لطالما شعرت في قرارة نفسي أني من سلالة الطيور ، لم تمنعني مسافة عن الوصول إلى الطريق الذي أريده، ولم أُحبَس من قبل في قفص لأني لا أعرف الحدود، لقد خُلقت لي السماوات العريضة، وبُسطت الأرض تحتي، لذا تعددت أسفاري إلى معظم بلاد العالم. حياتي صاخبة، أعيش بلا احتراز من أي شئ، لا أشعر بالأسف أو الندم ولا بالخوف، ولم أتذكر الموت يوماً في حياتي.
أما الآن بعدما اسقطتني رصاصة المرض، وأصبت بهذا الوباء التاجي الجديد المسمى بالكورونا فقد أصبحت "مكسور الجناح" أحاول الرفرفة من دون جدوى في غرفة العزل، وأبحث في تلك التجربة الأليمة عن طوق نجاة.
أكمم بجناحي المكسور صوت السعال، وادليه من النافذة التي تطل على الشجرة الوحيدة مثلي، تلك التي تقف في الممر بلا أنيس ولا جليس. أشاهد طاقم التمريض والأطباء في بزّات العزل الواقية وهم يمرون بجوارها مصطحبين حالة جديدة يبدو عليها الاعياء مثلما أُحضِرتُ أنا إلى هنا أول يوم، وسط حالة من الوجل الشديد، والحذر الشديد، و الاحترافية الطبية الفائقة والمحترزة في التعامل مع هذا الوباء الغامض الفتاك.
شعرت بالأسى على رفيق المرض الجديد وبالشفقة على زمرة الملائكة هؤلاء الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى دروع بشرية تحيط بالمصابين، وتنقطع معنا عن الحياة خارج أسوار مستشفيات العزل ، نومهم غفوات، و أعينهم ساهدة من العمل المتواصل الذي يسير على قدم وساق في كل ثكنة طبية في العالم.
"نقطة ومن أول السطر"
قرأت هذه الجملة كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعي لكني لم أجدها ذات معنى سوى اليوم، لقد تجمدت الحياة الطبيعية عند نقطة، وبدأت حياة أخرى واخزة، نتقلب فيها على سرير الخوف، ونضع الرؤوس على وسائد القلق، طال الليل وشب، ودار الألم علينا فيه كعسكري مناوب.
لم أعد أقوَ على الوقوف طويلاً؛ سحبت الكرسي البلاستيكي وجلست قرب النافذة أتذكر كيف بدأ الأمر معي، بعطسة راكب على متن الطائرة خلال عودتي من رحلة استجمامية رائعة في شرق آسيا.
سمعت بعدها آخر يقول: "يرحمكم الله".
فيرد العاطس على الذي يشمته قائلاً: "يرحمنا ويرحمكم".
لم يكن الاحتراز الدولي من الوباء قد بدأ فعلياً، كانت رحلتي هي آخر رحلات الطيران الجوي غير الاحترازي، وفي الصباح كانت منصات التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية والأخبار جميعها تعلن أن الوباء قد تخطى حدوده وكشر للبشرية عن أنيابه.
بالنسبة لي كان الوقت قد فات، وأصبت من العاطس انا والذي شمته وكل ركاب الدرجة الأولى بتلك الرحلة المشئومة، هذا بخلاف المضيفات والطيار.
لمّا بدأت حالتي في التدهور انقطع عني الجميع، حتى أقرب الناس لي، مهمة حصولي على احتياجاتي اليومية أصبحت مهمة مستحيلة بعد انتشار خبر اصابتي بين من يعرفونني، لجأت لصفحات الفيسبوك اتابع مبادرات دعم المصابين كي احصل على وجبة منزلية ملائمة لمن هم مثلي، ساءت حالتي النفسية أكثر فأكثر حين سمعت أخباراً كانت تبدو قبلاً من رابع المستحيلات..
ابنٌ يمتنع عن استلام جثمان أمه التي توفيت بالكورونا، وقرى تتصدى لجثامين شهداء الواجب من الأطباء والممرضات بعدما سقطوا في أرض المعركة وهم يحاربون من أجلهم تلك الجائحة الشرسة، بعض دول العالم تتخلى عن كبار السن عقب خروج الوباء عن السيطرة وتخبرهم ان يواجهوا مصائرهم في بيوتهم، أخبار أخرى كانت على النقيض تماماً غاية في الرحمة و الإنسانية، تعجبت كيف أصبح الغرباء أقارب وكيف صار الأقارب غرباء..!
الإنسانية انقسمت إلى قسمين متضادين، أبيض واسود، مضئ ومظلم، كأنها ضُربت بزلزال عنيف شقها فاهرج اثقالها، إنه الجنون بعينه!
أتابع بهستيريا يومية عدد المصابين الذين يسقطون من المرض وأخبار الأصحاء الذين يسقطون من التمريض مثلما كنت اتابع حظك اليوم.
انضممت لجروبات الدعاء والتبتل، وأصبحت أتضرع كبلايين البشر لإيجاد مصل شافٍ، أو حدوث معجزة من السماء حتى غالبني اليأس؛ فقاطعت الجميع وتقوقعت داخل نفسي، اظلتني سحابة من الكآبة امطرتني بأفكار سوداء انتهت بدخولي هنا كما تدخل الأفيال مأواها الأخير عندما تشعر بقرب موتها أو بالإنهاك، وانا منهك جداً من المرض ومن حقيقة الناس التي كشفها الوباء.
والآن أحاول استكشاف نفسي والعالم بمنظار جديد..
من انا..؟
ماذا أريد؟
ما الموت؟ كيف استعد له؟
وإذا جاء كيف استقبله على نحو لائق؟
والأهم من كل هذا.. ما الحياة؟
و كيف استبدل حياتي القلقة اليائسة بحياة أخرى مستقرة ومشرقة وسعيدة..؟
كلها تساؤلات فكرت فيها وتركت للأيام مهمة الإجابة عليها.
ذات يوم كتبت على حسابي الخاص..
أصبحتُ كالمخيط في محيط الحياة..
لا يعلق بي شئ ولا يتعلق..
ممتلئ بالطعم المعدني..
ومحاط بالملح والماء والمطهرات..
فجاءتني رسالة صوتية من صديق على الماسينجر يسألني فيها عن حالتي، كان السعال يقطع انفاسي وحرارتي لا تثبت على حال؛ فكتبت له..
يا صديقي..
أنا منطفئ أكثر من اللازم
الضوء شارد عن عيني،
و قناديل قلبي خاوية؛
في الوحدة لا زيت ولا فتيل
؛ هل لديكم نجوماً في السماء؛
لاني لا أراها من شرفتي..؟!
فرد عليّ في رسالة أخرى يقول:
أيها المغامر ..
"أرني قوتك، وعش يوماً جديداً لتقاتل"
ترددت قليلاً ثم نقرت الأزرار وكتبت له..
"أعدك اني سأحاول".
تذكرت ما رأيته في رحلتي الأخيرة، يقولون ان في السفر سبع فوائد، سأحاول أن انتفع ولو بفائدة واحدة من تلك الأسفار الكثيرة.
مارست تمارين التأمل التي تعلمتها في شرق آسيا؛ فقضيت ساعات طويلة اتأمل تلك الشجرة أمام شرفتي التي كنت أظنها وحيدة، وجدت قطاً كسولاً اعتاد أن يستظل بها، كلما انتصفت الشمس في السماء يتمدد ثم يروح في غفوة هانئة، لطالما ساعدتني متابعته على النوم، و عصفوراً يخرج منها كل الصباح ولا يعود الا عند المغيب، اعتدت أن اترقب مواعيد خروجه وعودته، فأقلق حين يتأخر، وتغمرتي السعادة عندما اتلصص عليه من خلف زجاج نافذتي؛ فأجده ينقر فتات الخبز الذي تركته له على سورها.
ارتفعت حرارتي في إحدى الليالي، فطار إلى شرفتي، ووقف على ساقيه الهزيلتان يتأملني ليفهم سبب غيابي عنه، ثم بدأ يحرك رأسه من حين لآخر ويرفع جناحيه دون أن يطير كأنه يحثني على النهوض، اشفقت على جهده الذي يبذله من أجلي، فتحاملت وقمت من سريري أسير نحوه ببطء، فطار لمسافة أبعد كي استمر في المضي نحوه، ولما رآني أفعل حلّق في دوائر قبالتي، وملأ بتغريده الفضاء الرحب، يومها سميته "ويلسون" فلقد كان بالنسبة لي بمثابة الرفيق الذي يذكرني بنفسي ويؤكد لي وجودي كما كانت الكرة الطائرة رفيقاً ضرورياً لتشاك نولاند - توم هانكس في فيلم (منبوذ - Cast Away).
في الصباح التالي وضعت صورتي وأنا أبتسم على حسابي الخاص وكتبت..
"شكرا لمن يركلون شموس الأمل في شبَاكنا كل صباح؛ فنفوز على الحزن بهدف أكيد" .
بعدها دخلت السعادة عليّ بدلاً من الخوف، و عبرتُ ساعات الألم بخفة، كانت الضحكات بفمي تتحدى السأم، وأسكت صوت الموسيقى التي أعتد سماعها الأنين.
عموماً قد تحسن شعوري، وتضاعف تقديري للوقت بعدما كان الزمن بلا ثمن بالنسبة لي، أصبحتُ الآن لا أملك ما هو أغلى منه. فكرت ان أستغل الوقت الطويل في تعلم شيئ جديد؛ فبدأت أتدرب على فن موازنة الصخور و هو فن يعتمد على موازنة الأشياء دون استخدام مواد لاصقة أو أسلاك أو دعامات، شاهدته في رحلتي إلى تايلاند.
بدأت أجلب مقاطع من اليوتيوب لأتدرب عليه بشكل أفضل، وتعلمت الطرق الكلاسيكية والحديثة لتكديس الصخور، و موازنة الثقل.
بالطبع لم يكن لدي أي صخور طبيعية في غرفتي المعزولة لكنني بدأت تطبيق ما تعلمته على الأشياء، فحولت علب الدواء، وقطع الصابون، وزجاجات المطهر، وفرشاة الأسنان، وأدوات المائدة البلاستيكية ، إلى قطع مفضلة أتدرب بها على مهارتي الجديدة.
لم يكن الفعل سهلاً كالكلام بل يحتاج إلى الكثير من الصبر والكثير الكثير من الاحساس، أحيانا كنت اغمض عيني لأبحث عن مركز ثقل القطعة التي أحاول موازنتها، وقد يمتد الوقت بي لساعات، لكني وجدت في الأمر متعة وشعوراً متجدداً بالنجاح والانتصار.
في جلسات التأمل فكرت أن ما أفعله وأتدرب عليه حالياً يشبه ما يجب أن أفعله وأقوم به في الحياة، يجب علي أن أبحث عن مركز الثقل في الناس من حولي كي أتوازن معهم، وأن تحلى بالصبر لأحقق ما أصبو إليه، والا أتوقع الكثير ممن لم أتعامل معهم عن قرب.
لما تكشفت تلك الحقيقة لي، شعرت بالخجل من نفسي حين سخرت من المعلم العجوز الذي كان يدرب فوحي السياحي على هذا الفن، وكيف كان صبورا معي وحكيماً إلى درجة كبيرة حين ابتسم وقال بلغته التي طلب من مرشد الفوج أن يترجمها لي..
"يا بني ابحث لنفسك عن نقطة توازن ".
كانت جملة عميقة يصعب على أمثالي ساعتها فهمها.
لو كتب الله لي السلامة سأعود إلى هناك وأتعلم على يديه فنون الحياة.
نجحت أخيراً في صناعة هيكل يمتد في الفراغ على شكل قوس يشبه الجسور الحجرية القديمة، وتحسنت حالتي الصحية كثيراً.
وأخيراً جاءت نتيجة المسحة سلبية، فكتب لي الطبيب اذناً بالخروج، فاجأني طاقم التمريض باحتفال رمزي حتى أنهم التقوا معي صورا قاموا بنشرها على حساباتهم الخاصة وفوقها كلمات تشجيعية مثل.. "الأمل، و الانتصار وكلمات أخرى تعبر عن فوز البشرية في إحدى معاركها مع المرض..
في يومي الأول من حياتي الجديدة أصبحت شخصاً
معافاً في بدنه، وفي نفسه على حد سواء، سامحت الجميع ووجدت لهم العذر، والأهم من ذلك اني وجدت الإجابة على تساؤلات الكثيرة التي أرقتني.
