لم تكن خديجة تجد راحتها في مقهى الكلية وقت الفراغ. وحين تتناول غذاءها، تتجه رفقة صديق أو صديقة إلى ركن من الأركان للاستراحة والتحادث في انتظار حصص الزوال.
في مثل هذه الجلسات، لم تكن تجد حرجا في التَّفَاكُه، ولا تتردد في القهقهة بتلقائية لافتة للسمع والانتباه. بل كثيرا ما كانت تنفرج شفتاها وتصدر أصواتا محببة للنفس في قلب المدَرّج، تعبيرا منها عن سرورها، كلما كان الأمر مدعاة للضحك، بحضور الأستاذ الذي يتجاوز عنها، اعتبارا لاجتهادها.
حازت خديجة على إعجاب الأصدقاء من إخوان وأخوات، ورفاق ورفيقات، مغاربة وأجانب ، فاعتاد بعضهم مرافقتها في الحل كما في الترحال.
كان أكثر أفراد مجموعتها حرصا على الجلوس بالقرب منها، طالب أكبر من الجميع سنا، بسبب تأخره في الدراسة: اسمه أحمد. كان إذا سكت أنصت، وإذا ساد الصمت أطلق العنان لرومانسياته الدفينة؛ فغنى مقاطع من الطرب الأصيل .
رويدا رويدا، شعر أن خديجة لم تكن تتردد في التعبير عن إعجابها بصوته، خصوصا إذا قلّد أم كلثوم، فلم يعد يغني لسواها. كانت الفتاة، من جهتها، تحنو عليه، تساعده كثيرا في الجلوس كما في الوقوف، وفي السلاليم إلى قاعات الدرس، لأنه كان أعمى، يستعين بعكاز.
راق له الدفء وسط المجموعة، وسرّه العطف الذي تشمله به خديجة، فصار سباقا للحاق بها في مكانها المعتاد، لا يكاد يفارقها، وأحيانا تجده في انتظارها، وإذا تأخرت يبحث عنها مستعينا بحسها وحسيسها.
لاحظ زملاؤهما أن أحمد صار مغرما بصديقتهم خديجة، فكانوا في بعض الأحيان يمازحونها:
- إن أحمد قادم ... الزمي الصمت، دعنا نمتحن نبضه وقدراته في التعرف على مكانك من دون حسيس... انظري لقد أصابه الهذيان فراح يغني... كان عبد القادر، الذي عانى كثيرا جراء استِحالَة الوصول إليها، هو المتحدث في الغالب .
وذات مساء، غادر أحمد المدَرّج، معتمدا على نفسه وعكازه، في اتجاه موقف الحافلات. رغم مشيه بسرعة أدركته خديجة، فقالت له على سبيل المزاح : أراك مستعجلا، يا رجل ,,, أأنت على موعد خاص ؟
رد بصوت خافت :
- لا، أبدا، أبدا .. فقط، أريد أن أتعلم الاعتماد على نفسي في العودة تماما كما أفعل في المجيء.
اندهشت من كلامه، وأحست أنه يحمل رسالة مشفرة، فتركت يده وابتعدت قليلا ... وهي تبتعد، رفع صوته مخاطبا إياها:
- ما زال دمي يحمل نصيبا لابأس به من الكرامة يا خديجة. لا أريد أن أكون عبئا على أحد يضيق بي ذرعا، فيضطر للمناورة.
سرح الخيال بها طويلا، دون أن تفهم شيئا، قبل أن يبادرها :
-صحيح أنا لا أرى، لكن هل تعلمين أني أميز بين الحافلات الأربع، من خلال أزيز محركاتها، وأصوات الفرامل... ومنبهاتها، ومحل وقوف كل واحدة منها ...؟
تسمرت الفتاة في مكانها برهة ... تذكرت أنها كذبت عليه مساء اليوم السابق، حين ودعته ، وانضمت إلى المجموعة بدعوى أن الحافلة التي ستقلها وصلت الى المحطة.
