خالص عزمي - أدب القضاة (1)

حفل تأريخ الادب العربي بعدد باذخ من القضاة الذين اغنوا المكتبة الثقافية بوسيع علمهم وأدبهم وفقههم منذ ان احتلوا مواقعهم الرفيعة في مجالس القضاء على امتداد الرقعة الجغرافية الممتدة من الشمال الافريقي حتى آخر مرفأ في اليمن السعيدة؛ بل ان موسوعة تجلياتهم قد غطت مساحات واسعة من العالم الذي سافروا او هاجروا اليه ليحكوموا بين الناس بالعدل. والتأريخ جد ممهد لاغداق اخبار اولئك الافذاذ الذين لم يألوا جهدا في نشر الوعي الثقافي بين الناس عبر العصور.
وبالعودة الى تأريخنا المعاصر نجد ان هناك امتدادا متواصلا يشد بلحمته تلك الاجيال السابقة بالاجيال اللاحقة من ابناء العراق. فلو رجعت الى (ملفات) القضاة التي تحفل بها وزارة العدل لحصلت على سير معمقة ناصعة الجذور بالكفاءة القانونية المطعمة بالمواهب الادبية. وان نقابة المحامين العراقيين العريقة تحتفظ هي الاخرى بكنز وفير من (آرشيف) القضاة الذين عملوا في ساحتها كمحامين بعد ابتعادهم عن منصة القضاء لسبب او آخر. ولقد كشفت مجلة quot;القضاءquot; (التي دأبت النقابة على اصدارها منذ الثلاثينات من القرن الماضي)؛ عن جمهرة كبيرة من تلك المواهب الاخاذة في مختلف االاصناف الادبية كالقصة والشعر والنقد والصور القلمية... الخ. وفي هذه الدراسة ساحاول ان القي الضوء على بعض النماذج الفريدة التي أمدت الحياة الادبية بالعاطر من نسائم أريجها الابداعي؛ والساحر من نتاجها المؤصل؛ دونما تقيد بفترات الاسبقية الزمنية او الشهرة؛ محاولا ان تكون هذه اللمحات التعريفية في غاية التكثيف والاختصار وراجيا ان تكون حافزا للآخرين لاستكمالها بما تجود به اقلامهم من معلومات عن قضاة آخرين لم يسعف الحظ تغطية اعمالهم الشعرية والادبية في هذا العرض التعريفي الموجز : ــ

احمد حامد الصراف: ـ في الحلة فتح عينيه؛وفي كربلاء تعلم وتهذب؛ وكانت امه العلوية ذات السمعة العطرة في المباديءالقرآنية والادب؛ مدرسته الاولى في اللغة العربية وتذوق الشعر والادب والترتيل الديني و قرآءات المنبر..مما سهل عليه اغتراف المعرفة الواسعة من منابعها الاصيلة بكل الوانها المحببة اليه؛ حتى غدا واحدا من اثقف الشخصيات واكثرها قدرة على تواصل الوان الحديث والحوار والنقاش والابداع في النتاج الفكري في القرن الماضي.
الصراف موسوعة متنقلة تجمع التراث و اللغات والشعر والفلسفة والتاريخ؛ واناقتة في المظهر الباذخ لا تعادلها؛ الا اناقته في الحديث؛ وسحره في انتقاء الكلمة الجذابة الذائبة في سكر التنقل؛ لهذا قال عنه اكثر من اديب لبناني وسوري (اذا زرت العراق ولم تتعرف على الصراف فكأنك ما زرته) وفيه يقول الاخطل الصغير:

بدأ الكأس وثنى وسقى الشعر وغنى
طائر من دجلـة الخلد الى لبنان حنا
كلما انشد قلنـا عمر الخيـام معنــا
ينثر الانس على المجلس من هنا وهنـا
يا رسول الادب العالي سلام الشعر عنا

يجيد الصراف التركية والفارسية ويحسن الفرنسية والانكليزية؛ وقد نهل من هذه اللغات خزينا كبيرا من ثقافته؛ وتعتبر ترجمته النثرية لرباعيات الخيام من ارقى ما ترجم الى اللغة العربية؛ الى جانب ترجمات الصافي؛والبستاني ؛ والسباعي؛ ورامي؛ وعبد الحق فاضل؛ كما يعتبر كتابه الضخم في (الشبك) من اثرى الدراسات في هذا الموضوع العميق.
كان الصراف؛ من اقرب الشخصيات الى الشاعر الكبير الزهاوي؛ وقد اصطحبه معه الى الاحتفال الكبير في الفردوسي الذي اقيم في ايران في الثلاثينات من القرن الماضي؛ فكان خير جليس ومحدث اعجب به الادباء هناك الى حد كبير؛ وقد كان للغته الفارسية العالية الاثر الهام في ذلك. وكان لهذه العلاقة الصميمة ان تنتج كثيرا من المقالات والبحوث ووالردود والمعارك الادبية التي أدارها الصراف بكفاءة في الصحف والندوات والمجالس الادبية؛ انتصارا للزهاوي ودفاعا عنه.
انتخب الصراف في المجمع العربي في دمشق وفي مجمع(فرهنكستان) اللغوي في ايران؛ وفي العديد من الجمعيات والتجمعات الثقافية الرفيعة الاخرى.وله من المقالات والمحاضرات والندوات ما تملأ مجلدات في حقول شتى من المعرفة؛ كما ان له من التسجيلات الصوتية ما يشكل اضعاف ما نشر ولعل من اواخرها.....؛ محاضرته عن (الاحجار الكريمة) التي القاها في الجمعية البغدادية في السبعينات من القرن الماضي والتي كان لي شرف تقديمه فيها الى الجمهور.
كان الصراف قاضيا متميزا في جميع المناصب التي احتلها؛ ومن اهمها في (كربلاء؛ وبغداد والموصل وكركوك والحلة والكوت)؛ حيث عرف بسعة لافق والتي كانت تميل في كثير من الاحيان الى الاخذ بقاعدة (القانون الاصلح للمتهم) ؛ وكان للغته العربية المتينة وثقافته القانونية الواسعة الدور الهام في تماسك قراراته ورصانة سبكها. وقد انعكس ذلك على عمله في المحاماة بعدئذ فاصبح شاهد اثبات على تعدد ملكاته وقوة حجته... لعل الكثيرين من معارف الصراف يجهلون بأنه ذو صوت غنائي واسع الطبقة رخيم النبرة؛ سواء اثناء انشاده المتميز لما يحفظ من قصائد لاتحصى لقراء المنبر الحسيني اومن منتخبات الاغاني الرصينة لائمة الطرب كسيد درويش وعبدو الحمولي و عبد الوهاب و صالح عبد الحي ؛ فيا طالما شنف اسماعنا اثناء جلسات أدبية خاصة بنخبة من محفوظاته الملتزمة بضبط اللحن ودقة الاداء... لما تميز به من قرار عالي الاصداح وجواب عميق الاستقرارو يمتلك الصراف حافظة قل نظيرها ؛ فهو يحفظ من الحكم والامثال والشعر الشعبي والشعر الفصيح ونوادر التاريخ وحكايات الذكريات؛ ما يشكلخزينا متنقلا واسعا ؛ فقد عرف عنه حفظه لمقدمات عدة لبعض من الكتب التي اعجب بها؛ او تلك التي اراد بها السخرية من مؤلفيها؛. و مما اذكره بهذا الصدد؛هو انني كنت في مجلس ادبي بغدادي في الستينات من القرن الماضي؛ حينما حاول احد الادباء المرموقين ان يستشهد ببيت للشاعر الشيخ عباس علي النجفي من شعراء القرن التاسع عشر الذي يقول فيه (عديني وأمطلي وعدي؛ عديني وديني بالصبابة فهي ديني) فتلعثم وقدم وأخر في ذلك البيت فما كان من الصراف الا وانشد القصيدة بكاملها بل اضاف اليها كل ما اثير حولها من معارضات او تعليقات ؛ فنال من الحاضرين الاستعادة والتقديروالاعجاب.
يجلس الصراف على منصة القضاء فيمنح كرسيه المهابة والوقار من دون تزمت ولا تشدد بل بعلم غزير واحاطة موسوعية؛ فيمنح الماثل امامه (محاميا كان ام متهما) الثقة والاستقرار النفسي. بل لطالما داعب الخصوم فرفع عن كواهلم الاضطراب والخوف وطمأنهم على قرار قانوني عادل. لقد جاورنا هذا القاضي الكبير في كربلاء والكوت اولا؛ وفي الاعظمية ـــ راغبة خاتون ـــ اخيرا لمدة تزيد على ربع قرن من الزمن؛ فحصلنا على علاقة ثقافية وأسرية كان من محصلتها تلك الذكريات العاطرة الغزيرة التي لا توفي ذخيرتها هذه السطور المتواضعة من الوفاء.

ابراهيم الواعظ: ــ
شاعر رصين الديباجة؛ وقانوني ضليع المادة؛ وفقيه يصول ويجول في مصادر النص والتفسير والشرح؛ وخطيب لا يتلجلج و لايبهته موقف؛ كان القضاء والادب الساحة الواسعة التي صرف جل حياته فيها؛ فاذا غمض عليه نص قانوني اسعفه الادب في تفسيره وتوضيح جوانبه.انتخب نائبا عن الحلة عام 1930؛ ثم عام 1937؛ ولكن القضاء لا السياسة كان هاجسه وعالمه الذي يأنس اليه.؛ اشغل مناصب قضائية عدة منها؛ حاكم بداءة الموصل؛ ورئيس محكمة الاستئناف فيها؛ وانتدب لمدة عامين ليشغل منصب مدير الدائرة القانونية في الجامعة العربية في مصر؛ وحينما انهى مهمته هناك عادعام 1952 ليشغل رئاسة التفتيش العدلي مدة ست سنوات اعتزل بعدها الخدمة العامة.
في عام 1948 كنت طالبا في ثانوية الموصل حينما حل الامير عبد الاله الوصي على العرش في مدينة الحدباء العريقة ؛ لمناسبة افتتاح بناية المحاكم الجديدة فيها؛وحينما التأم الحفل في الصالة الكبرى؛ وقف القاضي الجليل الواعظ لا ليلقي كلمة الافتتاح كم جرت العادة بل ليلقي قصيدة رصينةعصماء؛ شرح فيها اهمية القضاء وعلو مكانته واستقلاليته حيث لاسلطان عليه الا القانون.
وللواعظ مؤلفات كثر منها: خريجو مدرسة محمد؛ و اسبوعياتي؛ والزباء (مسرحية شعرية) وعبد الرحمن بن عوف؛ وفتح مصر ؛ والعباس بن الاحنف؛ والروض الازهر؛ ومجموعة ضخمة من المقالات والتعليقات والمداخلات الادبية والشعرية والقانونية؛ تشكل مكتبة ثقافية بحد ذاتها؛ كما ان له ديوانا تناول فيه اغلب الاغراض الشعرية المعروفة و يعكف ابنه القاضي المعروف الاستاذ مصطفى الواعظ على تحقيقه وتهيأته للطبع مع مؤلفاته التي لم تنشر لحد الآن.
في الموصل؛ حينما كان رئيسا لمحاكمها؛ ترأس ندوة ادبية شعريةهي الندوة العمرية ؛ اجتمع فيها نخبة من شعراء وادباء الحدباء؛ من آل الجليلي وجلميران والصابونجي والعبيدي والجلبي وباش عالم؛ اضافة الى رجال الصحافة كمحي الدين ابي الخطاب؛ ومحمود مفتي الشافعية وابراهيم الجلبي وعبد الباسط يونس وغربي الحاج احمد... الخ وقد خلقت هذه الندوة جوا ثقافيا من الحوار الفكري والمطارحات والمعارضات الشعرية امتد اثره الى ادباء بغداد؛ والبصرة وكركوك؛ فتجمع من جراء ذلك نتاج غزير امد الصحافة الادبية بمواد ذات نفع عميم.وكانت مجلة الجزيرة الموصلية التي رأس تحريرها الشاعر المعروف ذو النون الشهاب تنشرلاعضاء الندوة وعلى رأسهم الواعظ كثيرا مما كان يطرح في تلك الندوة الثقافية الرائدة. عرف الواعظ بدماثة الخلق والتقوى وحب الخير والوفاء للاصقاء؛ وما زال موقفه من اقامة تمثال للسياسي الوطني الراحل (عبد المحسن السعدون) مضرب المثل في ذلك؛ وهو القائل:
وافعل فعل الخير للخير نفسه ولست ابالي بالثواب وبالاجر

