حاميد اليوسفي - الفتى الذي أشرق مع الشمس

تحكي الأم لجاراتها:
ـ يوم مولد شهاب الدين السهروردي ، ظل والده يدلف الخطوات في باحة البيت ، حتى لمع أول خيط من نور الشمس ، وتسرب من نوافذ الغرفة ، تزامنا مع الطلق ، وصرخة الصبي ، وهو يخرج من ظلمة البطن .
زغردت النسوة في البيت . غفوت قليلا ، فرأيته مثل ملاك بجناحين ، يحمل قلما في اليد اليمنى ، يتكلم وينظر إلى السماء ، وعلى يساره يلمع بريق سيف ، فوق سرير مفروش بديباج أحمر.
قالت إحدى الجارات:
ـ ربما كان ذلك مجرد وهم ناتج عن آلام الولادة ، وما يرافقها من ضعف وتعب.
أجابت الأم بثبات :
ـ لا لم يكن وهما . كان رؤيا قوامها القلم والسيف ، الكلمة والقوة ، وجهان لعملة واحدة هي السلطة . عندما حكيتها لوالده قال بأنها فأل خير وأن الولد سيكون له شأن كبير . لذلك سماه شهاب الدين تيمنا بالنور الذي انبثق من النافذة لحظة ولادته.
كبر شهاب الدين السهروردي ، وشد الرحال إلى كل الآفاق التي تشرق منها الشمس أو تغرب . تنضب الجداول ، فيرحل بحثا عن الأنهار ، حتى انتهى به المطاف في حلب . عين الشام وبؤبؤها . الحلم الذي انتظره الأيوبي ثمان سنوات . وعندما دخلها فاتحا بلا حرب ، طمأن فقهاءها بعدم التدخل في شؤونهم.
لم يترك عالما معروفا في عصره ولم يجلس إليه . هل حان الوقت ليجلس الآخرون إلى هذا الفتى القادم من الشرق؟
لتحكم الشرق القديم وتغري الناس بطاعتك ، عليك أن تخفف من وضع يدك في جيوبهم ، وأن تسترضي فقهاءهم . كان الاتجاه الغالب في حلب ، تيار سني تقليدي قوي يسيطر على الأحباس والقضاء ودار الفتوى وإمامة المساجد وخطب الجمعة والمقابر وباقي المؤسسات الدينية.
بعد وقت وجيز من وصوله حلب ، اختلف الناس حوله . البعض تحدث عنه وكأنه نهر يتدفق ويتفرع إلى جداول ، يترقرق ماؤها صافيا ، يروي مساجد ومجالس حلب العطشى إلى فكر مغاير . والبعض انتهى إلى سمعه ، بأنه مارق وخارج عن الدين ، يسمم الهواء النقي الذي تنفسته المدينة قبل حلوله بها . واتفق الفريقان على أنه عديم الاعتناء بهندامه وطعامه. البعض ربط ذلك بتصوفه وزهده ، والبعض ربطه بزندقته ومجونه.
وصل صيته إلى القصر ، استضافه الأمير الظاهر الابن الثالث لصلاح الدين الأيوبي . قيل بأن والده عينه حاكما على حلب ، وهو ابن الخامسة عشرة ، ولم يمر على تعيينه إلا وقت قصير . الشباب يميل إلى بعضه . أُعجب السلطان الغر بالشيخ الفتى وشطحاته الصوفية . شيء واحد نفره منه ، هندامه الرث المليء بالثقب والرقع ، وعدم قص شعره ، والوسخ الذي يظهر على بشرته بفرط الإهمال المقصود التي يتعرض له الجسد.
اشتعلت نار الحسد والحقد في صدور أهل العمائم . نظم له مناظرات مع خصومه ، وأفحمهم أمامه بقوة العقل والقلب والمنطق والحدس . بدا السلطان وكأنه ينتقم منهم بسبب النصائح التي يقدمونها له بشأن كل صغيرة وكبيرة . تضايق كثيرا من تدخلاتهم في سلوكه وتصرفاته كحاكم:
ـ افعل كذا ولا تفعل كذا . ورد في صحيح البخاري كذا ، وأن أبا بكر الصديق (ض) كان يفعل كذا ، وعمر (ض) نهى عن كذا . جاء في صحيح مسلم كذا ، وأن عثمان (ض) تصرف بهذه الطريقة.
هي الحرب إذن . من أشعلها ، عليه أن يدفع ثمنها . بدءوا بتغذية وتأكيد الإشاعات التي نشروها من قبل ، وهي تتهم الوافد الجديد بالزندقة وإفساد العقائد . نصحوا الملك بالابتعاد عنه ، فلم يسمع . طلب منهم البرهان إن كانوا على حق . عقد لهم مناظرة داخل القصر ، حضرها كل أهل المعرفة والدين في حلب.
طرحوا السؤال المشنقة الذي نصبوه للشيعة والمتصوفة عبر التاريخ . هل يمكن لله سبحانه أن يبعث نبيا جديدا بعد سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل؟
أشهروا سيوفهم وكمنوا لشهاب الدين السهرودي في منعطف الطريق بين حرفية النص ومطلق القدرة الإلهية.
"ـ الفقهاء : أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيا . وهذا مستحيل.
ـ شهاب الدين السهروردي : ما حدا لقدرته ؟! أليس القادر إذا أراد شيئا لا يمتنع عليه؟!
ـ الفقهاء: بلى.
ـ شهاب الدين السهروردي : فالله قادر على كل شيء.
ـ الفقهاء : إلا على خلق نبي جديد فإنه مستحيل.
ـ شهاب الدين السهروردي : فهل يستحيل مطلقا أم لا؟
ـ الفقهاء : كفرت."
لا اعتراض على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمد (ص) هو خاتم الأنبياء ، كما أنه ليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية.
الفقهاء التزموا بحرفية النص ، وشهاب الدين السهروردي حلق بعيدا في سماء العقل والفكر والفلسفة . كان الجواب معروفا سلفا ، لذلك وقع في الفخ الذي نُصب له ، فحكموا عليه بالمروق ، والخروج عن شرع الله.
الآن اثبتوا بمنطقهم أنه زنديق ومارق وخارج عن الدين . بعد أن أصبحت رقبته تحت رحمتهم ، طلبوا من الأمير بأن يطبق شرع الله ، وإذا لم يفعل فقد انتقلت إليه العدوى.
أمام تماطل الظاهر ابن صلاح الدين الأيوبي ، وتبرمه من تنفيذ رغبتهم في قطع رأس خصمهم ، بعثوا الرسائل إلى والده متهمين الاثنين معا ، معللين ذلك بصغر سن الأمير وانسياقه وراء هذا الصوفي الملعون ، الذي أفسد عقيدة السلطان الغر.
وصلت الرسائل إلى قصر السلطان . خبر صلاح الدين الأيوبي بتجربته أن الرسائل القادمة مباشرة من الفقهاء ، ولا تمر عبر قصر ابنه في حلب ، لا تحمل خيرا.
لم يستتب له الحكم في مصر والشام إلا بعد أن حارب تشيع الفاطميين ، وناصر أهل السنة ، وبنى المدارس المالكية والشافعية ، وانتصر على الصليبيين في حطين واستعاد بيت المقدس . فماذا يريدون منه أكثر من ذلك ؟ أما آن لأبنائه أن يريحوه بعض الوقت؟
تلقى بعض الأخبار عن قلق فقهاء حلب من الفتى الشيخ الذي أزعجهم ، وبدأ يهد قلاعهم.
مشاكل الدولة لا تتوقف ، الصليبيون من جهة ، وأعداء الداخل من جهة ثانية . الزنكيون في الموصل وما جاورها ، والسلاجقة في الأناضول ، وصراعات خفية مع حاشية الخليفة العباسي في بغداد.
في كل مرة يفتح رسالة ، وهو يتمعن في سطورها ، يُحسّ وكأن السم مدسوس بين كلماتها.
كيف يقف بجانب الفيلسوف الشاب ضد أغلب فقهاء حلب ؟ وكيف يأمر بقتله ، وهو لم يخرج عن سلطة ابنه؟
نصبوا له المشنقة ، وأصدروا الحكم ، وها هم يهددون ابنه بمناصرته عليهم!
علمته تجربة السنين الطويلة مع الحروب والدسائس ، كيف يعمل الفقهاء مع خصومهم . أن تواجه جيشا كبيرا ، ومجهزا بكل أنواع الأسلحة ، أهون من أن تواجه جماعة من أهل العمائم تتحكم في مصير بلد . يعملون في الخفاء مثل التماسيح والعفاريت ، ولا أحد يعرف من أين يقبضهم . هذا ما لم يفهمه اليافعان . غاب عنهما أن الثعلب نصح ابنه بألا يهجم على دجاج فقيه القرية لأنه سيُجنّ ، ويُصدر فتوى تُبيح قتل الثعالب وأكل لحمها.
الظروف صعبة وعليه أن يتخذ القرار . لعن السلطة في نفسه قائلا :
ـ كيف تجعل السلطة من الإنسان سفاحا باسم الحق !؟ يا الهي كيف نذبح الناس فقط لأنهم يفكرون بطريقة مختلفة عنا ؟ لا يحرضون ضد سلطة أو ملك . لا يطمعون في عطاء . يعشقون الكلمات . يشعلون فيها نار المحبة . لماذا لا يتركهم هؤلاء الفقهاء وشأنهم؟
لو لم أحارب الفاطميين ولو لم أنتصر للأشاعرة وأهل السنة ضد الفلاسفة والباطنية لما تربعت على عرش هذه السلطة الملعونة. السلطة في الشرق تحتاج إلى العمامة التي تغطي على حسناتها وسيئاتها . لا يمكن أن تشهر العصا كل يوم في وجه الناس ليقدموا لك فروض الطاعة . العمامة تساعدك في فرض السلطة بشكل ناعم.
إدمان السلطة أخطر من الإدمان على شرب الخمر أو تدخين الأفيون. الخيارات محدودة . في السياسة قد تقتل أخاك أو ابنك أو أعز الناس إليك . بين الحلال والحرام خيوط رفيعة إذا لم تعرف كيف تتعامل معها خنقك الحلال أو الحرام.
لم يعد هناك مجال للتراجع . جاءت الرسالة من صلاح الدين الأيوبي ، تختصر الأمر ، وتطلب من السلطان الصغير ، أن يقتل الفيلسوف الشاب على الفور ، ودون تردد.
بات الأمير الظاهر الابن الأصغر لصلاح الدين الأيوبي يتقلب في الفراش . لم يعرف النوم لجفنيه طريقا . سؤال واحد ظل يتردد في نفسه ، ويكاد ينفجر داخل رأسه : كيف يضعه والده في كفة ، وإرضاء الفقهاء في كفة ؟ ثم كيف يسمح فاتح بيت المقدس وقائد جيوش المسلمين في مصر والشام لنفسه بإصدار حكم بالإعدام على فقيه شاب ، حلق بين كلمات القرآن الكريم ، ولم يخرج عنه؟
أمر السلطة حاد مثل السيف إذا لم تقطعه قطعك . كل السلاطين يكرهون من يتدخل في شؤونهم ، ويملي عليهم ما يفعلون . لكنها موازين القوى ، لا تسمح بإعدام مدينة بكاملها من أجل عيون حكيم صوفي لا حول ولا أتباع له غير زاده المعرفي.
هؤلاء المتصوفة عندما يشبعون من الحكمة حد التخمة ، لا يبق أمامهم سوى طريق الموت ، طريق الخلاص من الجسد ، وتحرر الروح من أدرانه ، واتحادها مع الروح الأعظم.
شهاب الدين السهروردي شيخ الإشراق من اختار هذا الطريق ، ولم يفرضه عليه أحد . هو أدرى من غيره بألاعيب الفقهاء ، وأصحاب العمائم .
حان وقت الحسم . أرسل الأمير في طلب السهروردي . بعد ذلك اختلف الرواة في طريقة القتل.
البعض قال بأنه مات حرقا ، والبعض أنكر ذلك ، وقال بأنه قتل بالسيف ، والبعض قال بأنه خُنق بوتر.
وقيل والعهدة على الرواة ، بأن الأمير خير شهاب الدين السهروردي في طريقة موته ، فطلب أن يتركه بلا ماء ولا طعام حتى تصعد روحه إلى السماء.
لم يفاجئ الموت شهاب الدين السهروردي ، فقد تهيأ له ، وطلبه كما فعل قبله الحلاج:
لا ترعكم سكرة الموت فما
هي إلا انتقال من هنا
ما أرى نفسي إلا انتم
واعتقادي أنكم انتم أنا
رحل شهاب الدين السهروردي ، لكن لم يرحل فكره ، ولم يجف نبعه . كل المتصوفة الذين عاصروه ، أو جاؤوا بعده ، شربوا من نهره ، ابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهما وساروا في نفس الطريق ، بعد أن شقوا لأنفسهم دروبا جديدة.

مراكش 02 أكتوبر 2020





12

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى