فر هاربا في ساعة الفجر ولا احد من ورائه يطارده ، ، اخرج من حقيبته مجموعة من الاوراق واخذ يلصقها بسرعة ، أودع كلماته مصلوبتا على حيطان المسجد والمدرسة ، أودعها وفي قلبه خوف ، صلبها وفي يديه رجفة قلقة ،حتى أذا استكان وقد بعد عن قريته ، اتخذ من رابية بعيدة محل مؤقت ، ليستريح ويلتقط انفاسه ، ويراقب منها ايضا ما سيجري..
لمح مجموعة رجال ومن ورائهم صبية صغار ، بدوا بعينه كمجوعة من الدود ،ولم يستغرب كأنه رأى احجامهم الحقيقية ، ثم توقف جزءا منهم فجأة أمام حائط المسجد ، ولم يمر كثير من الوقت حتى توقف الجزء الاخر من المجموعة امام حائط المدرسة ، وكان معظمهم من الصبية الصغار، وظل هكذا يراقب ، لكن الخوف بدأ بالتسلل أليه من احتمال ان يروه ، بالرغم من انه كان بعيدا عنهم بمسافة ليست بالقليلة ، فدفعه ذلك للمضي بعيدا .. لكنه توقف بعد لحظات ، قال في نفسه ؛ على أية حال انا لم اترك قنبلة .. فما الذي يمكن ان اسمعه او ان اشاهده من هنا .. وشعر انه ربما تسرع بقرار ترك القرية .. فلو بقى بينهم لأستطاع ان يرى ويسمع ردود افعالهم بوضوح .. لكنه رجع وقال في نفسه مرة اخرى ؛ اكيد انهم سيدهشون .. لكن سبق ورأيتهم مندهشين كثيرا في الماضي ، وسرعان ما كانوا ايضا يعتادون على الدهشة .. او سيخافون ، ولم ارى في ملامحهم شيئا لم يتغير مثل الخوف .. وصمت قليلا واستأنف سيره ، ولكنه توقف مرة اخرى، وقال كأنه يهمس لشخصا بجانبه .. لكن ماذا لو تغيروا .. ؟! فأنا لم ارهم مختلفين ابدا .. وظل واقفا لدقائق ، وخشى بالفعل من تضييع هذه الفرصة التي بدت له شبه محتملة .. فقرر ان يرجع للقرية.
لفت نظر مدير المدرسة ما يحدث ، وقبل ان يدخل وقف ذاهلا لما يراه ، فالطلاب والرجال والمعلمين مجتمعين حول جدران المدرسة ، محملقين بأوراق ملتصقة عليه ، وهناك من يقرأ بصمت واخر بصوت عال وهناك من لا يقرأ ولا يكتب وقد وقف يستمع ، فقال واحدا منهم مستفهما
- أهذه منشورات يا جناب المدير؟
ولم يفهم المدير ما أمامه لكي يجيبه ، فأمر الفراش بتشتيت الرجال وإدخال الطلاب إلى صفوفهم ، ليتسنى له الفهم وليعرف ماذا يحصل أمامه ، ثم انتزع ورقة من الأوراق المعلقة ، وشرع يقرأ بكلماتها وهو يدخل إلى الحرم المدرسي..
( أيها الناس .. في قريتكم مشاعل كثيرة تحسبونها مضيئة .. وأنوار زائفة تحسبونها شموسا ساطعة .. أنها مشاعل في نيرانها لا يستدل بها التائه ، وفي حرارتها لاتبعت الطمـأنينة في الخائف ، وبارتفاعها لا يميزها القصير ، وبابتعادها لا يدنو منها المستعجل..
الأعمى لا يشعر بحرارة ضوئها والمبصر لا يستنير بنورها، حرارتها الوهم ونورها السراب ومواقعها كرأس جزيرة سحرية لا وجود لها في وسط المياه صيّرتها عقول خاوية ذابلة وحملت بها الأيام وتبناها الزمان ، ربيت في أحضان أمم جاهلة وأودعت بمكتبات مظلمة لتنطق بها ألسنة خرساء لتستقر بأذان صماء فاشتراها الظالم وباعها على المظلوم واستتر بها المرائي ، وأودعت بقلب الكسول فأصبحت ترددها ببغاوات السنين ولم يهضمها الواعيين ولم يفهمها الثائرون ، وتعذر تطبيقها بيد العادلون ، ولا تحسبوا انها معلقة في دروبنا فقط .. كلا ، انها في كل القرى ، لكن هناك ألتحق الناس بعساكر العدل ليطفئوا مشاعل النهار ، فالمعركة خفية لا ترى فيها جنديا أو بندقية ،ولكن الألسن انهالت عليهم ولعنتهم القلوب ، فعرفوا أن هذه المشاعل أصبح مكانها القلوب ، وتخلت عن الحجارة والرفوف..
وفي قرية اخرى ، ساقتهم الأيام وأجتمع الضدان ، في طريقا على رأسه مشعل لا يضيئ وفيهم قلبان ، قلب يستنير بمشعل لا يضئ وقلب يعرف مشاعله التي تضيء ، فتجاذبت القلوب حول مشاعل النهار ، كفراشات عمياء تبصر وهما للنور ، وقلوب مستنفرة واقفة بعيدة عن أشباح الوهم المضاء ، لا ترى في ضوئها ولا في حرارتها دفئ ،ورجع الضدان متنافرين ، كلا في طريق قاصدين عيون مبصرة لا ترى في المشاعل أنوار ، وعيون عمياء تستفيق وهما بسراب نورها المنهار
وانطفأت مشاعل النهار في ذات نهار فأحتارت القلوب العمياء ، فأوشكت أن تحس بعماها فتعانقت القلوب على ظلمة، ورموا مطفئيها بالتمرد والتجديف وأشعلوا من جديد النار في أعوادها الخشبية وأجلسوها فوق روابي الطريق ،وألبسوها ثوب التجديد المرقع ،وأصبحت مشاعلهم أصنامهم وأعوادها أوثانهم وصوت الطرق المظلمة يأن بهم أنينا ، وغابات الطرق القديمة تكاد تتشقق جذوعها وهي منحنية لا ترى نورا بمشاعلهم المضيئة ، وهواءها يصرخ بلا صوت على أن مشاعلهم ميتة وهم يطالبون ببرهان ودليل، لأن كهنتهم أعظمهم جهلا ، وقاضيهم أضعفهم حكما ، وأميرهم كرسيه الخرافة ، وتاجه الظنون ، وصولجانه البدعة إلههم القدر ، ومعبودهم البشر ، يكفرون بالتغيير ، ويقدسون الرتيب ، ويؤمنون بمشاعلهم التي لا تضيئ ، ويوفون النذور لأنوارها ، وينحنون تحت أعوادها..
والمارة في طرقهم من الظلمة يكادوا يختنقون ، ومن الحيرة يفورون
والمستطرقين هم المميزون الذين لا يؤيدون ولا يختلفون ، فالمسافرين القدامى وحدهم الذين يشعرون بظلمة طرقهم ووحشة هدوئها ،فهم يعرفون أنها مشاعل زائفة ، وطرقهم في ليل دائم ليس له من تبّديد، دائمين التنبيه والتحذير ، والتخويف والترهيب من أنوار تلك المشاعل ،أصواتهم سمعتها القرى الأخرى ، وحناجرهم حفظتها المخلوقات العليا ، نداءاتهم في الوديان تسري ، وللسماء تعرج ، وبالأرض تنبت، تناقلتها ألسنة الهواء ، ورددتها أصوات الطيور، وأشفقت عليهم سباع البراري ، فحروفهم مكتملة واضحة وأصواتهم شفافة مقنعة..
وآن لنا ان نسمعها بوضوح ..لكي لانسمى بعد ذلك بشعوب مشاعل النهار، الذين اصبحوا لا يميزون النداء الازلي للثوار ؛ مشاعل لا تضيئ .. مشاعل لا تضيئ..)
وما أن انتهى المدير من القراءة وإذا بطالب طويل القامة يحمل الورقة ويقف قبالته ، متسائلا وعلى ملامحه جدية مفرطة ، مهتما للأمر حتى بدا منفعلا..
- ماذا تعني هذه الكلمات يا أستاذ!!؟
أبصر بالورقة ، ونظر الى الصبي ، ثم قال بعد أن ربت على كتفه
- ربما لا يجدر بي أن اشرحها لك الآن ... لأنك صغير على هكذا كلمات ، لكنك ستفهمها وحدك في يوم ما
- لكنني اعتقد .. اننا يجب ان نفهمها الان!؟
نظر إلى الورقة ، ونظر إلى الأوراق المعلقة ، ثم قال بعدها
- أخشى ذلك
نيسان / 2008
لمح مجموعة رجال ومن ورائهم صبية صغار ، بدوا بعينه كمجوعة من الدود ،ولم يستغرب كأنه رأى احجامهم الحقيقية ، ثم توقف جزءا منهم فجأة أمام حائط المسجد ، ولم يمر كثير من الوقت حتى توقف الجزء الاخر من المجموعة امام حائط المدرسة ، وكان معظمهم من الصبية الصغار، وظل هكذا يراقب ، لكن الخوف بدأ بالتسلل أليه من احتمال ان يروه ، بالرغم من انه كان بعيدا عنهم بمسافة ليست بالقليلة ، فدفعه ذلك للمضي بعيدا .. لكنه توقف بعد لحظات ، قال في نفسه ؛ على أية حال انا لم اترك قنبلة .. فما الذي يمكن ان اسمعه او ان اشاهده من هنا .. وشعر انه ربما تسرع بقرار ترك القرية .. فلو بقى بينهم لأستطاع ان يرى ويسمع ردود افعالهم بوضوح .. لكنه رجع وقال في نفسه مرة اخرى ؛ اكيد انهم سيدهشون .. لكن سبق ورأيتهم مندهشين كثيرا في الماضي ، وسرعان ما كانوا ايضا يعتادون على الدهشة .. او سيخافون ، ولم ارى في ملامحهم شيئا لم يتغير مثل الخوف .. وصمت قليلا واستأنف سيره ، ولكنه توقف مرة اخرى، وقال كأنه يهمس لشخصا بجانبه .. لكن ماذا لو تغيروا .. ؟! فأنا لم ارهم مختلفين ابدا .. وظل واقفا لدقائق ، وخشى بالفعل من تضييع هذه الفرصة التي بدت له شبه محتملة .. فقرر ان يرجع للقرية.
لفت نظر مدير المدرسة ما يحدث ، وقبل ان يدخل وقف ذاهلا لما يراه ، فالطلاب والرجال والمعلمين مجتمعين حول جدران المدرسة ، محملقين بأوراق ملتصقة عليه ، وهناك من يقرأ بصمت واخر بصوت عال وهناك من لا يقرأ ولا يكتب وقد وقف يستمع ، فقال واحدا منهم مستفهما
- أهذه منشورات يا جناب المدير؟
ولم يفهم المدير ما أمامه لكي يجيبه ، فأمر الفراش بتشتيت الرجال وإدخال الطلاب إلى صفوفهم ، ليتسنى له الفهم وليعرف ماذا يحصل أمامه ، ثم انتزع ورقة من الأوراق المعلقة ، وشرع يقرأ بكلماتها وهو يدخل إلى الحرم المدرسي..
( أيها الناس .. في قريتكم مشاعل كثيرة تحسبونها مضيئة .. وأنوار زائفة تحسبونها شموسا ساطعة .. أنها مشاعل في نيرانها لا يستدل بها التائه ، وفي حرارتها لاتبعت الطمـأنينة في الخائف ، وبارتفاعها لا يميزها القصير ، وبابتعادها لا يدنو منها المستعجل..
الأعمى لا يشعر بحرارة ضوئها والمبصر لا يستنير بنورها، حرارتها الوهم ونورها السراب ومواقعها كرأس جزيرة سحرية لا وجود لها في وسط المياه صيّرتها عقول خاوية ذابلة وحملت بها الأيام وتبناها الزمان ، ربيت في أحضان أمم جاهلة وأودعت بمكتبات مظلمة لتنطق بها ألسنة خرساء لتستقر بأذان صماء فاشتراها الظالم وباعها على المظلوم واستتر بها المرائي ، وأودعت بقلب الكسول فأصبحت ترددها ببغاوات السنين ولم يهضمها الواعيين ولم يفهمها الثائرون ، وتعذر تطبيقها بيد العادلون ، ولا تحسبوا انها معلقة في دروبنا فقط .. كلا ، انها في كل القرى ، لكن هناك ألتحق الناس بعساكر العدل ليطفئوا مشاعل النهار ، فالمعركة خفية لا ترى فيها جنديا أو بندقية ،ولكن الألسن انهالت عليهم ولعنتهم القلوب ، فعرفوا أن هذه المشاعل أصبح مكانها القلوب ، وتخلت عن الحجارة والرفوف..
وفي قرية اخرى ، ساقتهم الأيام وأجتمع الضدان ، في طريقا على رأسه مشعل لا يضيئ وفيهم قلبان ، قلب يستنير بمشعل لا يضئ وقلب يعرف مشاعله التي تضيء ، فتجاذبت القلوب حول مشاعل النهار ، كفراشات عمياء تبصر وهما للنور ، وقلوب مستنفرة واقفة بعيدة عن أشباح الوهم المضاء ، لا ترى في ضوئها ولا في حرارتها دفئ ،ورجع الضدان متنافرين ، كلا في طريق قاصدين عيون مبصرة لا ترى في المشاعل أنوار ، وعيون عمياء تستفيق وهما بسراب نورها المنهار
وانطفأت مشاعل النهار في ذات نهار فأحتارت القلوب العمياء ، فأوشكت أن تحس بعماها فتعانقت القلوب على ظلمة، ورموا مطفئيها بالتمرد والتجديف وأشعلوا من جديد النار في أعوادها الخشبية وأجلسوها فوق روابي الطريق ،وألبسوها ثوب التجديد المرقع ،وأصبحت مشاعلهم أصنامهم وأعوادها أوثانهم وصوت الطرق المظلمة يأن بهم أنينا ، وغابات الطرق القديمة تكاد تتشقق جذوعها وهي منحنية لا ترى نورا بمشاعلهم المضيئة ، وهواءها يصرخ بلا صوت على أن مشاعلهم ميتة وهم يطالبون ببرهان ودليل، لأن كهنتهم أعظمهم جهلا ، وقاضيهم أضعفهم حكما ، وأميرهم كرسيه الخرافة ، وتاجه الظنون ، وصولجانه البدعة إلههم القدر ، ومعبودهم البشر ، يكفرون بالتغيير ، ويقدسون الرتيب ، ويؤمنون بمشاعلهم التي لا تضيئ ، ويوفون النذور لأنوارها ، وينحنون تحت أعوادها..
والمارة في طرقهم من الظلمة يكادوا يختنقون ، ومن الحيرة يفورون
والمستطرقين هم المميزون الذين لا يؤيدون ولا يختلفون ، فالمسافرين القدامى وحدهم الذين يشعرون بظلمة طرقهم ووحشة هدوئها ،فهم يعرفون أنها مشاعل زائفة ، وطرقهم في ليل دائم ليس له من تبّديد، دائمين التنبيه والتحذير ، والتخويف والترهيب من أنوار تلك المشاعل ،أصواتهم سمعتها القرى الأخرى ، وحناجرهم حفظتها المخلوقات العليا ، نداءاتهم في الوديان تسري ، وللسماء تعرج ، وبالأرض تنبت، تناقلتها ألسنة الهواء ، ورددتها أصوات الطيور، وأشفقت عليهم سباع البراري ، فحروفهم مكتملة واضحة وأصواتهم شفافة مقنعة..
وآن لنا ان نسمعها بوضوح ..لكي لانسمى بعد ذلك بشعوب مشاعل النهار، الذين اصبحوا لا يميزون النداء الازلي للثوار ؛ مشاعل لا تضيئ .. مشاعل لا تضيئ..)
وما أن انتهى المدير من القراءة وإذا بطالب طويل القامة يحمل الورقة ويقف قبالته ، متسائلا وعلى ملامحه جدية مفرطة ، مهتما للأمر حتى بدا منفعلا..
- ماذا تعني هذه الكلمات يا أستاذ!!؟
أبصر بالورقة ، ونظر الى الصبي ، ثم قال بعد أن ربت على كتفه
- ربما لا يجدر بي أن اشرحها لك الآن ... لأنك صغير على هكذا كلمات ، لكنك ستفهمها وحدك في يوم ما
- لكنني اعتقد .. اننا يجب ان نفهمها الان!؟
نظر إلى الورقة ، ونظر إلى الأوراق المعلقة ، ثم قال بعدها
- أخشى ذلك
نيسان / 2008