* نشرت بالعدد ( العدد12 يونيو 2020م) من مجلة الصقيلة (الورقية المحكمة)
في مثل هذه الجلسات، لم تكن تجد حرجا في التَّفَاكُه، ولا تتردد في القهقهة بتلقائية لافتة للسمع والانتباه. بل كثيرا ما كانت تنفرج شفتاها وتصدر أصواتا محببة للنفس في قلب المدَرّج، تعبيرا منها عن سرورها، كلما كان الأمر مدعاة للضحك، بحضور الأستاذ الذي يتجاوز عنها، اعتبارا لاجتهادها.
حازت خديجة على إعجاب الأصدقاء من إخوان وأخوات، ورفاق ورفيقات، مغاربة وأجانب ، فاعتاد بعضهم مرافقتها في الحل كما في الترحال.
كان أكثر أفراد مجموعتها حرصا على الجلوس بالقرب منها، طالب أكبر من الجميع سنا، بسبب تأخره في الدراسة: اسمه أحمد. كان إذا سكت أنصت، وإذا ساد الصمت أطلق العنان لرومانسياته الدفينة؛ فغنى مقاطع من الطرب الأصيل .
رويدا رويدا، شعر أن خديجة لم تكن تتردد في التعبير عن إعجابها بصوته، خصوصا إذا قلّد أم كلثوم، فلم يعد يغني لسواها. كانت الفتاة، من جهتها، تحنو عليه، تساعده كثيرا في الجلوس كما في الوقوف، وفي السلاليم إلى قاعات الدرس، لأنه كان أعمى، يستعين بعكاز.
راق له الدفء وسط المجموعة، وسرّه العطف الذي تشمله به خديجة، فصار سباقا للحاق بها في مكانها المعتاد، لا يكاد يفارقها، وأحيانا تجده في انتظارها، وإذا تأخرت يبحث عنها مستعينا بحسها وحسيسها.
لاحظ زملاؤهما أن أحمد صار مغرما بصديقتهم خديجة، فكانوا في بعض الأحيان يمازحونها:
- إن أحمد قادم ... الزمي الصمت، دعنا نمتحن نبضه وقدراته في التعرف على مكانك من دون حسيس... انظري لقد أصابه الهذيان فراح يغني... كان عبد القادر، الذي عانى كثيرا جراء استِحالَة الوصول إليها، هو المتحدث في الغالب .
وذات مساء، غادر أحمد المدَرّج، معتمدا على نفسه وعكازه، في اتجاه موقف الحافلات. رغم مشيه بسرعة أدركته خديجة، فقالت له على سبيل المزاح : أراك مستعجلا، يا رجل ,,, أأنت على موعد خاص ؟
رد بصوت خافت :
- لا، أبدا، أبدا .. فقط، أريد أن أتعلم الاعتماد على نفسي في العودة تماما كما أفعل في المجيء.
اندهشت من كلامه، وأحست أنه يحمل رسالة مشفرة، فتركت يده وابتعدت قليلا ... وهي تبتعد، رفع صوته مخاطبا إياها:
- ما زال دمي يحمل نصيبا لابأس به من الكرامة يا خديجة. لا أريد أن أكون عبئا على أحد يضيق بي ذرعا، فيضطر للمناورة.
سرح الخيال بها طويلا، دون أن تفهم شيئا، قبل أن يبادرها :
-صحيح أنا لا أرى، لكن هل تعلمين أني أميز بين الحافلات الأربع، من خلال أزيز محركاتها، وأصوات الفرامل... ومنبهاتها، ومحل وقوف كل واحدة منها ...؟
تسمرت الفتاة في مكانها برهة ... تذكرت أنها كذبت عليه مساء اليوم السابق، حين ودعته ، وانضمت إلى المجموعة بدعوى أن الحافلة التي ستقلها وصلت الى المحطة.
* نشرت بالعدد ( العدد12 يونيو 2020م) من مجلة الصقيلة (الورقية المحكمة)