ذهبت للشجرة ورحتُ أتأمل "ويلسون"عن قرب، ملّست على ظهر القط الكسول، كنت ممتناً لما فعلوه من أجلي، نظرت لنافذة غرفتي؛ فوجدت فيها مصاباً جديداً أوصيتهم به، و لوحت له بعلامة النصر القريب، فابتسم.
د. يمان الزيات
أما الآن بعدما اسقطتني رصاصة المرض، وأصبت بهذا الوباء التاجي الجديد المسمى بالكورونا فقد أصبحت "مكسور الجناح" أحاول الرفرفة من دون جدوى في غرفة العزل، وأبحث في تلك التجربة الأليمة عن طوق نجاة.
أكمم بجناحي المكسور صوت السعال، وادليه من النافذة التي تطل على الشجرة الوحيدة مثلي، تلك التي تقف في الممر بلا أنيس ولا جليس. أشاهد طاقم التمريض والأطباء في بزّات العزل الواقية وهم يمرون بجوارها مصطحبين حالة جديدة يبدو عليها الاعياء مثلما أُحضِرتُ أنا إلى هنا أول يوم، وسط حالة من الوجل الشديد، والحذر الشديد، و الاحترافية الطبية الفائقة والمحترزة في التعامل مع هذا الوباء الغامض الفتاك.
شعرت بالأسى على رفيق المرض الجديد وبالشفقة على زمرة الملائكة هؤلاء الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى دروع بشرية تحيط بالمصابين، وتنقطع معنا عن الحياة خارج أسوار مستشفيات العزل ، نومهم غفوات، و أعينهم ساهدة من العمل المتواصل الذي يسير على قدم وساق في كل ثكنة طبية في العالم.
"نقطة ومن أول السطر"
قرأت هذه الجملة كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعي لكني لم أجدها ذات معنى سوى اليوم، لقد تجمدت الحياة الطبيعية عند نقطة، وبدأت حياة أخرى واخزة، نتقلب فيها على سرير الخوف، ونضع الرؤوس على وسائد القلق، طال الليل وشب، ودار الألم علينا فيه كعسكري مناوب.
لم أعد أقوَ على الوقوف طويلاً؛ سحبت الكرسي البلاستيكي وجلست قرب النافذة أتذكر كيف بدأ الأمر معي، بعطسة راكب على متن الطائرة خلال عودتي من رحلة استجمامية رائعة في شرق آسيا.
سمعت بعدها آخر يقول: "يرحمكم الله".
فيرد العاطس على الذي يشمته قائلاً: "يرحمنا ويرحمكم".
لم يكن الاحتراز الدولي من الوباء قد بدأ فعلياً، كانت رحلتي هي آخر رحلات الطيران الجوي غير الاحترازي، وفي الصباح كانت منصات التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية والأخبار جميعها تعلن أن الوباء قد تخطى حدوده وكشر للبشرية عن أنيابه.
بالنسبة لي كان الوقت قد فات، وأصبت من العاطس انا والذي شمته وكل ركاب الدرجة الأولى بتلك الرحلة المشئومة، هذا بخلاف المضيفات والطيار.
لمّا بدأت حالتي في التدهور انقطع عني الجميع، حتى أقرب الناس لي، مهمة حصولي على احتياجاتي اليومية أصبحت مهمة مستحيلة بعد انتشار خبر اصابتي بين من يعرفونني، لجأت لصفحات الفيسبوك اتابع مبادرات دعم المصابين كي احصل على وجبة منزلية ملائمة لمن هم مثلي، ساءت حالتي النفسية أكثر فأكثر حين سمعت أخباراً كانت تبدو قبلاً من رابع المستحيلات..
ابنٌ يمتنع عن استلام جثمان أمه التي توفيت بالكورونا، وقرى تتصدى لجثامين شهداء الواجب من الأطباء والممرضات بعدما سقطوا في أرض المعركة وهم يحاربون من أجلهم تلك الجائحة الشرسة، بعض دول العالم تتخلى عن كبار السن عقب خروج الوباء عن السيطرة وتخبرهم ان يواجهوا مصائرهم في بيوتهم، أخبار أخرى كانت على النقيض تماماً غاية في الرحمة و الإنسانية، تعجبت كيف أصبح الغرباء أقارب وكيف صار الأقارب غرباء..!
الإنسانية انقسمت إلى قسمين متضادين، أبيض واسود، مضئ ومظلم، كأنها ضُربت بزلزال عنيف شقها فاهرج اثقالها، إنه الجنون بعينه!
أتابع بهستيريا يومية عدد المصابين الذين يسقطون من المرض وأخبار الأصحاء الذين يسقطون من التمريض مثلما كنت اتابع حظك اليوم.
انضممت لجروبات الدعاء والتبتل، وأصبحت أتضرع كبلايين البشر لإيجاد مصل شافٍ، أو حدوث معجزة من السماء حتى غالبني اليأس؛ فقاطعت الجميع وتقوقعت داخل نفسي، اظلتني سحابة من الكآبة امطرتني بأفكار سوداء انتهت بدخولي هنا كما تدخل الأفيال مأواها الأخير عندما تشعر بقرب موتها أو بالإنهاك، وانا منهك جداً من المرض ومن حقيقة الناس التي كشفها الوباء.
والآن أحاول استكشاف نفسي والعالم بمنظار جديد..
من انا..؟
ماذا أريد؟
ما الموت؟ كيف استعد له؟
وإذا جاء كيف استقبله على نحو لائق؟
والأهم من كل هذا.. ما الحياة؟
و كيف استبدل حياتي القلقة اليائسة بحياة أخرى مستقرة ومشرقة وسعيدة..؟
كلها تساؤلات فكرت فيها وتركت للأيام مهمة الإجابة عليها.
ذات يوم كتبت على حسابي الخاص..
أصبحتُ كالمخيط في محيط الحياة..
لا يعلق بي شئ ولا يتعلق..
ممتلئ بالطعم المعدني..
ومحاط بالملح والماء والمطهرات..
فجاءتني رسالة صوتية من صديق على الماسينجر يسألني فيها عن حالتي، كان السعال يقطع انفاسي وحرارتي لا تثبت على حال؛ فكتبت له..
يا صديقي..
أنا منطفئ أكثر من اللازم
الضوء شارد عن عيني،
و قناديل قلبي خاوية؛
في الوحدة لا زيت ولا فتيل
؛ هل لديكم نجوماً في السماء؛
لاني لا أراها من شرفتي..؟!
فرد عليّ في رسالة أخرى يقول:
أيها المغامر ..
"أرني قوتك، وعش يوماً جديداً لتقاتل"
ترددت قليلاً ثم نقرت الأزرار وكتبت له..
"أعدك اني سأحاول".
تذكرت ما رأيته في رحلتي الأخيرة، يقولون ان في السفر سبع فوائد، سأحاول أن انتفع ولو بفائدة واحدة من تلك الأسفار الكثيرة.
مارست تمارين التأمل التي تعلمتها في شرق آسيا؛ فقضيت ساعات طويلة اتأمل تلك الشجرة أمام شرفتي التي كنت أظنها وحيدة، وجدت قطاً كسولاً اعتاد أن يستظل بها، كلما انتصفت الشمس في السماء يتمدد ثم يروح في غفوة هانئة، لطالما ساعدتني متابعته على النوم، و عصفوراً يخرج منها كل الصباح ولا يعود الا عند المغيب، اعتدت أن اترقب مواعيد خروجه وعودته، فأقلق حين يتأخر، وتغمرتي السعادة عندما اتلصص عليه من خلف زجاج نافذتي؛ فأجده ينقر فتات الخبز الذي تركته له على سورها.
ارتفعت حرارتي في إحدى الليالي، فطار إلى شرفتي، ووقف على ساقيه الهزيلتان يتأملني ليفهم سبب غيابي عنه، ثم بدأ يحرك رأسه من حين لآخر ويرفع جناحيه دون أن يطير كأنه يحثني على النهوض، اشفقت على جهده الذي يبذله من أجلي، فتحاملت وقمت من سريري أسير نحوه ببطء، فطار لمسافة أبعد كي استمر في المضي نحوه، ولما رآني أفعل حلّق في دوائر قبالتي، وملأ بتغريده الفضاء الرحب، يومها سميته "ويلسون" فلقد كان بالنسبة لي بمثابة الرفيق الذي يذكرني بنفسي ويؤكد لي وجودي كما كانت الكرة الطائرة رفيقاً ضرورياً لتشاك نولاند - توم هانكس في فيلم (منبوذ - Cast Away).
في الصباح التالي وضعت صورتي وأنا أبتسم على حسابي الخاص وكتبت..
"شكرا لمن يركلون شموس الأمل في شبَاكنا كل صباح؛ فنفوز على الحزن بهدف أكيد" .
بعدها دخلت السعادة عليّ بدلاً من الخوف، و عبرتُ ساعات الألم بخفة، كانت الضحكات بفمي تتحدى السأم، وأسكت صوت الموسيقى التي أعتد سماعها الأنين.
عموماً قد تحسن شعوري، وتضاعف تقديري للوقت بعدما كان الزمن بلا ثمن بالنسبة لي، أصبحتُ الآن لا أملك ما هو أغلى منه. فكرت ان أستغل الوقت الطويل في تعلم شيئ جديد؛ فبدأت أتدرب على فن موازنة الصخور و هو فن يعتمد على موازنة الأشياء دون استخدام مواد لاصقة أو أسلاك أو دعامات، شاهدته في رحلتي إلى تايلاند.
بدأت أجلب مقاطع من اليوتيوب لأتدرب عليه بشكل أفضل، وتعلمت الطرق الكلاسيكية والحديثة لتكديس الصخور، و موازنة الثقل.
بالطبع لم يكن لدي أي صخور طبيعية في غرفتي المعزولة لكنني بدأت تطبيق ما تعلمته على الأشياء، فحولت علب الدواء، وقطع الصابون، وزجاجات المطهر، وفرشاة الأسنان، وأدوات المائدة البلاستيكية ، إلى قطع مفضلة أتدرب بها على مهارتي الجديدة.
لم يكن الفعل سهلاً كالكلام بل يحتاج إلى الكثير من الصبر والكثير الكثير من الاحساس، أحيانا كنت اغمض عيني لأبحث عن مركز ثقل القطعة التي أحاول موازنتها، وقد يمتد الوقت بي لساعات، لكني وجدت في الأمر متعة وشعوراً متجدداً بالنجاح والانتصار.
في جلسات التأمل فكرت أن ما أفعله وأتدرب عليه حالياً يشبه ما يجب أن أفعله وأقوم به في الحياة، يجب علي أن أبحث عن مركز الثقل في الناس من حولي كي أتوازن معهم، وأن تحلى بالصبر لأحقق ما أصبو إليه، والا أتوقع الكثير ممن لم أتعامل معهم عن قرب.
لما تكشفت تلك الحقيقة لي، شعرت بالخجل من نفسي حين سخرت من المعلم العجوز الذي كان يدرب فوحي السياحي على هذا الفن، وكيف كان صبورا معي وحكيماً إلى درجة كبيرة حين ابتسم وقال بلغته التي طلب من مرشد الفوج أن يترجمها لي..
"يا بني ابحث لنفسك عن نقطة توازن ".
كانت جملة عميقة يصعب على أمثالي ساعتها فهمها.
لو كتب الله لي السلامة سأعود إلى هناك وأتعلم على يديه فنون الحياة.
نجحت أخيراً في صناعة هيكل يمتد في الفراغ على شكل قوس يشبه الجسور الحجرية القديمة، وتحسنت حالتي الصحية كثيراً.
وأخيراً جاءت نتيجة المسحة سلبية، فكتب لي الطبيب اذناً بالخروج، فاجأني طاقم التمريض باحتفال رمزي حتى أنهم التقوا معي صورا قاموا بنشرها على حساباتهم الخاصة وفوقها كلمات تشجيعية مثل.. "الأمل، و الانتصار وكلمات أخرى تعبر عن فوز البشرية في إحدى معاركها مع المرض..
في يومي الأول من حياتي الجديدة أصبحت شخصاً
معافاً في بدنه، وفي نفسه على حد سواء، سامحت الجميع ووجدت لهم العذر، والأهم من ذلك اني وجدت الإجابة على تساؤلات الكثيرة التي أرقتني.
ذهبت للشجرة ورحتُ أتأمل "ويلسون"عن قرب، ملّست على ظهر القط الكسول، كنت ممتناً لما فعلوه من أجلي، نظرت لنافذة غرفتي؛ فوجدت فيها مصاباً جديداً أوصيتهم به، و لوحت له بعلامة النصر القريب، فابتسم.
د. يمان الزيات