سعد عبد الرحمن - صورة الشاعر في مرآة ذاته.. الجزء الأول

كان الشاعر موضوعا للنقاش و الأخذ و الرد منذ زمن بعيد بين الناس بصفة عامة و لدى الفلاسفة و النقاد و علماء اللغة و غيرهم ممن يتصل ما يشتغلون به من علم بفن الشعر بصفة خاصة ، و قد اتخذ أفلاطون في القرن الرابع ق . م موقفا سلبيا من الشعراء فطردهم من مدينته الفاضلة و لكن ظل الناس في كل زمان و مكان بحاجة إلى الشعر ذلك الفن الذي يعبر عما لا يستطيعون التعبير عنه باللغة العادية التي يتعاملون بها ، و بعضهم آمن بان الشعر ضرورة كجان كوكتو و لكن دون أن يعرف لماذا ؟ .
لهذا رأى كثيرون قديما أن الشعراء بالرغم من أنهم أناس مثلهم و من طينتهم إلا أنهم أشخاص يتمتعون بسمات فارقة و مميزة فهم مؤهلون مثلا للتواصل مع قوى غيبية غير مرئية ( آلهة كما لدى الإغريق و الرومان و شياطين كما لدى العرب قبل الإسلام ) يتلقون عنها ما ينسب إليهم من فن الشعر وحيا أو إلهاما ، و هذا ما جعل العرب الجاهليين يخلطون بين مفهوم الشاعر و مفهوم النبي ، لذلك نجد القرآن حريصا على نفي أن يكون كلامه شبيها بالشعر في مثل قوله تعالى " و ما هو بقول شاعر " و قوله " و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له " ، و قد حظي الشعراء بتقدير الناس على الدوام و لكن هذا التقدير يتفاوت من عصر إلى عصر و من مجتمع إلى آخر تبعا لعوامل حضارية و ثقافية شتى لا مجال لتفصيل القول فيها هنا .
و من آيات تقدير العرب قبل الإسلام للشعراء أنهم كانوا إذا نبغ فيهم شاعر يعدون ذلك مناسبة جليلة يجب أن يحتفلوا بها و يتبادلوا بشأنها التهاني ، و لا غرو فالشاعر النابغة في القبيلة بمثابة قوة إعلامية تدعم و تعزز قوتها المادية من عدد و عتاد في مواجهة أعدائها من القبائل الأخرى فضلا عن أنها تدعم و تعزز قوتها المعنوية أيضا من خلال الإشادة بمفاخرها و التنويه بمناقبها و ما إلى ذلك ، و بالرغم من أن الإسلام اتخذ موقفا سلبيا من الشعر و الشعراء يكاد يكون قريبا من موقف أفلاطون فقد جاء قوله تعالى : " و الشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون و أنهم يقولون ما لا يفعلون ... إلى آخر الآية " فإن إنعام النظر في دلالة الآيات يجعلنا ندرك أن الموقف السلبي في الواقع لم يكن موقفا من الشعراء بصفة عامة و إنما كان موقفا من الشعراء الذين كفروا بالإسلام فناصبوه العداء و دأبوا على القدح في رسالته و هجاء رسوله، و من الشعراء المسلمين الذين يعبدون الله على حرف فلا يلتزمون بتعاليم الإسلام الدينية و الخلقية ، و لذلك جاء في آخر الأية هذا الاستثناء : " إلا الذين أمنوا و عملوا الصالحات و ذكروا الله كثيرا و انتصروا من بعد ما ظلموا " ، و كلا الموقفين ( أفلاطون و الإسلام ) مرتبط بجانب معين في فن الشعر له آثاره السلبية من وجهة نظر أفلاطون و الإسلام على عملية بناء الدولة النموذجية ( جمهورية أفلاطون و دولة الإسلام الجديدة ) و هو الجانب الذي يتعلق بعدم قول الشاعر للحقيقة من ناحية ففي مفهوم أفلاطون لا يحاكي الشاعر في شعره حقائق الأشياء بل يحاكي صورها و من ثم فإن محاكاته تبعد عن الحقيقة بمقدار خطوتين ، و يتعلق بما يتضمنه الشعر من معان فاسدة تضر بالنشء إذا تسربت إلى نفوسهم من ناحية أخرى ؛ و بخصوص هذه الناحية نظن أن أفلاطون اتخذ هذا الموقف في الواقع تأثرا بما كان شائعا و متداولا في عصره من شعر يغلب الفساد على مضمونه و معانيه ، و في مفهوم الإسلام أيضا نجد أن الشعراء يهيمون في وادي الخيال ( في كل واد يهيمون ) و لذلك فهم يقولون ما لا وجود له في الواقع ( يقولون ما لا يفعلون ) ؛ هذا من ناحية و من ناحية أخرى فإن الناس من ذوي الدين الرقيق الذين لم تتشرب نفوسهم بعد قيم الإسلام الخلقية القويمة يتأثرون بشعر الشعراء الفاسدين الضالين ممن دأبوا على الفسق و استمرأوا حياة المجون فيزدادون فسادا و ضلالا ( يتبعهم الغاوون ) ، و هذا يتعارض مع إستراتيجية بناء الدولة النموذجية التي لابد أن تتأسس ( عند أفلاطون و في الإسلام ) على دعامتين أساسيتين هما الأخلاق القويمة و العقلانية .
و سواء أكانت صورة الشعراء لدى النقاد و الفلاسفة و علماء اللغة أو في أذهان غيرهم من الأشخاص العاديين سلبية أو إيجابية أو مزيجا من الأمرين ، فمما لا شك فيه أننا إذا طالعنا الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى العصر الحديث فإننا لا نجد فيه نصوصا تتجلى من خلالها صورة الشاعر فتعرفنا بأبرز سماته و ملامحه العقلية و النفسية و تقربنا من عالمه الفني الإبداعي اللهم إلا نصوصا يتحدث فيها الشاعر عن الشعر كفن صعب لا يتاح لكل من يتكلم فله قواعده و أصوله التي يسيء من لا يحذقها إلى الشعر و إلى نفسه كقول الحطيئة :
الشعر صعب و طويل سلمه .. و الشعر لا يسطيعه من يظلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه .. زلت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
أو يتحدث فيها الشاعر عن معاناته في عملية إبداع الشعر ؛ و كيف يتعب حين يوازن بين الأبيات التي ترد على ذهنه و هي كثيرة كي يختار منها ما يصلح لبناء قصيدة جيدة كالأبيات الآتية المنسوبة إلى امرئ القيس :
أذود القوافي عني ذيادا .. ذياد غلام جريء جيادا
فإما كثرن و عنينني .. تخيرت منهن سبعا جيادا
فأعزل مرجانها جانبا .. و آخذ من درها المستجادا
أما النصوص التي يفخر فيها الشاعر بنفسه كشاعر فهي أكثر من أن تحصى و ربما يكون أشهرها قول أبي الطيب المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي .. و أسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها .. و يسهر الخلق جراها و يختصم
و لكنها كما رأينا مجرد أبيات قليلة سواء أكانت الأبيات جزءا من نص أكبر أو لم تكن ؟ ؛ و الإشارات فيها إلى ملامح صورة الشاعر قليلة أيضا ، و في الواقع فإن " صورة الشاعر " لم تتجل في الشعر العربي إلا في العصر الحديث و بالتحديد في بدايات العقد الثاني من القرن الماضي مع ازدهار الاتجاه الرومانسي ، و منذ ذلك الوقت توالت و تتابعت تلك النصوص التي اتخذت من " صورة الشاعر في مرآة ذاته " موضوعا لها ، و من تلك النصوص على سبيل التمثيل لا الحصر : " الشاعر " لعلي محمود طه و " الشاعر " لطاهر أبي فاشا و " الشاعر الملهم " لعمر أبي ريشة و " الشاعر " لأنور العطار و " الشاعر " لخليل مردم بك و " الشاعر " لإلياس قاعود و " الشاعر " لإلياس أبي شبكة و " الشاعر في القبو " لعبد المنعم الأنصاري و " الشاعر " لفتحي سعيد و " قلب الشاعر " للأخطل الصغير و " شاعر " لفوزي المعلوف و " الشاعر " لحسين حيدر و " الشاعر " لمحمد الرفاعي و " الشاعر و الطبيعة " لمنير عرنوق و " حياة الشاعر " لمحمد توفيق شديد و " الشاعر " لإبراهيم توني و" الشاعر المغامر " لكمال فوزي الشرابي و " الشاعر " لحسين البشبيشي و " الشاعر " لأحمد العجمي و " الشاعر " لإبراهيم فوزي و " الشاعر " لمحمد حليم غالي، و لإيليا أبي ماضي عدة قصائد تدور في هذا الفلك و غيرها .
و أقدم نص عثرت عليه في هذا السياق قصيدة بعنوان " قلب الشاعر " للأخطل الصغير بشارة الخوري منشورة بعدد يناير 1922 من مجلة " الحديقة " لصاحبها لسان الدين الخطيب .
و النص عبارة عن قصيدة من 25 بيتا من بينها بيت متكرر ( البيت الأخير ) يقدم لنا فيها الشاعر صورة رومانسية الملامح لنفسه فهو كائن ليلي لا ينشط إلا بالليل ، و من خلال مجموعة لوحات عن الجبل و السهل و البحر و الرمل يرسم لنا الأخطل الصغير جانبا مما حوله من مظاهر الطبيعة بالليل حيث يلف الظلام و السكون كل شيء و تتكرر في النص كل عدة أبيات جملة " أنا ساهر " و كأنه يقيم في كل لوحة مقابلة بين حالته و حالة الطبيعة بالليل ، و اللوحة الأولى بمثابة مدخل أو تمهيد :
أنا ساهر و الكون نام و كل ما في الكون نام
نام الجميع و مقلتي .. يقظى تجول مع الظلام
حتى نجوم الأفق نامت .. فوق طيات الغمام
و في لوحة البحر مثلا نجد البحر كما صوره الشاعر أخرس صامتا لا صوت لمده أو جزره فبدا و هو على تلك الحالة كأنه مارد مطروح و ممدد على الأرض ، بل بدا هو و الرمل كأنهما عاشقان جمع الهوى بين قلبيهما منذ عهد الطفولة الباكر ؛ و لذلك عندما جاء الليل و غلبهما النعاس ناما متعانقين مبتسمين :
أنا ساهر و البحر أخرس لا هدير و لا احتدام
كالمارد الجبار منطرح على صدر الرغام
فكأنه و الرمل إلفا صبوة منذ الفطام
فتعانقا عند المنام و ملء ثغرهما ابتسام
و يخصص الشاعر الجزء الأخير من نصه لتصوير حالة قلبه الذي يخفق بالحب وسط هذا الصمت المطبق و السكون :
في ذلك الصمت الرهيب و ذلك الليل الجهام
ما كان يخفق غير قلب كاد يقتله السقام
قلب شقي في حنايا أضلعي اختار المقام
قلب تآكله الغرام و ظل يخفق للغرام
ما أعظم الضوضاء يحدثها فؤاد المستهام
إذ راح يخفق وحده خفقان أجنحة الحمام
و النص يحمل سمات الاتجاه الرومانسي و يكشف عن أهم ملامح صورة الشاعر كالاهتمام بالطبيعة اهتماما ملحوظا و توظيفها كمعادل موضوعي لذاته الشاعرة و إيثار جو الصمت و السكون بالليل على مناخ الضجيج و الصخب بالنهار و الميل إلى البوح بخوالج النفس المتيمة و لواعج القلب العاشق و التلذذ بآلام الحب الذي تشي به مثل هذه الجمل " كاد يقتله السقام ، قلب شقي ، قلب تآكله الغرام " ، و يتردد فعل "يخفق" أكثر من مرة في الأبيات الأخيرة و يصف الشاعر خفقان قلبه بالضوضاء العظيمة برغم أنه أشبه بخفقان أجنحة الحمام ، و من خلال هذا الوصف يؤكد الشاعر شيئين : أولها أن الصمت حوله بالليل كان بالفعل رهيبا كما وصف في البيت الأول من تلك الأبيات ، و ثانيها أنه عاشق قد برح به العشق و تآكله الغرام كما أشار في البيت الرابع .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى