تماضر الطاهر - كنوز محبة

كانت قصص الغرام التي تروى عن الأجيال التي تفتحت ذائقتها الجمالية على أغنيات مثل اغنيات الراحل المقيم (زيدان إبراهيم)، فريدة في نوعها وفي تفاصيلها الكثير من الوله والطرافة والغرابة التي قد لا تصدق.
يحكى أن عريساً من المعجبين بالعندليب الأسمر، يحفظ كل اغنياته ويتتبع أخباره وأخبار الجديد منها، ويحرص على قراءة كل ما يكتب عنه في الصحف اليومية، وله من قصص الغرام حكاية تروى.
فقد كان يحب -كالعادة- إبنة الجيران وكانت قصتهما اشبه بقصص الدراما الهندية، التي تعبر عن روعة يتخللها الألم. جميلة وفقير، دخل الحب إلى حياتهما بالباب وخرج بتأشيرة لإحدى دول الخليج، وهي -كالعادة- لم تستطع الصبر معه، ففاضلت واختارت الذهب، وقبل ان يذهب هو في حال سبيله، حضر زفافها وبارك اختيارها بيد مرتعشة.
كانت غرفته أيام صباه الباكر، عبارة عن معرض مصغر لصور (العندليب) ،التقطها له بنفسه في الحفلات التي كان يحضرها بدعوة او بدون دعوة من اصحابها، او تلك التي اقتصها من صفحات الصحف والمجلات، أو البوسترات التي تطبعها شركات الإنتاج الفني ،ضمن حملات الترويج التي تصاحب إصدار أشرطة الكاسيت الجديدة.
اشتهر في حيهم بعشقه لها وعشقه لزيدان.
وكيف لا يعشق زيدان إبراهيم؟
وهو مطربه المفضل وابن حيه وملهمه ومعلمه في ضروب الغناء والطرب الأصيل.
كان حلمه ان يتزوج بمحبوبته -تلك- وان يغني لهما (زيدان) في حفل الزفاف، خانت هي العهود، وعاش بعدها بنصف حلم.
التقى بصديقتها(صدفة) وقد تحسنت أوضاعه، فقرر ان يتزوجها، رفضت في البداية، لمعرفتها اللصيقة بقصته، لكنه حلف بأغلظ الأيمان انه نسيها تماماً وان الزمان هو زماناها وحدها.
تم عقد القران، وبقي تحديد يوم الزفاف مرهون بجدول الفنان الذي لا يقبل العريس له اي بديل، وجاء اليوم الموعود.
دخل العروسان (لخيمة) الفرح وسط الزغاريد والتبريكات من الاهل والاحباب، وصعد الفنان الراحل إلى خشبة المسرح الصغير.
سمعت العروس ذلك النقر المتقطع على اوتار الكمان، الذي يميز تلك الأغنية الحزينة التي كتبها (بابكر الطاهر) ولحنها (عمر الشاعر)، وهي معروفة بين أصحاب الهزائم العاطفية من المهجورين الذين يعيشون حالات انكسار القلوب المزمنة،
في الليلة ديك
لاهان علي ارضى واسامحك
ولا هان علي أعتب عليك
شلت الجراح والابتسامة
وكل حرمان اليتامى
جيت أهنيكِ واصافحك
جيت أقول مبروك عليك
،
فالتفتت نحو العريس وقالت في استنكار: لسة ما نسيتها؟
أجهش العريس بالبكاء واعترف، ثم نطق بكلمة الطلاق قبل ان ينطق الفنان بكلمة في تلك الليلة.
عاد العريس لوحدته، وظل وفياً لذكرى هزيمته التي يجترها كلما استمع لصوت (زيدان)، وكلما عادت ذكرى رحيله.
ليس وحده الذي يرق ويحن ويطرب له، فما غرسه الراحل (زيدان إبراهيم) في قلوبنا يلامس الكثير من حالاتنا الإنسانية، التي لا نجيد الصبر عليها ولا نجد الشجاعة الكافية للإعلان عنها والتصريح بها.
فالفنان الراحل زيدان إبراهيم -عليه رحمة الله- هو مدرسة فنية سودانية خالدة- بلا شك- لها نكهة تخصها.
تعايش الاسماع في حضرته طعم الشجن، وعطر المحبة الاصلية الآتية من دنياها. يستطيع بصوته العذب الجامع في علوه وانخفاضه بين الرزانة والرقة والحزن، ان يعبر بالمزاج (المعكر) لقمم الصفاء في ثوانٍ معدودة.
ولد الفنان الراحل زيدان إبراهيم في العام 1943م وتوفي عن (68 سنة) في24سبتمبر2011م، مرت ذكراه وبقي في قلوب عشاقه مثل اسطورة تحكي كلما صدحت بالمعاني الجميلة، التي كتبت بأحرف من نور وخلدها بصوته في اغنيته (كنوز محبة).
رفد مكتبة الغناء السوداني بأغنيات متميزة، اتسمت بالتنوع في الموضوعات والألحان.
كان من مصادر السعادة المتصلة في حياتنا، واستحق عن جدارة وصف الشمعة التي تحترق لتضيء للآخرين، فكم أطرب وكم امتع؟
فماذا نعرف عن حياته واحزانه وآلامه، التي تخرج كل ذاك الصدق في طبقات صوته، فتصلنا المعاني غضة بكل مراميها.
حكى الراحل زيدان إبراهيم في إحدى المقابلات التلفزيونية عن فشله في إيجادة السعادة، وعاش وحيداً على الرغم من أنه تزوج الأولى والثانية والثالثة.
قال: انه احب فتاة تعلق بها قلبه، ودامت قصة حبهما لسنوات طويلة حتى التحقت بالجامعة، وعندما ذهب برفقة اهله لخطبتها، عرف أنها مخطوبة لابن عمها وليس للخديعة اسم آخر، فاشتد حزنه.
كان زواجه الأول مثل تعذيب النفس،لا يحتمل الإنسان دوامه، والثاني والثالث هما مجرد محاولات للتشبث بالحياة وبحث عن النصف المفقود انتهى باليأس الكامل والاكتفاء بالوحدة الموحشة كشريكة دائمة، تبكيه وتبكي ما تغنى به من اسف تجلى في أغنياته الخالدة( بتتبدل)، (ياما بقيت حيران)، (اخونك)،(لو تعرف اللهفة)،وغيرها من الأغنيات التي تحكي قصته.
كان يغنيها كسير القلب، حبيس الدمع هزيل الجسد، متكاملة في الروح والمعنى.
يرقص الجميع على انغامها، فيراهم وهم يعشقون ويتزوجون، وهو وحيد حزين مجروح.
فطوبى له في حزنه النبيل، وطوبى لكل حزين أعطى الفرح للآخرين وهو فاقد لابتسامة محبة كان يستحقها.
فشكراً لجميع من كتب له وكأنما كتب عنه، وعزف معه أنغام دواخله واستمع إليه، وسال الله له رحمة ورفقة تكون له في تلك الدار خير مما تمنى.



Tomadir Altahir

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى