هاجر سالم الأحمد - طَقْسٌ مُؤجَل.. قصة قصيرة

خرجَ بسرعةٍ خاطفةٍ, وأغلقَ البابَ خلفه بعنفٍ يُجسدُ عصبيته. تَأملَ الحديقة الخارجية لحظة, وسارَ بغضبٍ خارجاً من فناءِ المنزلِ إلى الشارعِ, محاولاً الابتعاد عن صوتِ أبيه الصارخ فيه, وبكاء أخيه الرضيع الخائف من جلبة النقاش الحاد في المنزل. الأفكار متزاحمة في رأسه, والجُملُ التي حفظها من أبيه عن ظهرِ قلبٍ كلما شرعا في الحديثِ عن أمرٍ يخصُ شبابه تملأ فكره, لذا ترك قدميه تأخذانه إلى حيث تريدان, فليس لإدراكه القدرة على تحديد اتجاه سيره في تلك الساعة الفائضة بالغضب والانزعاج. ظل على نسقٍ من السير المصحوبِ بالتوتر, وأفكارهُ المتصادمة تخطو أمامه على عجل, هرباً من مخيلته الصغيرة التي لَم تَعُد تبصرُ ماهية الدرب, وحقيقة الأمور. مع جلبة الحوار الدائر في خلده, وتفاني قدرة قدميه على التكهنِ بالطريق الصحيح, شرعَ يصرخُ في نفسه: - لماذا هو هكذا؟! لا يعرفُ طرق النقاشِ العصرية! كل ما أخذه من والدي منذ أن وعيتُ الوجودَ هو الأوامر الصارمة, غيرُ القابلةِ للنقاش, لا يسمع مني أبداً !! ازدادَ غضبه من وقع هذه الجمل, فتوقف عن السير فورها في مكانه, وأعادَ التركيزَ إلى بَصرهِ ليجدَ على جانبه عُلبة مشروبٍ غازي فارغة, متروكة مع مجموعة من أخواتها, وبعض القطع من الكارتون الممزق... ودون تفكير أخذ يَركلَ إحدى العلب بقوةٍ مُفرغاً جام غضبه خلال تلك الركلة, وكالمجنونِ يضغط على الباقيات ويقلب أشكالها الاسطوانية إلى مسطحات لا معنى لوجوهها, ولم يكتفِ بهذا فقط, فعمد إلى صفع قطع الكارتون المرمية أرضاً بوجه حذائه. أفزعهُ خروج قطة من بين فتحات السياج الخشبي هاربة من الضجيج الذي أحدثه بأفعاله الصبيانية عبر الشارع إلى حديقةٍ أخرى. فهدأ روعه, وصمت غضبه لِلحظةٍ مُتأملاً خِفة حركة القطة, ولونها البني الممزوج ببقع بيضاء مشوبة بالصفرة. لكن سرعان ما عاد إلى أذنيه صوت والده المتذمر منه: ( كُنْ واقعياً ولو لِمرةٍ واحدةٍ في حياتك, لماذا تُريد أن تكون مقلداً للقشور دون الجوهر؟! ارحم بياض رأسي من أفعالك) ترك بصرهُ يجولُ في السماءِ, وقلبه ينادي طالباً من الخالق أنْ يرحمهُ من أسلوبِ والدهِ في الحياة. وبذلك سادَ بعضُ الهدوءِ في نفسه, وهدأتْ أعاصيرُ الطيشِ في فكرهِ. ترك يَديهِ تختبئانِ في جيبي البنطال الأسود الكحلي, وقدميه تخطوانِ باتزان ودون تعثر. عَبرَ الشارع الخالي, وأكمل خطوات عبوره لأسيجةِ الحدائقِ المنتظمةِ الصنع, وبعضُ الأغصان المتدلية تُلامسُ رأسهُ, وهو غيرُ مكترثٍ إلا لصوتِ الطفلِ الذي تَركه في المنزلِ, وحالة الحزن البادية على ملامح والدتهِ المتعبة! ترك لعاطفتِه المجالَ للتسربلِ حولَ أفكارهِ اليائسة من إيجادِ حلٍ لمشكلته مع والدهِ, وعدم التفاهم الدائم بينهما... وبدأ يسأل نفسهُ من جديد: _وماذا أفعل الآن؟ كيف أقنعه أنَّ حياتي مختلفة عن حياتهِ الماضية؟ إنَّ أيامَ شبابهِ مختلفة عن أيامنا هذه؟ هو لا يقتنع بأنني كبرت, وأصبحتُ مسؤولاً عن قراراتي. أنا من يعرفُ ما هو المناسبُ لي, وما يجبُ فعله, وما لا يجب! يَعترضُ على كلِ نمطٍ جديدٍ في العيشٍ, وكل (مُوضَةٍ) حديثةٍ, مستهزئاً بذوقي! لماذا لا يؤمنُ أنني خُلقتُ لزمانٍ غير زمانه؟!!! دبّ القنوط من إيجادِ شيء يُقنعُ به والده, وعادتْ هواجسُ الملل وعدم الارتياحِ القاسي تفيضُ في نفسه. تمعن في خطواته التي أصبحتْ متسارعة كدقاتِ قلبه, فوجدَ نفسه قد عَبرَ البيوتَ, مُقترباً من النهرِ المجاورِ للحي الذي يسكنه. لَم يُغير اتجاهَ سيره, بل واصلَ على عجلٍ للاقترابِ من الجسرِ القديمِ المحاذي للنهرِ, غارقاً في بحرِ أسئلةٍ لا جوابَ لها.. تأملَ نقاءَ الجو, وخضرة الأشجارِ المنعشةِ للروح, وزُرقة الماءِ اللامعةِ, وأحاسيسه تٌريهِ جمالَ الطبيعةِ ذنباً, وزَهوَها جُرماً؛ وهو القابِعُ في دنيا المصائبِ والهمومِ!! تأملَ نفسه في هذا المكان, فأوقفَ كلَ أدواتِ التفكيرِ عن عملها, وأخرسَ كل تساؤلٍ مُنبثقٍ عن نفسهِ, فوَقَعَ قراره الوحيدُ للخلاصِ, ظاناً أنْ لا شيء يُخلصه أبداً. راوده جنونُ الغضبِ ثانية, فعزمَ على خَلعِ حذائه, وسترته, وصعدَ إلى حافةِ الجسرِ الدانيةِ, وملامحهُ لا تَروي إلا الثقة العالية بصلاحِ رأيهِ, وأردَفَ مُخاطِباً نَفسه: - هذا الجسرُ لَم يشهد حادثة انتحارٍ مُنذُ أمدٍ بعيدٍ, لِذا سأعيدُ ذاك الطقس إلى هذا المكانِ مُتخلصاً من رفضِ والدي لتصفيفِ شَعرِي على النمطِ الحديثِ كَكُلِ الشباب. سيرتاح من وجودي. وأرتاحُ أنا من هذا الوجود البشع الرافضِ لنكهة التجديد!! همَّ بتحديدِ مكانه, ووضعية وقوفهِ على حافةِ الموت. لفتَ نظرهُ المُتردد منظر قطة من الجهة المجاورة للنهر تقتربُ من الماءِ. بسرعةٍ خاطفةٍ, وصوتُ مُوائها يَعلو في المكان, زلتْ أطرافها, فسقطتْ في الماء دُونما رجعة, وغاصتْ بعيداً عن النظرِ..... فوجئ الشابُ بما رآه, وبَدَا على ملامحه الخوفُ والعجبُ. نزلَ عن قرارهِ وعن منصةِ الانتحارِ, وجلسَ يرتدي حِذاءه بهدوءٍ مفزوعٍ, وهو يُتمتمُ في نفسهِ:- سأعودُ إلى البيتِ, انتهى الأمرُ. فقد أبعدتْ قطة الحي حادثة الانتحارِ عن هذا الجسر. مسكينة, لَم تسمح لها والدتها بأنْ تُصففَ شعرَ ذيلها كرفيقاتها على النمطِ الحديثِ ! ! ! .ـ


* نقلا عن بيت الموصل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى