إبراهيم الحجري - رحلة إلى القاهرة..

كان سفرنا إلى القاهرة يوم الجمعة ليلا. بالبيضاء كان البرد شديدا، وبالقاهرة كان الاعتدال سيدا، لذلك تخففنا من كثير من الحمولة، خاصة الملابس الثقيلة والكتب… قال لي حسن الموذن: ستجد نفسك محتارا بين كمّ الكتب التي يجب أن تحملها معك، فاحمل أيها أهم بالنسبة إليك حتى لا تضطر للتخلص منها بالمطار بعد أن تتجاوز كتلة أمتعتك الثقل المحدد من لدن جمارك المطار.

صباح مختلف بعد ليلة بيضاء

لم ننم ليلتها رغم محاولاتنا المتتالية، فقد كانت الطريق حبلى بالمطبات المخيفة، فباتت الطائرة المتوسطة الحجم التابعة للخطوط الجوية الملكية المغربية ليلتها، كرة صغيرة تتلاعب بها الرياح والمنخفضات الجوية التي تتفاعل على بعد يزيد عن عشرة آلاف متر من الأرض… أصيب المسافرون بذعر شديد، وراحت شفاههم تردد الشهادتين أو ما شابهها من أدعية، وبعضهم أصيب بانهيار عصبي شديد استدعى معه الأمر تدخلا طبيا، وراح الطاقم يبحث عن أطباء من المسافرين لنجدة المنهارين.

وقبل أن نضع أرجلنا على أرض مطار القاهرة الدولي، قررنا ألا ننام حتى نربح الوقت. نضع أمتعتنا في الغرف، ونتناول إفطارنا، ثم نطلق أرجلنا لجولة، في شوارع القاهرة، نتمناها ألا تنتهي. وكذاك كان.

كانت الإجراءات الروتينية سلسة مع فجر يفوح عبق التاريخ فيه من أول طلة لنا على الأفق السعيد. وجدنا، في استقبالنا، شبابا رائعين ساعدونا على التحرك بسرعة فائقة بين الطائرة وأمتعتنا وبوابات الاستقبال والدخول والعبور السلس في حواجز الجمارك. كانت ساعة واحدة كافية لنكون في فندق بالقاهرة الجديدة غير بعيد عن المطار. سجلنا بياناتنا بإدارة فندق (راديسون بلو)، ووضعنا أمتعتنا، وقصدنا مبكرين المطعم لتناول فطور خفيف: قهوة أو شاي مع بعض العصير والمُحليّات كافية لإعادة التوازن لبطون أرهقها التلاعب بجو لم يهدأ طيلة الليل، كنا نظن، مع تلك الحركات البهلوانية التي باتت تقوم بها الطائرة باسترسال، أن أمعاءنا ستنفجر، وأن قلوبنا ستنفطر بالفزع.

استطاع صباح القاهرة الجميل، قبل الشروق، أن يزرع فينا حماسا متناهيا: لعلّه الشّوق، قال حسن المؤذن. وفي سرعة قياسية ما عهدتها في نفسي، قضى النسيم العليل الممزوج برذاذ البحر المتوسط وطل نهر النيل، على التوتر الذي بات يسكننا طيلة ساعات السفر من البيضاء إلى القاهرة.

الأهرامات

تناولنا فطورنا بسرعة، وكان المطعم خاليا إلا من بعض الأجانب الذين يفضّلون الاستمتاع بصباحاتهم. وخرجنا من الفندق؛ بحثا عن ركوبة تقلنا نحو الجيزة وحي الأهرامات. كنا نعرف أن الطريق طويل، واللحاق مبكرا سيجنبنا متاعب الزحام، خاصة أن اليوم يوم عطلة. أوقفنا أول سيارة أجرة. قال لنا السائق البشوش إن الوقتَ مبكرٌ، لكن أن تنتظروا هناك، خير من أن تعلقوا في زحام القاهرة. وكذاك كان.