ثم بعد كل هذا وذاك كا ن الواعظ من القلة الذين يعرفون القضاء العراقي منبعا ومصبا؛ ولا زلت اذكر قوله لي يوم زرته في رئاسة التفتيش العدلى عام 1957؛ حينما قال ناصحا (ليست هيبة القاضي في التجهم والصراخ والارعاب؛ بل ان مهابته تكمن في شخصيته المتوازنة وعلمه القانوني وتطبيقه للعدل)
رحم الله ذلك القلب الكبير والمشاعر الانسانية الزاخرة بالعطاء في حب الوطن حيث قال:

وطني؛ بكيت شجى عليك ولم ازل
أبكيك من نفسي ومن أعلاقي
وطني فذا قلبي يذوب وادمعي
تجري بحرقتها من الآماق

ولعل البيتين اللذين كتبهما تحت صورته يؤكدان أيمانه بسر الرحيل الابدي والفناء الجسدي:

تبقى الرسوم مدى الازمان خالدة
والجسم يفنى ولا يبقى له أثر
هذي على الارض تمثال لصاحبها
وذاك تحت طباق الترب مندثر

*****

2

صبيحة الشيخ داود
في صبيحة يوم من شباط عام 1922 فوجيءالشعب العراقي وهو في قمة دفاعه عن الحجاب ؛ بصبية في الثانية عشرة من عمرها تركب الجمل وتمثل الخنساء في مهرجان ( سوق عكاظ) تحت رعاية الملك فيصل الاول ؛ ولم تكن تلك الصغيرة الا صبيحة الشيخ احمد الداود ابنة احد شخصيات الدين الكبار الذي اصبح فيما بعد وزيرا للاوقاف . حينما وقفت صبيحة سافرة وهي تلقي شعر الخنساء ؛ لم تتهيب مقام الملك ؛ ولم يرتج عليها بسبب ذلك الحشد الكبير وصعوبة لغة القصيدة الفصيحة ؛ بل راحت تثير الاعجاب بحسن الاداء وقوة الحافظة والاندماج بتمثيل الشخصية . اذن هكذا كانت البداية الجريئة .

في عام 1936 ؛وبذات الجرأة ؛ التحقت صبيحة بكلية الحقوق فكانت الفتاة الاولى التي انتمت الى هذا الصرح العلمي ؛ لتجلس على مقاعد الدرس بين زملائها الرجال ؛وبحمايتهم ورعاية الاستاذ العميد منير القاضي ؛ وحينما تخرجت عام 1940عملت في نطاق وزارة المعارف ؛ كمفتشة تربوية ثم مدرسة في دار المعلمات حتى عام 1956؛ حيث عينت عضوا في محكمة الاحداث وبقيت في منصبها القضائي هذا مدة 14 عاما ؛ تجول بين قضايا اجتماعية ونفسية يتغلب على اكثرها عنصر العادات والتقاليد .

كانت وهي تنظر في قضيا المحالين من صغار السن ؛ تسترجع كل ما قرأته او مارسته تربويا ؛ فيخفق فؤادها بالرأفة والرعاية ؛ وتميل الى الانصاف والرحمة والاصلاح ؛ لا الى التشدد والقسوة والعقاب . لقد حدثني قضاة ومحامون كثر عن اسلوبها المتميز بدراسة القضايا بروح متأنية ورؤوفة ؛ فأشادوا بكفآءتها القانونية؛ وقدرتها على التحليل النفسي واستيعاب كل قضية من خلال ظروفها ووقائعها وارتباطها بالبيئة التي حدثت فيهااو أثرت في اسبابها ومجرياتها وطبقا لنصوص القانون ساري المفعول . .
كما ذكر لي الصحفي الكبير المرحوم صبيح الغافقي هذه الحادثة قائلا (عرضت مرة على الاستاذة صبيحة قضيتان متشابهتان في الوقائع لصبيين في ذات السن ؛ واحد من الوزيرية ؛ والآخر من محلة التسابيل قرب باب الشيخ ؛فلما دققت في الاوراق التحقيقية اتضح لها بان هناك فرقا بينا في بيئتي كل منهما ؛ من حيث الرعاية الاسرية والسلوك التربوي والعادات والتقاليد ؛ فأخذت ذلك بنظر الاعتبار عند تحديدها للتكييف القانوني من خلال أسباب ودوافع كل منهما لاقتراف الجريمة ) وهكذا يكون منظور العدالة عند الشخصية القانونية التي تتصدى للفعل الاجرامي وتدرسه من مختلف جوانبه طبقا للزمن الذي حدث فيه ؛ ولبيئة المكان الذي دارت وقائعه على مسرحه .

لعبت الراحلة صبيحة الشيخ داود دورا رياديا اجتماعيا في النهضة النسوية العراقية ؛ فقد شاركت في مختلف الجمعيات الخيرية كالهلال الاحمر والام والطفل والاتحاد النسائي ؛ وساهمت في كثير من المؤتمرات النسوية والانسانية داخل العراق وخارجه ؛ فكانت صوتا امينا دلل على رفعة المرأة وتقدمها وصدق كفاحها من اجل المساواة ا في الحقوق والواجبات . ولقد نشرت عشرات المقالات والبحوث والقت كثيرا من المحاضرات ؛ ثم اصدرت كتابين رآئدين هما ؛( اول الطريق) وهو عن تجربتهاالحياتية والنسوية ؛ والثاني ( تجربتي في قضاء الاحداث ) ؛ وهو عن عملها المؤصل في تلك المحكمة القضائية الاجتماعية ومن يطلع على هذين المؤلفين ؛ ينبهر بالافكار الحديثة التي طرحتها ؛ وباللغة العربية الفصيحة المشرقة التي استعملتها دونما تكلف او تصنع .اضافة الىتطعيم كل ذلك بالامثال والحكم التي ارتكزت عليها في توضيح آرائها التي جاءت بها في صفحاتها المشرقة التي اعتمدت على نصوع البيان الادبي وسلاسة البلاغة المنتقاة الصافية .
.
لقد حضرت كثيرا من مجالسها الادبية في صالونها الانيق من بيتها العامر في ابي نؤاس المطل على نهر دجلة الخالد ؛ فكان ذلك المجلس حافلا بالشخصيات البارزة في القانون والادب والدبلوماسية والفن ؛ تصدح في جوانبه قصائد الشعر ؛ وحكايات الذكريات والموسيقى العذبة والطرائف التراثية التي كان يسوقها اسبوعيا جهابذة الادب والتاريخ كمصطفى جواد وجعفر الخليلي والشيخ جلال الحنفي وفؤاد عباس وحافظ جميل وكوركيس عواد وابراهيم الوائلي ويوسف يعقوب مسكوني وعبد الهادي التازي ... الخ . وكانت صبيحة الشيخ داود تضفي من شخصيتها المتعفـفــــة الكريمـــة المتواضعة على الحاضرين رقة في الحديث ودماثة في الخلق . وعليه؛ لم يكن غريبا ان يذكراستاذها العميد القاضي في مقدمتة لكتابها( اول الطرق )حينما اورد العبارة الصادقة التالية :( وقد دفعني الى كتابة هذه المقدمة قيام الصلة الوثيقة بيننا ؛ صلة استاذ مخلص مع تلميذة نجيبة وفية ؛ فقد قضيت في تدريسها مع زملائها أربع سنوات في كلية الحقوق ؛ وهي الفتاة الوحيدة بين نحو الف طالب يحترمونها وتحترمهم ويقدرون نشاطها وسعيها ؛ وتقدر ادبهم وحسن سيرهم معها على وجه المساواة والحرمة المتبادلة ..)

توفيق الفكيكي

كان كتاب ( دفاع عن الشاعر ابي العتاهية ) اول كتاب اقرأه للفكيكي فأعجبت بطريقته القانونية في التصدي للخصومة ؛ ولم تتح لي الفرصة في لقائه الا عام 1956حينما حل في بغداد الشاعر اللبناني امين نخلة ؛ حيث أقيمت له حفلات تكريم من بينها ؛ تلك المأدبة المعتبرة التي أدبها الشاعر العملاق الجواهري في بيته في الاعظمية ودعا اليها عددا من الشعراء والادباء ورجال القانون كان لي شرف المشاركة معهم .
كنت اجلس وعبد الوهاب البياتي وحارث طه الراوي على اريكة تقابل باب غرفة الاستقبال ؛ حينما دخل رجل قصير القامة أنيس الطلعة ؛ بشوش الوجه ؛ يضع نظارة سميكة على عينيه النفاذتين ؛ وبعد التعارف المعتاد عاد ادراجه و فضل الجلوس قربنا ؛ ليشاركنا حديثنا عن الادب الحديث ؛ وأساليب الصياغة الجديدة المبتدعة للتعبير عنه .؛ وقد لاحظت من خلال مجريات الحوار كم كان الفكيكي متتبعا لما ينشر في الصحافة الادبية من نتاج شباب تلك الحقبة ؛ حيث لم يفته التنويه بعدد منهم كالبياتي والسياب ولميعة عمارة وعبد الملك نوري وحسين مردان ... الخ ؛ كان ذلك الحديث الشيق قد شدني الى ثقافته التراثية والمعاصرة وزادني تتبعا واعجابا بما رفد به المكتبة العربية بنتاج يستحق الاكبار والتقدير .

عمل الفكيكي قاضيا في مدن شتى ( سامراء ؛ خانقين ؛ النجف ؛ كربلاء ؛ الكاظمية ؛ الاعظمية ) فكان مضرب المثل في الاناة و العمق والصدق والعدالة ؛ و لقد كان يزاوج مابين اسلوبه التربوي الذي تلقاه اثناء فترة مزاولته التعليم ؛ وبين حصافته كمحام يدافع عن حقوق موكليه . و لعل لتجواله في مدن عدة اثره في تحصيله الاجتماعي والثقافي والفقهي الواسع ؛ وبخاصة ما افاد منه من خلال امتداد صداقاته ومعارفه حيث شمل شخصيات متنوعة في طباعها ومراكزها وانتماءاتها الحضرية و الريفية و القبلية وفي ثقافاتها الدينية او الاكاديمية ؛وكلها منحته خزينا اضافيا واسعا من المعرفة الواقعية .

لم يشعرنا الفكيكي ابدا؛ نحن شباب المحاماة آنذاك ؛ بفارق السن والمكانة ؛ بل كان يمنحنا الاعتبار اللائق بزملاء مهنة واحدة نغرف جميعا من معين قانوني واحد ؛ وكان يؤكدبهذا الجانب على ان ( كل الفرق يكمن في طول المراس وتراكم الخبرة والتجربة ) وبقوله هذا كان يشد من عزيمتنا ويقوي من أزرنا .

كان اسلوب الفكيكي الادبي في غاية التدفق البلاغي العامر بالجملة الناصعة والعبارة المتماسكة ؛ وهو يقربه الى اساليب كتاب ذلك العصر من امثال ابراهيم حلمي العمر وابراهيم صالح شكر وفهمي المدرس واحمد عزت الاعظمي وعبد الرزاق محي الدين ... الخ وما كتبه التي طبعها في حينه الا صيغة متناسقة ما بين الفقه والادب ؛ ما بين الاحداث الاجتماعية الواقعية و اطارها من الاسلوب الشعري الساحر ؛بل ما بين اسلوب البلاغة الرقيقة ؛ وحرفية النصوص القانونية ... وويمكنك التثبت من وجهة النظر هذه بمراجعة كتبه المطبوعة : ( الراعي والرعية ؛ الحجاب والسفور ؛ سكينة بنت الحسين ؛ عبقرية الشبيبي ؛ النخيل ؛ رسالة في فقه الوقف المقارن ؛أدب الفتوة ؛ دفاع عن الشاعر ابي العتاهية .... الخ)

كان منزل الفكيكي يجاور دار الصحفي الكبير خالد الدرة ( صاحب مجلة الوادي ) وهو يقابل آنذاك ثانوية الاعظمية للبنين ؛ وكان ذلك البيت العامر مجمعا لشمل الادباء ؛ و كان اللقاء يتم على مائدة عامرة بما لذ وطاب ؛ ا نحضى خلالها باحاديث شتى تتناول في مجملها الونا من نفحات الادب والصحافة والفن والقانون ؛ وكان لحضور الفكيكي اثره المباشر على تنوع الحوار وطرافته وحسن تنقله من قصيدة رائقة ؛ الى ادب شعبي ؛ الى قضايا ساخنة ما زالت تنظر امام المحاكم ..

لقد عرف الفكيكي بالكرم الحاتمي والاغداق على المحتاجين ؛ ماديا ومعنويا ؛ ولهذا جاء رثاء صديقه الحميم الشاعر المعروف حافظ جميل عند رحيله من ادق ما لامس حقيقة صفاة ذلك القاضي الاديب ؛ والانسان العطوف ؛حيث قال فيه :
ابكي الجواد الاريحي خلا من الند الضريب
شهم يجوع ولا يرد سؤال محتاج حريب
يعطي ويخشى ان يرى غير المروءة من رقيب





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى