فاروق وادي - لشبونة: مدينة "الفادو" والقرنفل

تترك خلفك تمثال الشّاعر "لويش كامويش"، الذي تتلاشى إيقاعات شعره في الفضاء ويتبدّى سيفه المهيّأ إلى جانبه. تتخطاه، حيث ما يزال يعتلي نصبًا حجريًا هائلاً لرجالٍ آخرين منحوتين في الصّخر، قد يكونوا شعراء لاحقين عرفتهم البرتغال، هم الآن يقيمون معه في السّاحة التي حملت اسمه، على مقربة من الحيّ القديم "بايرو ألتو". ثمّ تتجاوز تمثال "فرناندو بيسوا" المعدنيّ القريب في "تشيادو"، جالسًا في مقهاه الذي لا يغادره أبدًا، لتنحدر في الشّارع الهابط نحو ساحة "روسيّو" وسط المدينة. تمرّ على أقدم مكتبات لشبونة لبيع الكتب وأكثرها عراقة. يقابلها فندق يحمل اسم الكاتب الأرجنتيني الأشهر: بورخيس. وبالقرب من البرج الحديدي الذي جرى تشييده وفقق النمط الذي جرى فيه إقامة برج "إيفل"، ليطلّ على منطقة "الفاما" ببيوتها البيضاء القرميديّة وقلعة "سان جورج" في قمّة الجبل المقابل. هناك، في المنحدر، تقف وبشكل شبه دائم، سيّارة ذهبيّة من طراز موغلٍ في القِدَم، تنبعث منها، من دون توقُّف، موسيقى الـ "فادو"، وتتصدّر الاسطوانات المدمجة التي تباع فيها، أغنيات أيقونة الفادو البرتغالية، "أماليا رودريغويز"، التي ادّعى فيلم عُرض قبل سنوات، بأنها كانت على علاقة بدكتاتور البرتغال الشّهير "أنطونيو سالازار"، من غير أن ينجح الشّريط في تحطيم أيقونتها في الذّاكرة والضمير البرتغالي. ولا نجح في ذلك ما أشيع عن تلك العلاقة الحميمة التي جمعتها بفنّانة تشكيليّة لها غير لوحة ما زالت معلّقة على جدران بيت أماليا/ متحفها. ولا حال كلّ ذلك دون نقل رفاتها إلى "البنتياو"، كأوّل امرأة تدفن في هذا المبنى العريق القائم فوق مرتفع في قلب المدينة، والذي يجمع رفاة عدد من عظماء البرتغال.
السّيدة التي رافقتنا لتعرّفنا على تفاصيل بيت أماليا رودريغويز المجاور لمبنى البرلمان، والذي تحوّل إلى متحفٍ باسمها، قالت إن زيارتنا اليوم (في السادس من أكتوبر الحالي 2020) تصادف الذكرى الـ 21 لرحيل أماليا عن عالمنا. وقد نفت بشدّة ما يشاع عن علاقة أسطورة الفادو بسالازار، مضيفة إن الفنّانة العظيمة لم تلتق بدكتاتور البرتغال العسكري أكثر من مرّتين طوال حياتها.
البيت يحتوي على أشياء آماليا الحميمة: سريرها؛ ملابسها وحليّها؛الآلات الموسيقيّة التي رافقت حفلات غنائها؛ صورها الفوتوغرافيّة والبورتريهات التي رسمها الفنّانون لها؛ اللوحات والكتب المهداة إليها من مؤلفيها. وكم بدا لنا مؤِّثرًا أن يكون ببغاء إميليا "شيكو" ما زال حيّا.. وما برح يهتف باسمها واسم خادمتها وكلبها، من دون أن يكفّ عن النّداء.. رغم مرور أكثر من عقدين من الزّمان على غياب صاحبته التي يصغي في كلّ لحظة لترددات صوتها مع أحزان الفادو المتسرّبة من حنجرتها لتملأ أفق المكان.
والفادو بالمجمل، موسيقى برتغاليّة حزينة، تعتمد آلة الغيتار بالدّرجة الأولى. ألحان معاناة وشجن، عشق ولوعة وتمزُّق، وكلمات فراق وحنين وألم، تنحدر أصولها من أغاني البحّارة الضّاربين في عرض البحر، موغلين في اللجّة، تتسلّل إليها ملامح موسيقى عربيّة قديمة، وأخرى إفريقيّة لبلاد عانت طويلاً من الاستعمار البرتغالي. قد لا تحتاج كثيرًا لتعرف معنى الكلمات، لأن اللّحن والأداء يدلانك على هويّة الغناء الذي تنبعث منه إيقاعات تصغي فيها إلى أسى تعتّق وبات يعشّش في الرّوح البرتغاليّة (بحثت عن مصدر كلمة البرتغال، وقد اجتهد أحدها بردها إلى العربيّة، إذ أطلق عليها العرب الاسم مشتقًا من البرتقال، كونها كانت تعج بأشجار الحمضيات تلك).
أحزان الفادو تراها في وجوه البشر (حتّى قبل أن يحلّ الوباء الأخير على البرتغال والعالم ويلقي بظلال كآباته)؛ تراها في الصّمت المهذّب والنّبيل للجالسين في المترو؛ في انتفاء الضّحكات المجلجلة لرجالٍ يجلسون في المقاهي والبارات يحتسون الجعّة أو النبيذ؛ في زهد النّساء البرتغاليات في الملبس وتجنُّب الافراط في مساحيق التّجميل، إن لم يكن غيابها تمامًا؛ وفي رقّة المياه المنسابة في نهر التاجو (التّاج) الأكثر صمتًا وهدوءً.
لقد أتيحت لنا الفرصة، خلال إحدى الزيارات، لأن نشهد عرضًا ليليًا مجانيًا للفادو في ساحة "براسا دو كوميرسيو" وسط لشبونة، والمتاخمة للنهر الهاديء. وكانت غواية الفادو قد اجتذبت جمهورًا كبيرًا جلس المئات منهم على الكراسي ووقف الآلاف يشاهدون الحفل على شاشات ضخمة، بهدوء وإصغاء وحزن صامت يتغلغل في الرّوح.
ربما يكمن مصدر الحزن في الطبيعة الهادئة المسالمة للشّعب البرتغالي، حتى أن ثورتهم في القرن الماضي (1974)، والتي أطاحت بأربعة عقود من حكم الطّغاة الفاشيين، وعلى رأسهم أنطونيو سالازار، كانت الأكثر سلميّة على مدى التّاريخ الحديث، حيث غرس الشّعب زهور القرنفل في فوهات البنادق بعد أن وضع البرتغاليون حدًّا نهائيًا للدكتاتوريّة، فعرفت بـ "ثورة القرنفل".
وقد تنبع أحزان الفادو من فقدان البرتغال لمركزيتها الكونية التي انتعشت في عصر الاكتشافات الجغرافيّة خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وأسهمت في بسط النّفوذ الاستعماري البرتغالي على جهات الأرض، وإخضاع مناطق شاسعة من العالم، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيّة (البرازيل تحديدًا، التي استقلّت عن البرتغال عام 1822، وما زالت البرتغاليّة لغتها الرسميّة)، وطالت أجزاء من الهند والصين واليابان، التي خضعت أراضيها لسطوة البرتغاليين ونفوذهم، وظلّ بعضها تحت الهيمنة البرتغاليّة إلى وقت قريب. أمّا الآن، فعندما تنظر البرتغال إلى ماضيها الامبراطوري ثمّ تتأمّل نفسها في اللّحظة التّاريخية الرّاهنة، فإنها تُحدِّق في وحدتها التي تعيشها على ضفاف المحيط الأطلسي، رغم انتمائها للاتحاد الأوروبي، ومن قبل للسوق الأوروبيّة المشتركة، الأمر الذي لم ينقذها من أزمتها الاقتصاديّة، ومن ارتفاع معدلات البطالة فيها. ومع ذلك، فإن البرتغال تحتل موقعًا متقدمًا في دول العالم من حيث جودة الحياة فيها، كما في استخدامها لمعطيات العولمة وانتهاج أساليبها.
***
وكما تكثِّف الفادو أحزان البرتغال، قد تجد تلخيصًا لها في مفردة واحدة ، فكلمة "سَوْدَادْ"، هي مفردة برتغاليّة بامتياز، وليس لها وجود إلاّ في اللغة البرتغاليّة فقط. لن تعذِّب أنفسنا في البحث عن مفردة رديفة في اللّغات الإنسانيّة الحيّة الأخرى، فلن نعثر على المفردة التي تترجم بدقّة المعنى الحرفي للكلمة أو تفي الكلمة حقّها في المعنى والدّلالات، فسوداد هي الكلمة البرتغاليّة التي لا تتقبّل رديفًا يحلّ من لغة أخرى، وهي الكلمة التي أعيت المترجمين في كلّ اللغات. البعض رأى أن الكلمة تتشابه مع كلمة "سوداويّة" العربيّة. لكن "سوداد" هي شئ آخر لا علاقة له بالسوداويّة. يقترح "المهدي اخريف" الذي عكف على ترجمة العديد من دواوين شاعر البرتغال الكبير "فرناندو بيسوا" عن الاسبانيّة، كلمة "نسطولوجيا" رديفًا لسوداد، رغم أنها: "ترجمة غير دقيقة لمفردة لا توجد في لغة أخرى غير البرتغاليّة ... بعضهم يترجمها خطأ بأنها سوداويّة. الأفضل الإبقاء غلى نوسطاليجية الأقرب دلاليًا وإيحائيًا إليها".
البعض يضع لها معنى الحنين،؟!
لا، هي شئ غير الحنين.
قد تقترب من الشّوق.. الاشتياق، لكنها تبقى أصعب أشكال الشّوق والاشتياق.
الشّعور بها ينطوي على متعة. لكنها تبقى المتعة التي نجدها كامنة في الألم وممتزجة فيه، وهي في الوقت نفسه النعيم الذي يتضمّن العذاب!
ولكن، إذا أردت أن تتنازل عن معرفة المعنى الدّقيق لكلمة سوداد، وتكتفي بما تشعّ به الكلمة من أحاسيس ورؤى ومشاعر، فاستمع إلى الدّيفا الحافية سيزاريا إيفورا (مغنية بالبرتغاليّة من "الجبل الأخضر"، تؤدي أغانيها وهي حافية، تحتسي الكونياك وتدخِّن بشراهة. توفيت في 2013). استمع إليها في واحدة من أشهر أغانيها التي حملت عنوان "سوداد": «من سيدلّك على الطريق البعيد؟ الطريق إلى ساو تومي" (حزيرة).
***
ربما يكون ملعب كرة القدم هو المكان المناسب لاكتشاف الهدوء الجماعي المتأصِّل، والسّلوك الحضاري، الذي تتجلى فيه سمات شخصيّة القرنفل المسالمة.
رغم استجابتي المتردِّدة قبل سنوات، والمفتقرة إلى الحماسة، لدعوة أصدقائي البرتغاليين لحضور مباراة وديّة لكرة القدم في ستاد نادي "بنيفيكا" الرياضي بين الفريق البرتغالي الذي يشجعونه، وفريق "أرسينال" الانجليزي، إلا أنني سعدت بالتّجربة. لقد وعدتهم أن أشجِّع "بنيفيكا"، على الأقل لأن ثأرنا السّياسي التّاريخي مع الإنجليز له شرح يطول. وقد اعترفت لهم، بأنها المرّة الأولى التي أشاهد فيها مباراة بشكل حيّ ومباشر لا تُعاد فيها الأهداف على الشّاشة، رغم سكني إلى جوار الاستاد الرّياضي لفترات طالت وقصرت، في عمّان وبيروت. أسعدني فوز البرتغاليين في المباراة، خاصّة في حضوري؛ جماليّة الاستاد وغلبة اللّون الأحمر فيه؛ تقليد تطيير نسرٍ في فضاء الملعب وتحليقه لدقائق ثمّ عودته إلى قفصه بأمان؛ المقاعد المريحة والنظيفة التي لم يفتك بها جمهور "الألتراس"؛ طغيان الحضور الأنثوي للمباراة؛ والسّلوك المتّزن للمشجعين. وكان عليّ أن أتخيّل الجمهور وشغبه الذي عُرف فيه قبل سنوات (قبل أن يتمّ لجمه)، لو أن اللّعب كان آنذاك على أرض "أرسينال"؟!
ربما يكون من حسن حظنا أن اليوم الثاني لوصولنا لشبونة للمرّة الثانية، كان يوم الدّخول المجاني للمتاحف وصالات الفنّ التشكيلي والمراكز الثقافيّة. الوقت لم يكن ليسمح بأكثر من زيارة معرض للزيّ التقليدي والأثاث القديم في صالة تقع في قلب العاصمة بالغة الهدوء والنظافة، في الشارع الحجري الصقيل والجميل الذي لا تعبره السيّارات "غوا أوغيشتا". ثمّ مشاهدة معرض للفن الحديث في مركز "بيليم" الثقافي، تترواح الحداثة فيه من لوحات قليلة لبيكاسو، وحتّى لوحة بحجم جدار شاسع مدهون بالبرتقالي ومسلّطة عليه الأضواء، يتجاوز قدرتنا على استيعاب الحداثة، لننتقل منه إلى متحف للآثار والمجوهرات القديمة التي تنتسب لشعوب شتّى، ومنها عديد من الآثار الفرعونيّة التي تسرّبت من مصر في واحدة من حقب الفساد الكثيرة هناك. لننتهي بجولة في "جيرينيموش"، المبنى القديم، الجميل، العريق، والضخم، الذي يطلّ على نهر التاجو والمحيط الأطلسي معًا، وكان في الماضي مسكنًا يعيش فيه الرّهبان في بيليم، الضاحية الواقعة على الطرف الغربيّ من لشبونة، والتي اشتقّت اسمها من مدينة ميلاد السيد المسيح: بيت لحم.
سنعود إلى بيليم مرّات عديدة، إن لم يكن لتأمُّل النّصب الحجري الضّخم على حافة التاجو، فلمشاهدة إحدى الفعاليات الثّقافيّة الكثيرة التي تقام هناك، ومنها زيارة صالة أخرى كانت تقيم معرضًا ضخمًا للمصوِّر الفوتوغرافي البرازيلي العالمي "سباستاو سيلغادو" الذي اقتحم بعدسته الشّغوفة وبالغة الحسساسيّة مناطق نائية لأقوامٍ بدائيّة ما زالت نعيش في أرجاء هذا الكون. وعلى أيّ حال، فإن من حالت ظروفه دون الاطلاع على أعمال هذا المصوِّر، ننصحه بمشاهدة الفيلم التسجيلي الطّويل "ملح الأرض" للمخرج الألماني فيم فيندرز". ولا يمكن لمن يزور بيليم أن يتغاضى عن فرصة تناول فطيرة "بيستاشيو دي بيليم"، في المحل الأشهر هناك في كلّ البرتغال، والمقام منذ أكثر من قرن. وسوف يدلّك عليه، الطّابور الطّويل الممتد على الرّصيف، أمام المحلّ، والموجود في كلّ الأوقات.
أمّا متحف "غولبنكيان" وحديقته الساحرة التي تتوسط أشجارها الظليلة بحيرة صغيرة، وتتناثر في أرجائها تماثيل حجريّة ومعدنيّة جديرة بالتأمُّل، فكان له يوم آخر. وهو على أي حال ما زال يجاهد لتطوير مقتنياته التي تتضمّن نماذج من اللوحات الكلاسيكيّة مع مقتنيات لأعمالٍ معاصرة، من دون أن تغلق المجال لإقامة معارض حداثيّة وتجريبيّة للفن المعاصر.
ولا تتوقّف الفعاليات الثقافيّة التي يقدمها المتحف في هذا الجانب وحسب، فهو يحرص على إقامة حفلات متتالية لأمسيات موسيقيّة، كلاسيكيّة خاصّة. وقد أتيحت لنا الفرصة لمشاهدة عروض مختلفة قي صّالته الحديثة، كما حظينا بمشاهدة مسرحيّة متميِّزة قدّمها نزلاء أحد السّجون في لشبونة. والجميل فيها أن الذين شاركوا هؤلاء السّجناء في التمثيل، هم أبناؤهم وأفراد عائلاتهم أنفسهم، ما أتاح لهم فرصًا للّقاء، لا في العروض المسرحيّة فقط، وإنما أيضًا أثناء التدريبات (البروفات المسرحيّة).
وقد تكون زيارة المتحف الفني في "كشكايش"، مناسبة لمشاهدة المتحف نفسه أيضًا، بقيمته المعماريّة، ناهيك عن تأمُّل أعمال التشكيليّة المعاضرة باولا ريغو، التي تتميّز بخطوطها المتمكنة، الصّلبة، القاسية والرّاسخة، حيث يتحوّل الباستيل في يديها إلى كثافة الألوان الزيتيّة ومتانتها. وفي الموضوع، ثمّة كابوسيّة داكنة تذكِّر بأعمال الإسباني فرانشيسكو غويا، وإن بموضوعات اجتماعيّة، تبدو فيها الولادة ألماً صرفًا، فيما يتحوّل الرّجل إلى كائن متضائل، مستكين بدعة لحضن امرأة لا تخلو من القبح، بينما يتحرّك الأطفال بوجوه تخلو تمامًا من الجمال والبراءة التقليديّة المعهودة والمتداولة.
وإن كانت أعمال "باولا ريغو" القويّة والجارحة لا تتقصّد رسم الجمال، وربما تغرق في جماليات القبح، فإن البناء المعماري الهرمي للمتحف الذي صممه إدواردو سوتو مورا، يبقى تحفة فنيّة في حدّ ذاته. كما أن موقعه على قمّة ربوة تعجّ بالأشجار المعمِّرة المتطاولة والخضرة لشّديدة المهيمنة على المكان، يمنحه مهابة معماريّة تحتضن أعمالاً إبداعيّة لا شكّ في أنها تترك آثارها في الرّوح. وإذا كان تصوير أعمال ريغو محظورًا داخل المتحف، فإن التقاط صورة لنافذة تركها المهندس مفتوحة على الفضاء الخارجيّ، أسهمت في الاحتفاظ بلوحة بالغة الجمال.. من صنع سوتو مورا، هذه المرّة.




متحفها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى