فى كل مرة يعطينى كتابا جديدا ويكلفنى بقراءته بوعى واهتمام ومعرفة ما بداخله ..! وفى اليوم التالى يعقد لى امتحانا يسألنى عدة أسئلة لا أستطيع الإجابة على شىء منها ! ولا يمل من تكرار ذلك .. ولا توجد لدى استجابة .. أو رغبة فى تحقيق أمنيته .
كان مهتما بى أكثر من اهتمامه ببقية الطلاب، كان يتصفح كراساتى ودفاترى بطريقة تزعجنى .. فكان دائم النظر والفحص فى كل ما أكتبه، ولم يكن يعجبه صغر خطى فى الكتابة .. كنت أشعر بذلك .. كانت عيونه تراقبنى .. وتراقب تصرفاتى .. وكان يتدخل فورا قبل أن أتمادى فى العراك مع رفيقى كلما حدث ذلك .
فى كل مرة يلقى فيها درسا جديدا أكون أول من يُفحص مدى استيعابه وقدرته فى التطبيق للقاعدة التى يحتويها الدرس .. كنت أشعر بالضيق أحيانا .. كأنى الوحيد هنا .. دائما يأتى بكتب غير الكتب الدراسية المقررة علينا ويخصنى أكثر من زملائى بالإطلاع عليها أثناء حصة المطالعة الحرة .. ويناقشنى ويسألنى .. وكأنه أمام شخص كبير .. ولا حيلة أمامى فى الهروب من ذلك .
الأستاذ محمد السويسى مدرس اللغة العربية ورائد الفصل والمسئول عنه ، يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما، يتمتع بروح طيبة وصدر رحيب، لايعاقب المخطىء من أول مرة، وإذا حدث لايكون عقابه أليما ولا قاسيا ، الطلاب ذكورا وإناثا يحبونه .. الجميع يقبل عليه فى حب وود كبيرين.. لا يترك الفصل إلا فى حصص الموسيقى، والتربية الرياضية، والتربية الفنية، والزراعة، والمجالات .. ولم نكن نعرف لماذا لايؤديها .. كما يؤدى بقية الحصص.. فهو يعرف كل شىء.. ويستطيع تدريس كل المواد .
زار المدير الفصل يسأل عن أحوالنا ويناقشنا فى بعض الدروس التى تلقيناها .. سأله أحدنا قائلا : لما لايحضر الأستاذ محمد حصة الموسيقى والألعاب ..؟
وسألته زميلة : حصة المجالات والأشغال تعطيها الأبلة نعيمة .. ما السبب؟؟
ضحك المدير .. قائلا : الأستاذ محمد مشغول فى حصص أخرى لزملاء أخرين لكم .. وهو ليس متخصصا فى المجالات والأشغال وبقية الأنشطة المدرسية .. إنه مدرس مادة .. لم نفهم كثيرا مما ذكره المدير .. لكننا شعرنا براحة عندما تحدثنا عن الأستاذ محمد .
أعطانى الأستاذ محمد السويسى كتابا صغيرا مكتوبا فى صدر غلافه " ألف ليلة وليلة " مجموعة قصص من التراث، لا أذكر مؤلفها .. فقط ما أذكره هو الرسومات التى تزين الغلاف .. والتى أعجبنى فيها شكل الرجل الذى يشبه الملك .. عرفت صفته هذه فيما بعد بعدة سنوات ليست طويلة .. الرجل يجلس متكئا على مقاعد تشبه الأَسِرة .. ومن حوله يقف مجموعة من الناس شبه عرايا .. لايوجد إلا ما يستر عوراتهم .
.. كنت أحب الرسم .. ولا أجيده .. وأعشق الموسيقى ولا أعرف أسماء الآلات والمعزوفات .. وأحب القراءة .. ولا أستطيع الصبر عليها .. حتى رياضتى المفضلة كنت أؤديها واقفا .. رغم قلة وزنى ..!! عكس قانونها الذى يحتم الجرى والقفز ومتابعة المنافسين واستخلاص الكرة من بين أرجلهم .. كنت أشكل عبئا على فريقى .. رغم إحرازى للأهداف فى كل مرة .. هكذا كنت أبدو فى المرحلة الأولى .. لاحيلة لى فيما أحب .. ولاطاقة لى فى الرفض والقبول، ولاطريق أمامى سوى متابعة مايحدث وتنفيذ كل شىء بدقة حتى أحوز إعجاب الجميع .
قال الأستاذ : غدا ستقف وسط زملائك توضح لهم ما قرأت .. إياك من الكسل .. وإياك من النسيان، وإياك من اختلاق الأعذار .. قلت فى نفسى فى لحظتها : .. غدا .. لن أحضر إلى المدرسة، بادرنى قائلا : وإياك من الغياب .. سأرسل عم جمعة .. يأتى بك محمولا .. وستعاقب عقابا أليما يا شاطر .. أحسست بالجدية فى كلامه .. فلن تشفع لى القرابة التى بيننا، ولن يشفع لى أى شىء.. لكن كيف أقرأ هذا الكتاب مرة واحدة .. وكيف أعرف كل ما فيه وأقصه فى مرة واحدة .. كنت فى السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية .. وكانت القراءة ثقيلة جدا .. وكنت لا أفهم بعض الكلمات ولا أعرف معانيها .
فى اليوم التالى جئت إلى المدرسة حذرا خائفا أترقب .. ليس من بطش الأستاذ ولكن من وقوفى أمام الطلاب عاجزا لا أستطيع قول شىء .. وترقبت الأستاذ محمد .. كان كعادته ينتشر فى كل مكان .. ويراقب كل شىء يحدث فى المدرسة بداية من طابور الصباح حتى نهاية اليوم، لايهدأ له بال حتى يقف عند كل صغيرة وكبيرة .. من خرج من فصله، أو جاء متأخرا، أو توجه ناحية الحمامات ومكث بها أكثر من الوقت المحدد لذلك، وحتى ونحن داخل الفصول، نشعر أنه له عيونا وأذانا غير التى نرى ونسمع بهما .. يستطيع أن يرصد كل حركة وفعل دون عناء أو مشقة .. هكذا كنت أراه .. وكنت أراقبه وأخشاه ..، ودائما ما سألت نفسى لماذا لايحب الأستاذ محمد اللعب مثلنا..؟
لماذا يحب المدرسة هكذا أكثر من الجميع..؟؟
لم تكن لدى إجابات كافية ..!!
كان خوفى يتبدد أمام زملائى .. ومن سأقف أمامهم شيئا فشيئا ولا أدرى لماذا ..؟
هل السبب فى ذلك هى عاطفة الأستاذ محمد .. التى أشعر بها تسبق غضبه من ناحيتى ومن ناحية الجميع، أم أننى استطعت أن أقف على شىء مما يحتويه هذا الكتاب لا أدرى ؟؟
ما كنت أثق فيه هو أننى أعرف مدى حب الأستاذ محمد لى.. وكنت واثقا من لطفه وحسن تدبيره فى مثل هذه المواقف .. كنت قد نظرت فى الكتاب كثيرا .. فى مرات متفاوتة .. مرة أقرأ ومرات عديدة أستنطق بفطرة غريبة الصور والرسومات التى يتزين بها الكتاب .
حاولت قراءة ما بداخله .. لم أجد صعوبة فى التصفح وفى معرفة الأفكار .. لكن جمال الرسومات وروعة الصور الداخلية استوقفتنى كثيرا .. وانشغلت بها أكثر من انشغالى بسياق القصص وماتحتويه من حكايات ونوادر .. ولا أعرف كيف انصهرت الرسومات والأفكار فى عقلى ..؟؟ ولا أعرف متى حدث ذلك..؟
فلم أتعمد شيئا من هذا القبيل .. عندما سألنى الأستاذ محمد .. كانت الرسمة الأولى تتقافز أمام عينى فكنت أقصها وأسرد ما يمكن أن ترمز له، وكانت طريقتى تتفق مع الفكرة التى يقصها الكتاب، وهكذا توالت الرسومات والأفكار .. وتوالى الحديث الذى بهرنى أنا شخصيا، لم أكن أصدق أننى المتحدث، ولم أكن أعلم أننى أستطيع التعبير هكذا دون عناء يذكر .. وتوالى مع كل مرحلة أنتهى منها إعجاب الأستاذ محمد .. حتى أمر الطلاب بالوقوف والتصفيق .. إلى أن أنتهت أحداث قصة .. ألف .. ليلة وليلة .
انتهت ..
د. نادرعبدالخالق
كان مهتما بى أكثر من اهتمامه ببقية الطلاب، كان يتصفح كراساتى ودفاترى بطريقة تزعجنى .. فكان دائم النظر والفحص فى كل ما أكتبه، ولم يكن يعجبه صغر خطى فى الكتابة .. كنت أشعر بذلك .. كانت عيونه تراقبنى .. وتراقب تصرفاتى .. وكان يتدخل فورا قبل أن أتمادى فى العراك مع رفيقى كلما حدث ذلك .
فى كل مرة يلقى فيها درسا جديدا أكون أول من يُفحص مدى استيعابه وقدرته فى التطبيق للقاعدة التى يحتويها الدرس .. كنت أشعر بالضيق أحيانا .. كأنى الوحيد هنا .. دائما يأتى بكتب غير الكتب الدراسية المقررة علينا ويخصنى أكثر من زملائى بالإطلاع عليها أثناء حصة المطالعة الحرة .. ويناقشنى ويسألنى .. وكأنه أمام شخص كبير .. ولا حيلة أمامى فى الهروب من ذلك .
الأستاذ محمد السويسى مدرس اللغة العربية ورائد الفصل والمسئول عنه ، يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما، يتمتع بروح طيبة وصدر رحيب، لايعاقب المخطىء من أول مرة، وإذا حدث لايكون عقابه أليما ولا قاسيا ، الطلاب ذكورا وإناثا يحبونه .. الجميع يقبل عليه فى حب وود كبيرين.. لا يترك الفصل إلا فى حصص الموسيقى، والتربية الرياضية، والتربية الفنية، والزراعة، والمجالات .. ولم نكن نعرف لماذا لايؤديها .. كما يؤدى بقية الحصص.. فهو يعرف كل شىء.. ويستطيع تدريس كل المواد .
زار المدير الفصل يسأل عن أحوالنا ويناقشنا فى بعض الدروس التى تلقيناها .. سأله أحدنا قائلا : لما لايحضر الأستاذ محمد حصة الموسيقى والألعاب ..؟
وسألته زميلة : حصة المجالات والأشغال تعطيها الأبلة نعيمة .. ما السبب؟؟
ضحك المدير .. قائلا : الأستاذ محمد مشغول فى حصص أخرى لزملاء أخرين لكم .. وهو ليس متخصصا فى المجالات والأشغال وبقية الأنشطة المدرسية .. إنه مدرس مادة .. لم نفهم كثيرا مما ذكره المدير .. لكننا شعرنا براحة عندما تحدثنا عن الأستاذ محمد .
أعطانى الأستاذ محمد السويسى كتابا صغيرا مكتوبا فى صدر غلافه " ألف ليلة وليلة " مجموعة قصص من التراث، لا أذكر مؤلفها .. فقط ما أذكره هو الرسومات التى تزين الغلاف .. والتى أعجبنى فيها شكل الرجل الذى يشبه الملك .. عرفت صفته هذه فيما بعد بعدة سنوات ليست طويلة .. الرجل يجلس متكئا على مقاعد تشبه الأَسِرة .. ومن حوله يقف مجموعة من الناس شبه عرايا .. لايوجد إلا ما يستر عوراتهم .
.. كنت أحب الرسم .. ولا أجيده .. وأعشق الموسيقى ولا أعرف أسماء الآلات والمعزوفات .. وأحب القراءة .. ولا أستطيع الصبر عليها .. حتى رياضتى المفضلة كنت أؤديها واقفا .. رغم قلة وزنى ..!! عكس قانونها الذى يحتم الجرى والقفز ومتابعة المنافسين واستخلاص الكرة من بين أرجلهم .. كنت أشكل عبئا على فريقى .. رغم إحرازى للأهداف فى كل مرة .. هكذا كنت أبدو فى المرحلة الأولى .. لاحيلة لى فيما أحب .. ولاطاقة لى فى الرفض والقبول، ولاطريق أمامى سوى متابعة مايحدث وتنفيذ كل شىء بدقة حتى أحوز إعجاب الجميع .
قال الأستاذ : غدا ستقف وسط زملائك توضح لهم ما قرأت .. إياك من الكسل .. وإياك من النسيان، وإياك من اختلاق الأعذار .. قلت فى نفسى فى لحظتها : .. غدا .. لن أحضر إلى المدرسة، بادرنى قائلا : وإياك من الغياب .. سأرسل عم جمعة .. يأتى بك محمولا .. وستعاقب عقابا أليما يا شاطر .. أحسست بالجدية فى كلامه .. فلن تشفع لى القرابة التى بيننا، ولن يشفع لى أى شىء.. لكن كيف أقرأ هذا الكتاب مرة واحدة .. وكيف أعرف كل ما فيه وأقصه فى مرة واحدة .. كنت فى السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية .. وكانت القراءة ثقيلة جدا .. وكنت لا أفهم بعض الكلمات ولا أعرف معانيها .
فى اليوم التالى جئت إلى المدرسة حذرا خائفا أترقب .. ليس من بطش الأستاذ ولكن من وقوفى أمام الطلاب عاجزا لا أستطيع قول شىء .. وترقبت الأستاذ محمد .. كان كعادته ينتشر فى كل مكان .. ويراقب كل شىء يحدث فى المدرسة بداية من طابور الصباح حتى نهاية اليوم، لايهدأ له بال حتى يقف عند كل صغيرة وكبيرة .. من خرج من فصله، أو جاء متأخرا، أو توجه ناحية الحمامات ومكث بها أكثر من الوقت المحدد لذلك، وحتى ونحن داخل الفصول، نشعر أنه له عيونا وأذانا غير التى نرى ونسمع بهما .. يستطيع أن يرصد كل حركة وفعل دون عناء أو مشقة .. هكذا كنت أراه .. وكنت أراقبه وأخشاه ..، ودائما ما سألت نفسى لماذا لايحب الأستاذ محمد اللعب مثلنا..؟
لماذا يحب المدرسة هكذا أكثر من الجميع..؟؟
لم تكن لدى إجابات كافية ..!!
كان خوفى يتبدد أمام زملائى .. ومن سأقف أمامهم شيئا فشيئا ولا أدرى لماذا ..؟
هل السبب فى ذلك هى عاطفة الأستاذ محمد .. التى أشعر بها تسبق غضبه من ناحيتى ومن ناحية الجميع، أم أننى استطعت أن أقف على شىء مما يحتويه هذا الكتاب لا أدرى ؟؟
ما كنت أثق فيه هو أننى أعرف مدى حب الأستاذ محمد لى.. وكنت واثقا من لطفه وحسن تدبيره فى مثل هذه المواقف .. كنت قد نظرت فى الكتاب كثيرا .. فى مرات متفاوتة .. مرة أقرأ ومرات عديدة أستنطق بفطرة غريبة الصور والرسومات التى يتزين بها الكتاب .
حاولت قراءة ما بداخله .. لم أجد صعوبة فى التصفح وفى معرفة الأفكار .. لكن جمال الرسومات وروعة الصور الداخلية استوقفتنى كثيرا .. وانشغلت بها أكثر من انشغالى بسياق القصص وماتحتويه من حكايات ونوادر .. ولا أعرف كيف انصهرت الرسومات والأفكار فى عقلى ..؟؟ ولا أعرف متى حدث ذلك..؟
فلم أتعمد شيئا من هذا القبيل .. عندما سألنى الأستاذ محمد .. كانت الرسمة الأولى تتقافز أمام عينى فكنت أقصها وأسرد ما يمكن أن ترمز له، وكانت طريقتى تتفق مع الفكرة التى يقصها الكتاب، وهكذا توالت الرسومات والأفكار .. وتوالى الحديث الذى بهرنى أنا شخصيا، لم أكن أصدق أننى المتحدث، ولم أكن أعلم أننى أستطيع التعبير هكذا دون عناء يذكر .. وتوالى مع كل مرحلة أنتهى منها إعجاب الأستاذ محمد .. حتى أمر الطلاب بالوقوف والتصفيق .. إلى أن أنتهت أحداث قصة .. ألف .. ليلة وليلة .
انتهت ..
د. نادرعبدالخالق