في الطريق الذي بات طويلا، كان السائق يستغرق في كلام كثير، تارة يتحدّث عن حجم المدينة، وتارة عن أسباب الاكتظاظ، وتارات أخرى عن تاريخ الأحياء وبناء الأهرامات، وتوسّع المدينة الكبير على امتداد فترات طويلة من الزّمن. وبينما كان هو يحكي بحماس نادر، كنّا نحن نتمايل من التعب والنعاس، ولمّا انتبه حسن إلى تفريطنا في التواصل مع الرجل، بات يدندن بعبارات مركزة ليشاركه في الحديث، بينما كنت من المقعد الخلفي للسيارة، أتأمّل الطرقات والمباني، وهي تسيل في الأزمنة المتعاقبة، مُستحضرا من مرّ من هاهنا، ومن صاروا رميما في الثرى دون أن تغيب أطيافهم، وكأنما أرواحهم تملأ الرحب، وتحلق غير ما بعيد تحرس المكان: أنبياء، رسل، فنانون، سياسيون، قادة، زعماء، كتاب، شعراء، فلاسفة، مؤرخون، مشعوذون، فراعنة، كهنة… يحضر هؤلاء بكثافتهم في مخيلتي فأشعر بالأسى الذي يفضي إليه الشعور بحقيقة الفناء التي لا راد لزحفها، وأشعر بسعادة غامرة لأنه أخيرا، أتيحت لي فرصة تهجّي خطوات هؤلاء العظام، وتلمّس الأمكنة التي عبروها، ورسموا فيها خرائط نجاحاتهم وآلامهم، إخفاقاتهم، ودموعهم في السراء والضراء…

وأنا أشتمّ عبير التاريخ القادم من جهة الأهرامات، وهي تطاول عنان السماء بهامتها، تحضرني على الخصوص سورة يوسف الصديق وإخوته السبع، وقصته مع زليخا والعزيز والكهنة، مثلما تحضرني قصة النبي موسى بن عمران وما حدث له مع أحد الفراعنة… فيشمخ المكان أمامي بينما أتقزم بالتدريج مثل حلزون يشعر بالخطر: أطلّ من النافذة متهيبا؛ أستشرف صورا ما وصلتني قبل أن أصلها… وصدى موسيقى مسلسل يوسف الصديق الحزينة ترافقني، فتعمق فيّ الشعور بحالة مزدوجة من الأسى والغبطة.

أنتم الآن بالهرم، قال السّائق، وهو يستعد لركن سيارته أمام مقهى شعبي، وأردف: يمكنكم الاستراحة هناك، وشرب قهوة وتدخين الشيشة ريثما تنفتح الأبواب… كان الزوار، من كلّ الأعمار، يصطفّون منذ الصباح الباكر، أمام بوابة الدخول… بينما كان آخرون يهيئون دوابهم وعرباتهم الكوتشي لاستقبال يوم عمل جديد. طلبنا قهوتين وماء، وطلب السائق شايا ونرجيلة، وراح يدخن بشراهة ويتحدث عن مواضيع شتى، وهو يغالب سعالا حادا، فيما كنا نراقبه، أنا وحسن، بإعجاب شديد. وبالرغم من الصباح الباكر، إذ كانت الشمس بالكاد تخرج رأسها من مخبئها الليلي مصدرة سحرا من الضوء، كان المكان الفرعوني الغميس بعبق التاريخ يضج بحركة كثيفة.

دردشنا طويلا قبل أن تنفتح الأبواب، ويزدحم الزوار في المداخل؛ عابرين إلى بساتين التاريخ… هنا عليك أن تنسى ما قرأته دفعة واحدة عن المكان أو تستحضره كما تشاء، لكنّ دون أن تحرم نفسك روعة اكتشاف التاريخ بنفسك كأنك تكتبه للمرة الأولى. نسيتُ التاريخ والجغرافيا المقروءين، بينما كانت العربة تهتز بنا صاعدة طريقا ملتوية صوب الهرم الأكبر الذي يحدق في السماء بشموخ، متحديا قوى الطبيعة والبشر، وفي الجهة المقابلة له ينتصب الهرمان الأصغران يحرسهما تمثال أبي الهول، كأنهما توأمان يتيمان في العراء.

كانت للمكان رائحة ما لم أشتَمّها أبدا في أي مكان آخر.

ترجلنا لنلمس التربة، وجدران الصروح العملاقة، فبدونا ككائنات نملية صغيرة تدب ببطء على ظهر فيل، ركبنا جملين، وعملنا جولة حول الأهرام، وسبحنا بخيالنا في فسحة أم الدنيا، نلتذ بمشاويرها التي لا تنتهي أسحارها.

أنت تدرع التاريخ جيئة وذهابا، فتأمل يا إبراهيم، واستعبر، ولا تفوّت حجَرة ولا تربة، فكل خطوة هنا بألف أثر وربما أكثر… قال لي هاتف غامض.

انتهت رحلتنا للأهرامات، وتمنيناها ألا تنتهي، وسرنا وسار التاريخ معنا، يعدّ السنين والحوادث، وكنا نغالب رغبة في الالتفات خيفة أن تفتضح عيوننا من الفراق… مرّت السويعات سريعا، كأننا لم نصل بعد، ولم نزر بعد المكان، وكأنّنا رأينا وما رأينا. شربنا وما ارتوينا، وبالعكس زاد اشتياقنا وظمأنا للمكان.

وسط البلد

بعد صبيحة الهرم الرائعة، عدنا إلى الفندق. تناولنا غداءنا، واسترحنا قليلا، استعدادا لجولة بوسط المدينة في المساء. كنا نصارع الوقت لنستطيع مسح ما يمكن مسحه بنظرنا من مشاهدات مدينة نعرف مسبقا أن عاما لا يكفي للإحاطة بها. لذلك كله، لم ننم. فسرعان ما دق حسن الباب، طالبا مني أن نشرب قهوة ونغادر، لأنه إذا ما نمنا لن ستيقظ إلا في صباح الغد.

أخدتنا سيارة أجرة إلى وسط البلد، حيث تشتد الحركة، وتكثر الأسواق. كانت المحلات التجارية قد بدأت تفتح أبوابها بالكاد. تمشينا على ضفاف نهر النيل، وعبرنا ميدان التحرير، وصولا إلى شارع طلعت حرب، وما يجاوره. وهناك، لم نفوّت زيارة مقر مكتبتي مدبولي، والشروق، مستعرضين تاريخهما المجيد في نشر المعرفة الجادة، وعند باب المتحف العظيم، حيث تقبع أروع التّحف الإنسانيّة، طالعتني رائحة التاريخ، فاشتدت حساسيتي، ورجعت القهقرى، خوفا من أزمة تنفسية مفاجئة.

تسوقنا بعض الهدايا، وتجولنا طويلا في الساحات نتهجى تاريخا لم تكتبه المؤلفات التاريخية، تاريخا تحتفظ به البنايات والعمران، وتستأثر به الأشْجار والأهْوية وسُحْنات المحلّات، وتجاعيد الجباه. وقبل أن نقفل عائدين أدراجنا إلى الفندق، عقب إحساسنا بالتّعب، شربنا شايا بالزنجبيل لتخفيف الضغط.

زيارة المقامات

قبل أن ننام قليلا، اتفقنا، أنا وحسن، على زيارة المقامات صباحا. وعدٌ قطعناه على أنفسنا نكاية في التعب والنوم. وما كدنا نضع رأسينا على الوسادة حتى استغرنا في نوم يشبه الموت، لم نستيقظ إلا على رنين منبه ساعة الهاتف النقال القوية، وهي تجلجل عند رأسينا في التوقيت نفسه، الساعة السابعة صباحا، وقد بدأت أشعة الشمس تطلّ من النافذة. أخذنا دوشا خفيفا، وارتدينا ملابسنا، وكنا في الموعد المحدد بالمطعم لتناول وجبة الفطور.

كان المطعم فارغا تماما. شربنا قهوة الصباح وتناولنا بعض الحلويات، ثم غادرنا الفندق، لنستقل أو سيّارة أجرة نحو المشهد الحسينيّ. سواقو سيارات الأجرة بالقاهرة يشكلون لوحدهم، عالما من الحكايات… لا يتعبون من الكلام، يتحدثون في كل شيء، ولهم دراية كبيرة بأمور الرياضة والسيّاسة والثقافة والشّعر…

استمتعنا هذا الصّباح، على لسان السائق، بقصائد نادرة لمحمود درويش ونزار قباني، وفدوى طوقان، وسمعنا أغان للشيخ إمام، وفيروز وصباح واسمهان… وعرفنا عن الأمكنة التي نعبرها طيلة الشّارع الملتوي، ما لم يكن يخطر لنا على بال: هنا غنت اسمهان، وهناك ألقى عبد الناصر خطابه، وهنا كان لقاء السادات الأخير بالشعب، وهناك سقطت سيارة اسمهان، وثمة استقبل عبد الناصر تشي غيفارا وووو… لم نحسّ بالطريق، أمام متعة حكيه. ولم ننتبه، إلا وهو يقول لنا: على سلامتكما… ها هو المشهد الحسيني قبالتنا، وغير بعيد من الجهة الاخرى تجدون خان الخليلي، وزقاق المدق… ودّعناه بابتسامة وكلمات شكر، وغصنا في العالم المبهج.

لم نتمش غير قليل، حينما قادتنا خطواتنا الذاهلة صوب باب جامع الحسين، دخلناه معا بعد أن تحررنا من نعلينا، صلينا ركعتين، ثم وقفنا أمام الضريح الحسيني، لنقرأ الفاتحة وأدعية. كالبرق مرّ، أمام أعيني، السيناريو الأليم لاستشهاد السبط النبويّ، لم نتمالك أنفسنا أمام اختلاج المشاعر، فغادرنا مغالبين حزنا مكتوما، اخترقنا الأسواق الشعبية المكتظة بأنواع المنتجات الفلكلورية والسياحية، وبمقهى خان الخليلي، كانت لنا جلسة مع روح الروائي العظيم الفائز بجائزة نوبل للآداب، نجيب محفوظ.

كان الفضاء بسيطا، لكنه كان بالمقابل، مكتظا بشخوص المتخيل الروائي المحفوظي، بزمانه وأمكنته المتحركة، اتخذنا ركنا جانبيا على الزقاق، طلب حسن شايا بالحليب، وطلبت مشروبا طالما حلمت بتذوق طعمه (سحلب)، كان مذاقه يعادل طعم ذكرياتي مع روايات محفوظ، مع العوالم التي نقلها، والتي تشبه رائحتها رائحة هذه الأمكنة، وفيها من خيالها وعبقها الشيء الكثير. أجدني أتحسس أطياف شخصيات وأمكنة تخرج من مخيلتي القرائية، وتهرع إلى هذا العالم في حركات لاإرادية، تنهض من رماد سكونها في الكتب، لتعلق هاهنا في شباك التذكر، وأنا في حضرة القاهري الأول، وروحه التي لطالما جللت الفضاء ببساطتها وعمقها وحضورها الآسر… في نفسي، هناك من ذاك الركن، قرأت الفاتحة على روح محفوظ التي لن ينتكس منها هذا المقهى الذي ظل طيلة حياته، ملهما له، ومجتذبا لذائقته الروائية.

أكملنا جولتنا في زقاق المدق، لنتبرك بجامع الأزهر الشريف، ولنقتني بعض الهدايا التي أثارت إعجابنا ونحن نستعرض بعض منتجات المحلات التجارية المرصوفة طوال الأزقة والشوارع، قبل أن تأخذنا سيارة أجرة لندرك تربة السيدة زينب التي لا تبعد عن خان الخليلي سوى بدقائق، ذكرني مشهدها المثير للخشوع، وأنا أعبر البوابة الخاصة بالرجال، بمشهد ضريح السيد مسعود بن الحسين بأم الرأس أولاد أفرج، حارس القرية الأسطوري، في الطقوس، والمناظر، والممارسات الروحية… مارسنا الطقوس نفسها التي مارسناها بالمشهد الحسيني، صلاة وخشوع ودعاء، ولحظة تأمل قصوى تستفرغ ما بالداخل من أدران وأوحال… هذا حال الدنيا، لا بد من زوال، تغيب فيه الصور لتفسح المجال للذكرى والأثر.

غادرنا هذا العالم المكتظ بالصور والمشاهد والذكريات والأحداث بأجسادنا، بينما ظلت أرواحنا معلقة طويلا بأهدابه المتسامية. كان توقيت نشاطنا بالمعرض الدولي للكتاب يضغط علينا، لذلك، استعجلنا أخذ سيارة أجرة للعودة إلى الفندق، لنتغذى ثم نأخذ الباص إلى المعرض الدولي للكتاب.

المعرض

وجدنا كثيرا من الأصدقاء المغاربة ينتظروننا بالباص، قبل التحرك على الساعة الثانية والنصف زولا إلى ساحة المعرض الدولي. قال رشيد يحياوي إن الطريق يكون مكتظا جدا، ويتطلب منا الوصول إلى هناك ساعة وما يزيد، بالرغم من المسافة القليلة الفاصلة بين الفندق وموقع المعرض بمدينة نصر قريبا من شارع صلاح سالم الذي يعرف خلال هذه الفترة اكتظاظا كبيرا بسبب مغادرة الموظفين والعمال محل عملهم.

وبباب المعرض تفرقنا أيدي سبأ، كل قصد ضالته في هذا الفضاء الشاسع الذي بمجرد ما وطئت تربته أقدامي، عرفت أنه يعادل عشرة أضعاف معرض الدار البيضاء. كان وقت النشاط، يقترب، لذلك فضلنا ألّا نذهب بعيدا عن قاعات العروض، وقاعة ضيف الشرف التي أرشدنا إليها يحياوي الذي زار المعرض مرات متعددة خلال الأيام الفائتة، عرجنا على جناح المجلس الأعلى للثقافة، وجناح المركز القومي للترجمة لاقتناء بعض الإصدارات المهمة التي لا تصل إلى معرض البيضاء، ثم قصدنا قاعة ضيف الشرف، حيث سنكون ضيف نشاط “نقاد متوجون بجائزة كتارا” بحضور حسن المؤذن، وعبد ربه، وزهور كرام، ومن تنشيط محمد الشحات.

استقبلنا هناك مجموعة من الأصدقاء المصريين الذين كنا نعرفهم، في السابق، افتراضيا، من خلال الموقع الاجتماعي فايسبووك، أو واقعيا من خلال اللقاء ببعض الأنشطة العربية بالمغرب أو خارجه مثل هويدا صالح، ونانسي إبراهيم…

كنا مغتبطين بمستوى مشاركة الحاضرين، وأسئلتهم، وتفاعلهم، فلم ينفضِّ اللقاء إلا عند توقيت إغلاق المعرض أبوابه. كان الزملاء والأصحاب الذين جئنا برفقته قد شربتهم شساعة المعرض، وهام كل واحد وراء ضالته… أما نحن فقد حرمتنا المشاركة في النشاط من التجوال الحر في كل أرجاء المعرض: القاص أنيس الرافعي قال لي: إنه لمدة ثلاثة أيام وهو يزور المعرض، ولم يستطع إدراك حتى العشر منه: ساحة واسعة جدا تقاس بالكيلومترات، تكتظ كلها بأروقة العارضين من كل فج عميق… بعض دور النشر لم نسمع بها من قبل. بتنا أشد اقتناعا أنه لا بد من تخصيص وقت آخر لزيارة المعرض، هذا ما قررناه أنا وحسن، ونحن نغادر المعرض في اتجاه البوابة الكبرى.

بالتأكيد لن يحضر الباص بفعل الزحمة التي وصلت ذروتها. كما تنبأ بذلك رشيد يحياوي، لا مجال حتى لتوقيف إحدى سيارات الأجرة، لذلك انتظرنا طويلا أن تتاح لنا فرصة توقف إحداها لمدة وجيزة. أشرنا بيدينا مرة واحدة، لسيارة قادمة تبدو فارغة، توقفت بجانبنا، فاندلعت عاصفة من الصفير من منبهات السارات التي اضطرت للتوقف.

سار التاكسي وسط زحمة خانقة، بسرعة حلزون، السيارة تلو السيارة، وباص يشد بتلابيب باص آخر، حتى أنه يتعذر على الراجلين قطع الطريق، ولحسن الحظ أن هناك سلاسة في العبور، سهلتها مسألة التيسير في قانون السير، ولولا ذلك، لما انفك هذا الزحام، سيارات متعددة الأحجام والألوان، مختلفة الماركات وتواريخ الإصدار… بعضها من الماركات التي لم تعد موجودة بالمغرب.

الأسواق

لا يمكن للزائر أن يقاوم سحر أسواق القاهرة، فهي ممتدة وواسعة، وتستغرق مساحات كبرى تكاد تضل فيها. تتعدد معروضاتها، وتتدرج من حيث الجودة والثمن، لكنها مقارنة مع أسواق المغرب والخليج، تبقى أثمنتها مغرية جدا. لذلك تحس بالأسى لما تتذكر أنه لا يمكنك أن تحمل معك ما تشاء من هاته المعروضات الآسرة.

كان لا بد من اختيار بعض الهدايا للأقارب والأولاد، لذلك، في صباح يومه الاثنين توجهت، هاته المرة وحيدا وبدون حسن الذي فضل الذهاب إلى أسواق القاهرة الجديدة، إلى وسط البلد، وخان الخليلي، وخصوصا ميدان العتبة الذي يعتبر من أكبر الأسواق بالقاهرة، من حيث امتداده، وتنوع سلعه، وجودة أثمانه.

عُدت إلى خان الخليلي، فشربت شايا بالحليب، واسترجعت، من جديد، ما قرأته عن هذا الفضاء الشعبي التاريخي الذي يعمر أكثر من ستمائة سنة، ثم تجولت في السوق، واقتنيت ما قدرت عليه من هدايا. وقبل أن أغادر المكان المشبع بطقوس غميسة، تناولت وجبة غذاء شعبية، سمين، وفرخ حمام، وسلاطة بلسان عصفور، منهيا بحلوى البسبوسة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى