كيفية ذبح الدجاج
* 1 *
تنهدت من اعماقها ، و تمتمت .
* 2 *
وكرت الى المطبخ عائدة ، و قلبها يخفق بين جوانحها جذلانا ، و لكنها أحست فجاة فى دخيلتها انها فعلت شيئا ادا و انها اجرمت فى حق اختها فتعالت دقات قلبها مسرعة و قد اجتاحها خوف لم تدر مأتاه ، و جمدت فى رأسها الافكار فلم تتبين من فرط عصبيتها الطارئة أخيراً فعلت أم شراً ، بل ظل ذهنها مشغولا فى اللحظة الحاضرة بما فعلته ، و اثاره التى ستحدث فى الساعات القليلة القادمة .
كان الموقد ما زال مشتعلا ، و صوته الرتيب يفيض فى اعماقها خدرا لطيفا ، بيد ان الخوف – مع ذلك – عصف بسكينتها – فنهضت واقفة ، و سارت فى الصالة الى غير ما هدف و قد وقر فى عقلها ان تخفى الصورة فى مكان أمين حتى تسكت تلك الريح العاصفة من الالم التى عصفت بأمنها و ارعشت اعماقها ، و اهتز قلبها هائجا .... لقد وقعت الواقعة و قضى الامر ...و لا فائدة ، و رأت اباها بعينيها الزائغتين يجلس على المكتب ، و لم تلحظ عيناها – بعد ذلك – اذا كانت يمناه تكتب ، او تمسك بالصورة ، و ارتدت الى المطبخ بجزع هائل ، و جلست بتراخ ويداها ترتعشان جميعا ، و صارت تحملق فى الزيت الساخن . و قطع البطاطس البيضاء التى تهبط فى أتونه و يفرقع منها الزيت ، و كادت تحرق اصابعها أكثر من مرة ....فهتفت من أعماقها متألمة :
* 1 *
تنهدت من اعماقها ، و تمتمت .
- أحان الموعد يا أحسان ؟ ما علهش ....راحت علينا يا خسارة ...
- ثم مسحتها بنظرة جانبية شاملة ، و هى تتجه الى المطبخ فرأتها تتألق فى ردائها الازرق الجديد و يداها تمسحان على شعرها الاسود الطويل ، فهزت رأسها متحسرة ، و اخذت تترنم بصوت خافت : " اروح لمين ، و اقول يا مين ينصفنى منك " و رفعت غطاء الاناء ، و نظرت ما فيه فراته يهدر و يفور فضمت شفتيها و نفخت بكل قوتها لتزيح البخار المتصاعد عن وجهها ، ثم مدت يمناها ، و اطفأت الموقد ، فساد السكون فجأة ، فقالت متأففة :
- صوتك مزعج يا شيخ ....يا ستار عليك
- ثم تذكرت احسان فغسلت يديها ، و خلعت ميدعتها و علقتها على مشجب هناك ، و أسرعت الى غرفتها ، فهالتها أختها بروعتها و رشاقتها فراحت تترنم بأبتسام و أصابع يديها تطرقعان فى الهواء : " جميل جمال ....مالوش مثال "
- حذار و الا صدقتك ....
- و رمقتها من جانب عينيها الواسعتين
- لا تصدقيننى .....أليس كذلك ؟ على اية حال انظرى الى المراة و ستعرفين حقاً صدق ما أقول ....انظرى ....
- و امسكت براسها بين يديها فى رقة ، ووجهته الى المراة و قالت فى مداعبة مرحة :
- المراة تتحدث أحسن منى ، ماذا هى " يا ست مراية ؟" ..
- و ثنت رقبتها ، و ارهفت اذنيها ، و كانها تنصت حقا الى همس خفيض :
- هل سمعت ما تقوله المراة ؟
- تضاحكت احسان ، و قد انصرف خجلها الى يديها فى مداعبة لا تعنى شيئا مع المشط
- و ماذا قالت المراة ؟
- تقول انك اجمل من الجمال و احلى من السكر
- لا يا شيخة .....
- و حملقت فى المراة ضاحكة ، و كأنها تتحقق من حسنها و قد ألتمعت عيناها فى سرور يهيج و قلبها يخفق بين اضلعها خفق سعادة و ابتهاج
- فى نفس المكان يا احسان ؟
- قالتها فوزية و هى تبتعد عنها بظهرها و يداها الكبيرتان الجافتان تصلحان من ملاءة السرير
- طبعا ....مكان السعادة لا يمكن ابدا تغييره
- اه يا شقية
- ثم مستطردة :
- اذكرينا مع المحبوب
- هذا اذا لم تغب عنك الذاكرة طبعا.....
- اتعرفين يا فوزية ؟
- و نظرت اليها محدقة و قد فرغت من زينتها :
- ما هى اجمل و اروع المنح الالهية للانسان ؟
- الجمال طبعا ....
- فى رأيى أنا ....الحب
- الحب ؟؟!!
- نعم – اه يا رب – انه لذيذ و رائع تحسينه فى كل كيانك فتشعرين بكل طيور السعادة تغرد لك و ترفرف من حواليك...
- لا يا شيخة ....و الله عال ....كل هذه الاشياء فى الحب
- و اكثر ....و اكثر يا فوزية ....احساس لذيذ ....
- لا استطيع ان اصفه لك ابدا فلابد ان تحسيه حتى تعرفيه ....
- طيب يا ست احسان ....لقد تحولنا الى فلاسفة و شعراء على اخر الزمان .....
- سوف ادعو لك الان باحسن الدعوات
- ادعى يا شيخة " ورانا ايه "
- يا رب امنح اختى فوزية الحب و الراحة .
- من قلبك يا احسان صحيح ؟
- من قلبى و الله يا فوزية ....صدقينى ....
- و تمدد بينهما سكون صغير ، اجفله صوت الام هاتفا :
- يا احسان الفراخ ماتت من الجوع فوق ...اطلعى اكليهم
- دقت الارض بحذائها الصغير ....رفعت صوتها فى غضب تمثيلى :
- يا سلام يا ماما يا سلام .....يعنى اكل الفراخ ( حبك ) الساعة
- ثم بصوت مرتفع :
- فوزية طالعة تأكلهم يا ماما
- رن صوت أمها من جديد ....
- و أنت على دماغك الريشة الذهب ....أختك طول النهار تعبانة و تخدم فى البيت .....
- يا ماما ....انا خارجه اذاكر مع ليلى ....
- ردت فوزية فى استسلام حسما لجدال عقيم ....تعرف فيه ان الدائرة ستدور و تقف عندها حتما
- انا طالعة ( ااكلهم ) يا ماما
- اشكرك يا فوزية ....يا احسن اخت فى الدنيا كلها
- ثم استدارت نحو المراة . تلقى نظرة اخيرة على زينتها و يداها تتحسسان عجيزتها
- سأخرج يا فوزية ....
- مع السلامة يا حبيبتى ....
- و أمسكت برأسها فى رقة ناعمة حتى لا تفسد عليها زينتها و قبلتها فى شفتيها ....
- متشكرة يا أحسن اخت " باى ....باى " ...
* 2 *
- نظرت حولها متنهدة أحست بضياع مخيف يلفها كدخان كثيف فشعرت من ثم بقلبها يغوص فى أعماق الحزن ...
- يا رب ...راحة القلب لاشىء أطلب سواها ....يا رب....
- اتجهت الى النافذة . فتحتها . اطلت منها . كان الشارع طويلا كما لو كانت تراه لاول مرة ، يبدو غاصا بالناس و الحركة و السيارات تتزاحم فيه ، و تضج بأصواتها السخيفة ، و رأت اختها تكاد تتوه – هناك – وسط الزحام لكنها تابعتها بعينين فاحصتين و هى تتحرك بين الناس خفيفة كالقط تخطر فى مشيتها كما الغزال حتى انحنت الى شارع جانبى غيبها فى داخله فقالت فى نفسها و هى لم تزل ترتفق حافة النافذة :
- جميلة ....لكن ساقيها عجفاوتان
- و مطت شفتيها ، و هزت راسها ، و غادرت مكانها من النافذة ، و توجهت الى المراة و كانها تذكرت شيئا قد غاب عنها و رفعت ذيل جلبابها القذر الى ما فوق ركبتيها و راحت تنظر خلفها الى ساقيها الممتلئتين و تتحسسهما فى اعجاب مشدوه و تقارنهما بساقى اختها ثم تبتسمت ، و قالت بصوت هامس :
- جميلتان ....يا فوزية ....رائعتان ...لقد صدقت ايها الفتى يا من قابلتنى فى طريقى ، و مدحت سيقانى ...انى مازلت احفظ كلماتك و لن انساها ( و الله اجمل " رجلين " ) ... اجمل " رجلين " و اروع ساقين ...صدقت ...صدقت يا من لم ترك عيناى ، و لن تراك .... و انحنت الى المشط تلتقطه ، و راحت تصفف به شعرها المموج القصير و تغطى به اذنيها الكبيرتين ....ابتعدت عن المراة و اخذت تتحسس بيديها وجهها الشاحب الجاف الذى بدأ فى هذه اللحظة هادئاً مصفراً قالت تناجى نفسها :
- شعرى جميل ، و لو سمح ابى لذهبت الى ( الكوافير ) كما تفعل ابنة عمى ( مديحة ) و لرجعت عندئذ بأجمل تسريحة تذرى تماماً بشعر احسان .....ثم حدقت الى صورتها فى المراة ....و تابعت كلماتها :
- و مع ذلك فانا السبب ....فانا مهملة .....
- و سكتت قليلا ريثما تبتلع ريقها ....
- ابدا ....فلو كنت امتلك مزيدا من الوقت لاهتممت بشعرى ، و قمت بتمشيطه فى كل ساعة كما تفعل احسان ....
- و هزت راسها و استطردت فى هدوء ....
- ثم انى اتميز عنها فى ذات الوقت بميزة الطول و الحوض الواسع ، اللذين ينقصانها حقا ....
- و لم تتوان و امسكت بردائها و ضمته من ناحية الوسط فبرز فى التو نهداها الكبيران ، و بان حوضها الضخم تحت خصر نحيل ، و التفتت الى الخلف تنظر بعينها جميعا الى ردفيها الثقيلين ، و قد استكانا فى دائرة مشقوقة ، أشبه شىء بكرة هائلة تتعلق فو قمة ساقيها الممتلئتين ....
- يخرب عقلك يا فوزية ( ايه الحلاوة دى يا بت )
- و ضربت بكفها على ردفيها فى سرور :
- منك لله يا بعيدة ...واقفة هنا قدام المراة و الفراخ فوق السطح تصرخ من الجوع .... يعنى لابد من تذكيرك كل ساعة يا فوزية ....يا ستار عليك يا شيخة .....و كانت هى امها دخلت الغرفة عليها فجأة و لمحتها تمعن النظر فى المراة و تتحقق من فتنتها و زفرت زفرة طويلة كما تفعل كل أم فى هذه اللحظات
- ربنا يرزقك بأبن الحلال....
- ارتبكت ....اهتزت ....ظنت ان امها قد قبضت عليها و هى تفكر فى نفسها فخجلت و قالت بأستكانة :
- انا طالعة يا ماما ....طالعة
- وضعت قدميها فى داخل الشبشب . توجهت الى المطبخ ، ثم غابت قليلا فيه و عادت تفتح باب الشقة ، فى ضجر غاضب ، حاملة بين يديها طعام الدجاج ، وراحت تصعد السلم فى تأن و ضيق ، حتى اذا أتمت صعودها ، وقفت تلهث و تتحسس ظهرها بيسراها ، و قالت تتنهد :
- يا تعبى كل يوم ....يا تعبى ....
- و ما ان شاهدتها الدجاجات ، تحمل بين يديها طعامها حتى هرولت إليها صائحة تتقافز من حولها فقفزت " احسان " قفزة عالية ، تقصد الطبق الذى فى يدها بينما اسرعت " فوزية " فى اعقابها تجرى ، و تقفز نحوها هى الاخرى بينما ظل " فؤاد و حمدى " يتصايحان ، و يلفان حواليها فتضاحكت و راحت ترف الاناء و تخفضه فى مداعبة مرحة و الدجاجات تصيح و رؤوسها الصغيرة تلف و ارجلها القصيرة تحملها فى خفة وراء الاناء ، الذى يحاورها صاعداً ، هابطاً حتى تمكنت " فوزية " بقفزة رائعة منها ، أن توقعه على الارض فهبطت عليه كلها فى نهم جائع ، تزدرده فى سرعة ، و كأنها فى مسابقة حمى وطيسها . تجولت بعينيها فيما حولها ، فلمحت تحت قدميها عصا صغيرة ، انحنت اليها و التقطتها و راحت تعابث بها " فؤاد " الديك الاحمر الكبير ، و تضربه على عرفه الاحمر القانى ، فيجرى الديك منها صائحا لقد كان يحمل اسم اخيها الاكبر " فؤاد " و كانت الدجاجات كلها تحمل اسم كل فرد فى العائلة كما اسمتها امها و هى لم تزل كتاكيت بعد .
- آه يا مجرمة
- قالتها بصوت مرتفع و مدت رجلها اليمنى و ركلت بها " احسان " الدجاجة السمينة ذات الريش البنى الجميل فوقع الديك الابيض ذو العرف الاحمر الكبير من على ظهرها و هو يصيح مبتعداً و كأنه يتوعد بينما جرت الدجاجة امامه ، تنزوى فى ركن بعيد ، تصيح و تقاقى و كأنها تستنكر
- و اذ طال وقوفها . راحت تسلى نفسها بالنظر من فوق السطوح ، و تطل على الشارع الطويل المزدحم بالعربات و الناس بيد انها أحست بسأم هائل يسرى فى دمائها فينشر ألماً خفياً فى روحها ، حتى المناظر المألوفة التى اعتادتها و ألفتها كل يوم ، و التى كانت تحبها فيما مضى من الايام ، لم تعد كما هى الان و تمنت من صميمها لو تبدلت بغيرها و رفعت يدها بحركة لا تعنى شيئا سوى الضيق و السأم و شرد ذهنها بعيداً . " كانت تعود اليها بعد ما تقابله ، و تحكى لها الساعات الطويلة عما دار بينهما من حديث حتى اللمسات الصغيرة بينهما لم تكن لتنساها ابداً فتقصها عليها بكل وقائعها و دقائقها " .
- آه يا رب ....لماذا أفعمت قلبها بالفرح؟ ، و ملأت كأس حياتها بالحب حتى تشربها وحدها دهاقاً ....بينما أنا أظل أعيش بين أسرتى كخادم حبيس ، تعمل فى الصباح و المساء ، دونما شكوى أو ألم حتى الشهادة التى حصلت عليها بعد تعب جهيد ماذا أجدت على ؟ . نعم ما نفعك أنت يا شهادة الثانوية العامة يا من تقبعين فى صيوان ملابسى ، ورقة مسطورة بكلمات لاخير فيها .....أما انت يا احسان فمع انك لا تزالين تتمتعين بالكثير ، مما حرمت انا منه : تتمتعين بالنزق ، و الطيش مع اننى لا اكبرك – و الله – الا بثلاثة اعوام .....انت فى السابعة عشرة و انا فى العشرين و مع ذلك فأنا أختك الكبيرة – الكبيرة جداً – و تحمر عيناك لتحصلى على ما تريدين ....أما أنا فكيف ابكى و انا كبيرة عيب على البكاء .....لماذا ؟ لاننى كبيرة ....." عيب يا بنتى انت كبيرة " هذه كلماتك يا أمى ....انا كبيرة فعيب على البكاء ....أأنا كبيرة ؟ سامحتك رحمة الاله يا ست ماما ...ثم انك يا احسان قد اعفتك اسرتنا العادلة كثيراً من اعمال البيت التى سخرت انا لها تماماً ، اما عن خروجك فما اكثره .....لارقيب عليك ، و لا حسيب ...اما انا فلماذا اخرج؟ ، و ربما يأتى ابى و سيادته يحتاج الى ابداً ....لماذا ؟ لاعمل له قهوته . ثم انت يا احسان تحبين فتى جامعياً ، سيتخرج عن قريب : وسيم و غنى و من عائلة ....آه يا احسان حياتك حظ ، فحظ ، اما قلبى فيزيد ان يخفق و لكن الاحزان قد باتت جزءا من دمائه فهو ابدا ينوء بالهم حتى " شاكر " أخ صديقتى ( عفاف ) تودد الى فرددته عن نفسى بغبائى الاحمق فما عاد و ما رانى الا ويلقانى بخشية و احترام
- الناس تحترمنى لانى جادة و لكنى سئمت الاحترام اريد ان اكون مثلك يا احسان ....مثلك انت ايتها الطائشة يا من تحملين فى نفسك الفجور "
- فوزية ....يا فوزية ...
- وردها النداء الزاعق ، مسرعا الى نفسها ، فقالت بصوت خافت مكروب :
- ابى حضر و يريد قهوته ....انا اعلم ذلك علم اليقين فنداؤك لى يا ست ماما لا يعنى الا شقائى و تعبى كلكم – يا ايها الظالمون – تستريحون لاتعب انا
- و مسحت عبراتها بيديها
- و قالت امها ، و هى تهبط السلم :
- لماذا تغيبت فوق ؟
- كنت اتفرج من فوق السطوح .....
- طيب تعالى اعملى القهوة لــ ...
- قاطعتها بمرارة :
- بابا حضر
- نعم
- فجمجمت فى نفسها ساخطة ....
- ينقصنى بعد ذلك ان اعلق فى ساقية لاديرها و اروى بها ارض اسرتى الظالمة
- و جاء صوت والدها و هى فى المطبخ يناديها ...
- يا فوزية ....بنت يا فوزية ...
- الرحمة يا ناس ....انا انسانة مثلكم و الله ....
- ثم بصوت مرتفع ....
- نعم يا بابا ....
- و كانت تبكى ....و اقبلت اليه بخطوات مهرولة فراته جالسا على الاريكة بجلبابه الاخضر و منظاره فوق انفه بينما جلست امها عن يمينه فى استرخاء مريح و قد انسكب هدوء هائل على وجهها الابيض
- احضرى قلما و ورقة لاكتب خطابا لاخيك فؤاد
- و علقت امها قائلة :
- اه و النبى " دا غيابه " طال و اشتاقت نفسى لرؤياه ....
- حدقت فيها مليا ...." هذه انا : خادم .....خادم " ....
- و دخلت غرفتها و رجعت اليه بقلم و ورقة
- و قالت امها :
- لا تنسى ان تقلى البطاطس بعد القهوة
- قال ابوها و هو يحدجها ببصر حديد من خلف منظاره :
- انت غبية يا بنت ، كيف اكتب و ليس هناك " ما اسند " عليه
- و قالت امها :
- دعها تلاحظ القهوة لئلا تفور
- طيب ( غورى ) و انا اكتبه فى غرفتكم
- و ارتدت الى المطبخ ساخطة و اعماقها تمور بغضب حبيس امسكت بيد الكنكة الخشبية ، و نظراتها الحزينة تطفو على سطح القهوة الذى اخذ يتعالى الان وئيدا فى صمت .... حتى اذا كادت تفور ....رفعتها عن راس الموقد المستعر وصبتها فى كوب صغير و ذهبت بها الى ابيها ثم عادت مرة اخرى الى المطبخ تقشر حبات البطاطس
- يكتب الخطاب فى غرفتنا
- و قطب جبينها كانها تذكرت شيئا......
- يا خبر ربما يفتش بين الكتب فيكتشف الصورة اللعينة ، فتقع الطامة ....و لكن ....لا
- و اسرعت الى غرفتها و انتزعت الصورة من تحت الكتب المرصوصة و خبأتها تحت مرتبة السرير ، و عادت الى المطبخ مسرعة ....بيد ان فكرة عجيبة ومضت فى رأسها فجأة و جعلتها تسرع الى غرفتها مرة ثانية ، و قالت لنفسها فى صوت مبتهج مسموع :
- أعظم فكرة و الله .....يا سلام ....أما أنا بنت صحيح
- ثم ضربت بيدها على جبينها مشجعة و ابتسمت فى سرور ، و نظرت حواليها و اخرجت الصورة بخفة و امسكتها بين كفيها و راحت تلقى عليها نظرة أخيرة فاحصة متمعنة
- كانت الصورة ( كارت بوستال ) لأختها و حبيبها و قد وقفا متجاورين فى ابتسام و يداهما متلامستان فى حب و كان هو واقفا وسيما عليه سيماء الرجولة بينما وقفت اختها بجانبه و الفرحة تطل من وجهها المعبر الجميل ....
- يا سلام على الهيام ....يا سلام
- و قلبت الصورة على وجهها فظهر فى التو قلب كبير كتب فوق قمته ( معا الى الابد ) كان القلب مرسوما بعناية و فى دخيلته رسم ايضا قلبان صغيران قد وشيت حوافيهما بالاحمر .... كتب على احدهما ( احسان ) و على الاخر ( محمود ) و عرفت خط اختها فى كلمة محمود ، و خط حبيبها فى ( احسان ) لقد تبادلا كتابة اسميهما معا فيالهما من عاشقين و ابتسمت من اعماقها و قالت فى سخرية :
- معا الى الابد .....لا ايها المدنفان بحبهما لن تكونا معا الى الابد . وضحكت .
- لا ...يا ابا حنفى ....ابحث لك عن عروس اخرى تكون معك الى الابد....
- و امسكت بالكتب ، و رفعتها قليلا و اعادتها الى مكانها تحت اخر الكتب كما كانت ....بحيث ظهر طرف منها لا باس به يدل عليها و يظهرها بوضوح و دقت على المكتب براحة يمناها و قالت فى انتشاء :
- عاشت المساواة بعد اليوم
وكرت الى المطبخ عائدة ، و قلبها يخفق بين جوانحها جذلانا ، و لكنها أحست فجاة فى دخيلتها انها فعلت شيئا ادا و انها اجرمت فى حق اختها فتعالت دقات قلبها مسرعة و قد اجتاحها خوف لم تدر مأتاه ، و جمدت فى رأسها الافكار فلم تتبين من فرط عصبيتها الطارئة أخيراً فعلت أم شراً ، بل ظل ذهنها مشغولا فى اللحظة الحاضرة بما فعلته ، و اثاره التى ستحدث فى الساعات القليلة القادمة .
كان الموقد ما زال مشتعلا ، و صوته الرتيب يفيض فى اعماقها خدرا لطيفا ، بيد ان الخوف – مع ذلك – عصف بسكينتها – فنهضت واقفة ، و سارت فى الصالة الى غير ما هدف و قد وقر فى عقلها ان تخفى الصورة فى مكان أمين حتى تسكت تلك الريح العاصفة من الالم التى عصفت بأمنها و ارعشت اعماقها ، و اهتز قلبها هائجا .... لقد وقعت الواقعة و قضى الامر ...و لا فائدة ، و رأت اباها بعينيها الزائغتين يجلس على المكتب ، و لم تلحظ عيناها – بعد ذلك – اذا كانت يمناه تكتب ، او تمسك بالصورة ، و ارتدت الى المطبخ بجزع هائل ، و جلست بتراخ ويداها ترتعشان جميعا ، و صارت تحملق فى الزيت الساخن . و قطع البطاطس البيضاء التى تهبط فى أتونه و يفرقع منها الزيت ، و كادت تحرق اصابعها أكثر من مرة ....فهتفت من أعماقها متألمة :
- آه يا رب ....لماذا فعلت ما فعلت ؟
- و طفقت تدعو ربها الا ينكشف أمرها ، و صارت تعد الكلمات فى نفسها لتقابل بها اختها بعد ذلك ، و اخذ خيالها المحموم بالفزع يتخيل مجىء أختها و ما سوف يحدث لها و هى من تعرف اباها عند الغضب
- اجل انا اعرفه فهو رجل عنيد ، عصبى المزاج ، لا يمكن التفاهم معه ابدا و اذا اصر على شىء فهو يصر عليه بعناد و اصرار ، اغلب الظن انه سيقسم الا تذهب ابدا الى المدرسة و ربما زوجها لاول قادم حتى و لو لم يكن ندا لها ...هذا اذا لم يحدث بالطبع شىء اخر
- و احست بالرهبة تسرى و تلدغها فى كيانها كالكهرباء و لم تدر ماذا تفعل بل كل ما هنالك انها راحت تدعو الله من كل اعماقها الا يعرف ابوها ، انها كانت تتستر على اختها ، و ترشدها بنصائح الحب و ارشاداته
- اما ( احسان ) فكانت تخشى امرها تماما وودت من صميمها لو مرت الحوادث هادئة دون ان تعلم شيئا عما فعلته و قالت فى دخيلتها مخادعة :
- طبعا لابد لابى ان يعرف ، فهو وحده الذى يستطيع شفاءها من حبها المريض اما انا فقد نصحتها فى اول الامر و لكنها لم ترعو ، و من يدرى ربما يتطور الامر فتخرج من تجربتها محطمة شر تحطيم ، و هى شقيقتى على كل حال ، و امرها يهمنى كأخت كبيرة لها ، و بذلك أكون مسئولة عما حدث لها ...ألست الطرف الثالث فى حكايتها ؟
- و صمتت برهة لكنها أحست مع ذلك ، انها لم تخمد صوت الشك فى قلبها تماما
- كان واجبى ان أخبر أبى أو أمى ....و لكن ليست هذه هى الطريقة الصحيحة كما اعتقد ، لقد أخبرت ابى بطريقة غير مباشرة ....و هذا عين الحكمة كما ارى . و ابتسمت ....فتحت فمها ثم اغلقته ، و كأنها تبتسم حقاً ، و عاودتها الرعشة من جديد فنهضت متثاقلة و الخوف يثقل ركبتيها جميعاً ....و بخطوات متلصصة خرجت ، و بحذر شديد نظرت ....فرأت اباها ما زال منحنيا بمرفقيه على المكتب ....فجرت الى مكانها مسرعة خشية ان يراها و قلبها يخفق بين اضلعها خفق طائر ذبيح راحت تسلى نفسها من جديد بالنظر الى الزيت الذى يغلى ، و قطع البطاطس و هى تتلون و تحترق فى اتونه و يبدو ان النظر الى هذه الاشياء جميعا قد ابعدها عن التركيز فى افكارها و لكنها لم تلبث الا قليلا ، حتى نهضت مرة اخرى ، و بخطوات نعمها الخوف و الترقب بصرت بحجرتها من الصالة فلم تر اباها ...كان المقعد شاغرا من ابيها ، فشملها فزع مفاجىء و اسرعت تجلس على المقعد من جديد و قد احست كأن اغماء سيشملها فى التو ، فخفضت من صوت الموقد حتى تهدىء من اعصابها الثائرة و عندما امتدت يمناها ، و اطفأته بعد قليل ، رأت نفسها تسبح فى ضياع عميق ، ماذا عليها ان تفعل بعد ذلك ؟ ....ووقفت برهة تغسل يديها ، و تفكر و لم يسعفها التفكير السديد ، فتشجعت و تماسكت قليلا و خطت الى الصالة و دخلت غرفتها و نظرت بقلب واجف الى موضع الصورة فلم ترها ايضا ، و فتشت بين الكتب ، و تحتها بيدين عصبيتين ، مرتعشتين فلم تجدها ايضا فاتجهت الى النافذة و اطلت منها ، و بأعصاب مرتخية واجفة ، هتفت من اعماقها :
- يا رب ...اجعل هذه الليلة تمر بخير و سلام ....يا رب
- و اغرورقت عيناها بدموع الخوف ، ثم انتابها رعب مفاجىء ، فماذا لو دخل عليها ابوها يستنفر امر الصورة و عندئذ راحت تدير فى راسها حوارا ، خياليا بينها و بين ابيها و اخذت تترقب دخوله بين لحظة و اخرى و بدأت تحادث نفسها :
- لو كان يريد استفسارا ، لنادى على و انا فى المطبخ و لكن .....و لم تدر كيف تفكر
- ربما يدفعها لامى لتتأمل صورة ابنتها .....
- وودت لو ترى أباها فى هذه اللحظة ، حتى تهدأ اعصابها فأرهفت اذنيها ناحية الباب ، تتصنت فلم تسمع شيئا فتشجعت قليلا و أطلت برأسها فى حذر حاذر فلم تر شيئا ايضا فتشجعت اكثر ووقفت فى الصالة ، فلمحت اباها يجلس فى الشرفة ساهما كعادته حين يهمه التفكير فى شىء ما ، بينما جلست امها على الاريكة ترفو شيئا فى يدها ، و اطمأنت قليلا ، و تراجعت ، ودخلت غرفتها هادئة الاعصاب ، تبتسم لنفسها :
- يا خبر لماذا انا خائفة ، و هل هى صورتى حتى تتحطم اعصابى على هذا النحو و هل انا التى أحببت ؟
- و تماسكت أكثر و قالت تحادث نفسها :
- لو فرض مثلا ، و جاءنى ابى و سألنى لقلت اننى لا ادرى عن الموضوع شيئاً و لانتهى الامر
- و مرت الدقائق عليها ثقيلة كما الصخور ، بطيئة كالدهور و تاقت نفسها الى الهروب : بالنوم او بالخروج و من ثم استلقت على سريرها و راحت تنظر السقف فى شرود هائم ، و لكنها مع ذلك أحست بأنياب السأم من جديد تقضم روحها فنهضت متثاقلة و راحت تعيد تنظيم بعض الاشياء فى غرفتها ، بيد انها لم تلق فى ذلك ايضا عزاء ، لاعصابها المشدودة فأخذت تتسلى بالنظر الى الشارع المزدحم ، و اخذت تنظر الى كل شىء فيه بعينين زائغتين لا تبصران شيئا ابدا و طالت وقفتها دقائق كثيرة و هى مستندة بمرفقيها على قاعدة النافذة . نظرت الى السماء . فرأت العتمة تنزلق واهنة ، صامتة على افق الشرق القريب ، و تبتلع كالمجهول بعض المدينة البعيدة ....هزت راسها لقد حل المساء و اوشكت " احسان ان تعود " ....و نفخت فى ضيق و اعتمدت راسها بكفها محزونة
- كان ضجيج العربات ، و صوت مذياع المقهى التى تقع امامهم مباشرة يملأ الجو بضوضاء سخيفة ...لم ترنح له نفسها كثيرا ....و تبعثرت الاحداث فى راسها ، فراحت تفكر فى اشياء كثيرة فى وقت واحد ، حتى تنبهت على صوت جرس الباب الذى تتابعت زناته فى جلجلة مثيرة فأجفلت و قالت فى نفسها ( انها هى ) ...ثم جرت الى الباب تفتحه هاتفة :
- طيب ....طيب
- *4*
- و فتحت الباب ، فاندفعت اليها احسان فى فرح غامر ظاهر و الابتسامة السعيدة ، تستقر على شفتيها فى سرور طاغ ، و مدت راحتيها فى سعادة تربت وجنتى اختها فى رقة حبيبة بينما وقفت هذه ساكنة ، شاردة تعالج على فيها ابتسامة شاحبة ، محزونة لم تلحظها احسان بين مرحها الهائل و عتمة الماء و برز ابوها فى غرفته و كأن الارض انشقت عنه فجأة و نادى بصوته الجهورى الاجش
- احسان .....تعالى هنا
- حاضر يا بابا
- و مدت يسراها فى مداعبة مرحة ، وقرصتها فى ردفها و انفلتت برشاقة تسرع نحو ابيها الذى وقف فى غرفته متحفزا ، و ارتبكت فوزية فى هلع خائف كنبت تتلاعب به الرياح ، و اسرعت تدخل المطبخ دون ما هدف واضح فى ذهنها، بينما ظلت خطوات اختها المنتظمة الرشيقة تتابع فى اذنيها عبر الصالة حتى تلاشت تماما ...و حدثت نفسها متنهدة :
- آه ...لقد انفجرت القنبلة ...النجدة يا رب ....النجدة ....
- و سمعت اباها يقول لها فى نبرات تتفجر بالوعيد :
- اقفلى باب الشرفة
- و سمعت فى نفس الوقت صرير باب الغرفة يغلق فى عصبية شديدة فأدركت فى التو ان اباها يحوطها بأبواب مغلقة حتى تنال جزاءها العادل . فخرجت الى الصالة متلصصة فرأت غرفة أبيها قد اغلقت فعلا كما حذرت فى نفسها ، و سمعت ....فتمتمت فى هدوء ساخر و البسمة السعيدة ترف على شفتيها
- تلقى الجزاء يا ست احسان .....و اذا اردت الحب ، فلتحبى بإذن الاسرة
- و استوقفتها كلمات مرعدة من ابيها :
- يا مجرمة ...يا قذرة ....
- و سمعت بعد ذلك صوت أمها الجازع الهالع :
- لماذا فعلت ذلك يا بنتى ؟
- ثم تعالت صيحات ابيها بكلمات سريعة غضبى ، لحقتها فى التو ، اصوات استغاثة صارخة ، و انين و نشيج حزين ، ثم سمعت كوبا يتحطم بقوة ، و فتح الباب فجأة فى ثورة هائلة أشبه شىء بالانفجار فتوارت فوزية خلف غرفتها و تعالت الضجة اكثر مما سمعت و جرت احسان فى الصالة مهوشة الشعر ، تبحث بعينيها عن ملجأ يحميها أو شىء تختبى فيه ، و دموعها تتساقط بغزارة فى نشيج عنيف و رداؤها الازرق الجميل قد قد من دبر ، فبان قميصها النايلون الابيض و أظهر ساقيها الرقيقتين ، و لحقها أبوها و عندئذ أمسكها يشدها من شعرها ، فأختل فى التو توازنها ، و انطرحت على وجهها بقوة جسدها فأنبثق الدم غزيرا من أنفها ، فغطى فمها و ذقنها و سال على نحرها خيوطا سائلة متتابعة فبلل قميصها ، و رداءها بينما كانت يداها تضربان فى الهواء كالغريق بين الامواج ....و تصرخ فى بكاء مكلوم :
- سامحنى يا بابا ....انا اسفة و النبى ....( أبوس رجليك ) يا بابا ....عمرى ( ما انا ) خارجة مرة ثانية .....انا غلطانة ....غلطانة و النبى ....اتركنى فى ( عرضك ) يا بابا ....
- كان المنظر مثيرا ، و حزينا ، بينما ظل ابوها يشد شعرها و يلطم رأسها بجمع يده و يركل ظهرها ، و ساقيها ركلات مجنونة على حين وقفت امها فى ذعر هالع ، تدق على صدرها فى جزع حزين ، و دموعها تنهمر من عينيها و لا تستطيع حراكا خوفا من بطش زوجها و عصبيته ....و كانت فوزية تقف فى مدخل غرفتها و لا تتكلم و تشاهد المعركة دون حراك
- صرخ الرجل فى غيظ متأجج و قد نال منه الجهد تماماً ، فحرر قبضته من شعرها بعد ما تعلقت فى يده خصلة كبيرة من شعرها الجميل كان قد انتزعها من رأسها :
- على الطلاق بالثلاثة من بيتى ....عمرك ( ما أنت ) داخلة المدرسة و لا اى مدرسة بعد اليوم ....الاعدادية حصلت عليها ....عظيم كل ( الحلل ) فى المطبخ تنادى عليك بالغسيل ....
- ثم دهمه سعال مفاجىء ، فراح يسعل بشدة
- الله ينكد عليك ، و يلعنك فى كل كتاب يا مجرمة
- و قاطعه السعال من جديد ، حتى اذا خفت حدته ، قال مهددا :
- المريلة ساقطعها ، و الكتب كذلك ....و كل ما يخصك للمدرسة ....و لا مدرسة بعد اليوم انت فاهمة يا فاجرة
- ثم اندفع كما الثور الهائج الى غرفتها ، فتنحت له فوزية عن طريقه ، و خرج بعد دقائق يحمل حقيبتها ، و كراساتها ، و كل كتبها التى كانت على المكتب و مريلتها ايضا ، و راح يعمل فيها التمزيق و التقطيع امام بصرهم جميعاً ، و كأنه غول خرافى قد مسه الجنون ، بينما كانت احسان ترنو اليه فى خوف ، و غضب و قد انكمشت على نفسها ، و دموعها تهطل من عينيها بغزارة .
- و كانت ليلة رهيبة ، لم تشهدها عيناها قط ....كانت فيها الدموع و الاحزان و الغضب و اليأس و الكراهية ، أصدقاء ليلتها التعيسة ، و عندما جمعهما المساء الحزين ، سألت اختها بين دموعها :
- من دله على مكان الصورة يا فوزية ؟
- أنت يا احسان
- انا ....مستحيل !!
- قالتها فى ذلة و استغراب :
- نعم ....هل كنت تعتقدين ان صورة خطرة مثل هذه مكانها الصحيح تحت الكتب و الكراسات ....دون ان تأخذى حذرك لاى موقف تتعرضين له
- لقد كنت اريها لك يا فوزية
- ليكن ....لقد كان الواجب ......يحتم عليك ان تخبئيها فى مكان أمين
- آه صحيح ....حظى يا فوزية ....نسيتها ....ماذا أفعل ؟ ...لا ينفع – كما يقال
- حذر من قدر
- ثم سكتت قليلا و مسحت دموعها ، و استطردت :
- و لكن كيف راها بابا يا فوزية ؟
- كنت يا ست اقلى البطاطس فى المطبخ ، حينما دخل يكتب خطابا لاخيك فؤاد ....و لكنى لاحظت و انا امضى فى الصالة انه يفتش بين الكتب ....فقاطعتها بحزن مرير :
- ألم تستطيعى ان تخبئيها فى مكان أمين يا فوزية ؟
- عجبا لك يا احسان ...اعرف انه سيدخل غرفتنا و لا اخبئها ....يا ليتنى كنت اعلم ، فما كان ذلك ليحدث ابدا ....و لكن .....
- و تنهدت من اعماقها كمن تأسى على شىء عظيم ، و استطردت تقول فى هدوء :
- و لكن – بينى و بينك – عندما شاهدته يدخل الغرفة ....انتابنى خوف حقيقى ، فقرأت الفاتحة و دعوت الله ان تمر الليلة بخير و سلام ..... و حين لاحظت انه يقلب بين الكتب ( ركبى سابت خالص ) و قلت فى نفسى : لقد ضعنا سويا ....
- فقالت احسان فى حزن قانط :
- انت ....لا ....انا التى ضعت وحدى ....انا وحدى فقط التى ضعت دون رحمة
- و بدأت دموعها تهطل من جديد
- ( ما علهش ) ....يا احسان ....بابا طيب و ابن حلال
- لا ....ابدا ....بعد تقطيع الكتب و المريلة تعتقدى اننى سأذهب الى المدرسة بعد ذلك .....مستحيل ....أنا عارفة بابا ( كويس )
- و اهتز جسدها فى نشيج حاد ، و احست بكل أحزان الدنيا تتجمع فى قلبها الصغير حتى ودت من صميمها أن تموت ....و فاض فى قلبها شعور جارف بالاسى و الكراهية لابيها و امها و اختها و كل اسرتها بل و كل العالم و من بين دموعها قالت فى صوت مسحوق :
- يعنى لن اخرج و اقابله بعد ذلك يا فوزية
- فقالت فوزية تنهرها فى ضيق :
- يا سلام يا احسان انت عجيبة جدا ( انت فى ايه و اللا فى ايه دلوقت ) ....
- صحيح ...انا ( فى ايه ، و اللا فى ايه دلوقت )
- و راحت تبكى من جديد
- *6*
- و مرت بعد ذلك ايام كثيرة ، مضت بطيئة اسية و هى تحفر فى قلبها ابارا من الحزن و الالم حتى كرهت كل حياتها و لم تحس لها معنى و عندما كانت تهب عليها ذكرى الحبيب تروح تختبىء فى مكان ما ، ثم تنشج نشيجا هائلا و كانت كلما تذكرت اخاها فؤاد و حدبه عليها تتملكها رعشة مفاجئة و تدمع عيناها و كانت تقول فى نفسها حينئذ :
- سيعرف حكايتى حتما و سوف يحتقرنى و يكرهنى .....آه .....يا رب
- و تعود تبكى ....حتى اذا كان الصباح جاءت امها تتضاحك و قالت توجه الخطاب لها و لاختها و كانتا فى المطبخ :
- ( بنات ) ......( اخوكم ) فؤاد سيحضر فى المساء
- و رفرف قلبها فى صدرها متألما كالذبيح و هتفت من أعماقها قانطة :
- يا رب
- و قالت فوزية فى مرح سعيد و كانت تحب أخاها :
- صحيح يا ماما
- لقد أخبر أباك فى المساء بقدومه بالتليفون و لكن أباك نسى ان يخبرنى فأخبرنى فى الصباح
- ثم سكتت هنيهة و استطردت مبتسمة :
- و هو يحب أكل ( الفراخ ) كما تعلمين
- فقالت فوزية فى سرور :
- اكله المفضل انا اعرف الناس به
- طيب ....و النبى يا فوزية .....اطلعى الان و اذبحى أكبر و احســــــــــــن ( فرخة ) فوق ....
- فقالت فوزية فى سرعة :
- ( احسان ) يا ماما ....احسن ( فرخة ) فوق ....سمينة و تكفى و زيادة ....
- اطلعى و اذبحيها و النبى يا فوزية
- أمسكت فوزية أختها . قالت لها فى تمثيل مرح و هى تنغم كلماتها :
- طبعا لا تعرفين كيف تذبحين الدجاج ....أما أنا أستاذة
- فهيا معى حتى أعلمك كيفية ذبح الدجاج