدلة نسبيا . ينصح الكبار الصغار أثناء خروجهم للعب باستعمال القبعات الواقية من أشعة الشمس التي قد تتسبب في انتقال حرارتها إلى جسم الإنسان ، فتصيبه بحمى ، تجعله طريح الفراش ، وتحتم عليه يوم الاثنين زيارة مستوصف الحي لأخذ بعض الأقراص أو النصح بشرائها من الصيدلية . وفي أغلب الحالات تضطر الأم أو العمة إلى التدخل والقيام بمهام طبيب المستعجلات . تأخذ نبتة (المخينزة)* في قطعة قماش مبللة بماء ساخن ، وتضعها كضمادة على جبهة المريض ، فتنخفض حرارته بشكل تدريجي .
يوم الجمعة يتعطل الصناع التقليديون عن العمل . ويوم الأحد تتعطل المدارس والإدارات . يخرج أطفال الحي عن الأسوار على شكل عصابات سواء الذين يتابعون دراستهم في المدرسة أو الذين يعملون في الصناعة التقليدية .
الأطفال صغار السن يلعبون ويقذفون أحد أغداق النخيل القريبة من الأسوار بالحجارة لتتساقط بعض الثمار ويجمعونها ، أو يتطوع أحدهم ، ويصعد إلى أعلى النخلة بحبل ، ويضرب الغدق بآلة حادة حتى يفصله عن منبته ، ويتهاوى إلى الأرض .
أما الأطفال الأكبر سنا ، والأكثر جرأة ، ومغامرة فيفضلون الابتعاد عن الأسوار بالانتقال إلى أحياء مثل عين يطي أو وراء حي الداوديات بالقرب من منطقة النخيل في طريق الدار البيضاء . فبعد كر وفر ومشاكسة مع الحراس ، يعود الجميع في المساء محملا بغذوق مليئة بالبلح .
لا بد من إخفاء البلح عن أهل البيت من الرجال ، لأنهم إذا رأوه فقد يعرض الطفل نفسه لعقاب بدني شديد بسبب خروجه عن السور ، وابتعاده عن البيت من غير إذن . وهنا تتواطأ الأمهات والعمات مع الأطفال ويخفيان الغنيمة ، أو ينسبانها لأحد أبناء الجيران .
اختفت اليوم بجانب الأسوار أشجار النخيل ، وحل محلها بنايات من الاسمنت . وحتى الأشجار التي كانت تشكل واحات بالقرب من بعض الأحياء أهملت وجفت وتحولت إلى مجرد ديكور يزين بعض الصور المخدومة التي تعرض كإشهار لدعم السياحة بالمدينة .
توقف الطاكسي وسط غابة من الاسمنت . نزل ببطء ومسح وجهه الذي يتصبب عرقا .
وهو يناول السائق أجرته ، قال لنفسه :
تحول اهتمام الأطفال إلى حمل الرشاشات والسكاكين في اللعب الإلكترونية ، وخوض الحروب في العالم الافتراضي .
لاذ بالصمت وهو يقطع الطريق . تذكر أنه كلما اقترب القطار من مراكش ، يشعر بفرح غريب ، عندما تلوح له أشجار النخيل ووراءها جبال الأطلس . يتردد في خاطره صدى أغنية مراكش يا وريدة بين النخيل .
وهو داخل مراكش يرى أن الوردة ذبلت ، وأشجار النخيل جفت ، وبقيت فقط شمس البلح التي تواطأت مع الاسمنت ، ليحرقا أجسامنا ورؤوسنا بصهدهما المفرط .
*المخينزة : عشب مشهور في المغرب يوضع في قماش مبلل بماء ياخن ويحزم به الرأس لعلاج الحمى
مراكش 26 سبتمبر 2019
مرت بضع دقائق . اشتكى للسائق من الحرارة المفرطة التي تعرفها مراكش هذه الأيام . رأى السائق بأن الأمر عادي ، والفترة يطلق عليها أهل مراكش شمس البلح . وهي الشمس التي تنضج تمر النخيل ، وقد تمتد إلى ما بعد أواسط أكتوبر . رد عليه متأسفا بأن البلح افتقده منذ زمن بعيد ، وبقيت فقط شمسه .
عادت به شمس البلح إلى زمن الطفولة على بعد أكثر من خمسين سنة . عندما كانت أشجار النخيل محملة بغذوق صفراء مليئة بالبلح ، تزين المدينة القديمة وترمي بظلالها على الأسوار التي تواجدت خارجها أحياء قليلة . الأغلبية المطلقة من السكان كانت تسكن وتعمل وتعيش داخل الأسوار .
خريف مراكش يختلف عن خريف المدن الساحلية . ترتفع درجات الحرارة بشكل ملفت ، خاصة إذا مرت بعض أيام فصل الصيف معتدلة نسبيا . ينصح الكبار الصغار أثناء خروجهم للعب باستعمال القبعات الواقية من أشعة الشمس التي قد تتسبب في انتقال حرارتها إلى جسم الإنسان ، فتصيبه بحمى ، تجعله طريح الفراش ، وتحتم عليه يوم الاثنين زيارة مستوصف الحي لأخذ بعض الأقراص أو النصح بشرائها من الصيدلية . وفي أغلب الحالات تضطر الأم أو العمة إلى التدخل والقيام بمهام طبيب المستعجلات . تأخذ نبتة (المخينزة)* في قطعة قماش مبللة بماء ساخن ، وتضعها كضمادة على جبهة المريض ، فتنخفض حرارته بشكل تدريجي .
يوم الجمعة يتعطل الصناع التقليديون عن العمل . ويوم الأحد تتعطل المدارس والإدارات . يخرج أطفال الحي عن الأسوار على شكل عصابات سواء الذين يتابعون دراستهم في المدرسة أو الذين يعملون في الصناعة التقليدية .
الأطفال صغار السن يلعبون ويقذفون أحد أغداق النخيل القريبة من الأسوار بالحجارة لتتساقط بعض الثمار ويجمعونها ، أو يتطوع أحدهم ، ويصعد إلى أعلى النخلة بحبل ، ويضرب الغدق بآلة حادة حتى يفصله عن منبته ، ويتهاوى إلى الأرض .
أما الأطفال الأكبر سنا ، والأكثر جرأة ، ومغامرة فيفضلون الابتعاد عن الأسوار بالانتقال إلى أحياء مثل عين يطي أو وراء حي الداوديات بالقرب من منطقة النخيل في طريق الدار البيضاء . فبعد كر وفر ومشاكسة مع الحراس ، يعود الجميع في المساء محملا بغذوق مليئة بالبلح .
لا بد من إخفاء البلح عن أهل البيت من الرجال ، لأنهم إذا رأوه فقد يعرض الطفل نفسه لعقاب بدني شديد بسبب خروجه عن السور ، وابتعاده عن البيت من غير إذن . وهنا تتواطأ الأمهات والعمات مع الأطفال ويخفيان الغنيمة ، أو ينسبانها لأحد أبناء الجيران .
اختفت اليوم بجانب الأسوار أشجار النخيل ، وحل محلها بنايات من الاسمنت . وحتى الأشجار التي كانت تشكل واحات بالقرب من بعض الأحياء أهملت وجفت وتحولت إلى مجرد ديكور يزين بعض الصور المخدومة التي تعرض كإشهار لدعم السياحة بالمدينة .
توقف الطاكسي وسط غابة من الاسمنت . نزل ببطء ومسح وجهه الذي يتصبب عرقا .
وهو يناول السائق أجرته ، قال لنفسه :
تحول اهتمام الأطفال إلى حمل الرشاشات والسكاكين في اللعب الإلكترونية ، وخوض الحروب في العالم الافتراضي .
لاذ بالصمت وهو يقطع الطريق . تذكر أنه كلما اقترب القطار من مراكش ، يشعر بفرح غريب ، عندما تلوح له أشجار النخيل ووراءها جبال الأطلس . يتردد في خاطره صدى أغنية مراكش يا وريدة بين النخيل .
وهو داخل مراكش يرى أن الوردة ذبلت ، وأشجار النخيل جفت ، وبقيت فقط شمس البلح التي تواطأت مع الاسمنت ، ليحرقا أجسامنا ورؤوسنا بصهدهما المفرط .
*المخينزة : عشب مشهور في المغرب يوضع في قماش مبلل بماء ياخن ويحزم به الرأس لعلاج الحمى
مراكش 26 سبتمبر 2019