إلى ناز .. ومن غيرها يستحق
كأني أراني .. أُطِلُّ برأسي .. عبر فجوة في سياج السطح .. أحدثها سقوط ميزاب قديم .. المحهم .. يجوسون عبر الزقاق .. تضيق على جباههم .. أغطية سوداء متوجة بنسور من نحاس .. يقتحمون تلك الأبواب المخضبة بالحناء ودماء النذور.
ثلاثة أيام مضت على انتقالنا إلى المدينة ، ولازلت حبيس سطح البيت الذي استأجره أبي قرب وحدته العسكرية . أرى أمي ، تخفي قطعا صغيرة ملونة من ملابسها ، تحت ثياب أبي المرقطة كدروع السلاحف ، على حبل موصول من عدة اقمطة رثة ، لا يزال بعضها محتفظا بالتمائم والحروز ، قبل ان تغادرني على عجل، اثر سعال متقطع انبعث من تلك الأسطح القريبة ، تاركة إياي ، اعجن تراب السطح بالماء الراشح من الثياب ، لأصنع منه كرات من طين اخلق منها ، أبقاراً بقرونٍ من عيدان ثقاب محروقة، وطيور ذات رقاب، واسماك دون زعانف، وصغار خنازير أضاعت أمهاتها في ممرات مائية ضيقة، يلاحقها صيادون قساة بسفن سوداء رشيقة، اطليها بدل القار بقضبان سوداء استخرجها من بطاريات راديو مهملة في جميع أرجاء السطوح .
هبطت الشمس ، حتى كادت تلامس الأسيجة المزروعة بشظايا الزجاج ، فداهمت الظلال المحصورة في الزوايا ، ولحست قشور الرقي المقضومة عن أخرها ، فأحالتها أهلة مليئة بالتجاعيد . ( آه . من رآني منكم ، اقلب تلك الأهلة علّي أجد فيها قضمة حمراء أفلتت من أسنان شرهة طيلة الليل ) .
كانت الظهيرة تضج بالسكون .. إلا من صوت أمي يصلني وهي تكبِّر بصوت عالٍ في الصلاة لأنزل .. عندما حطت على تراب السطح بنت تحمل أكياساً ملأى بالفاكهة . سارت تتفحص بأصابع قدميها دمى الطين .. كانت تلبس ثوبا اصفر لا يغطي ركبتيها ، وقد طبعت عليه جوريات حمراء ، وان أيادي صبورة ، أحالت شعرها المجعد إلى ضفيرتين تنتهيان بأشرطة حمراء وقالت :
ـــ بشعة دماك .. ألا تملك ألواناً .. تعال أدلك على ألوان حلوة .
أنزلت أكياس الفاكهة ، وتقدمت نحو حبل الغسيل ، وأزاحت ثياب أبي ، كاشفة تلك الألوان المحرمة على كل عين .. ناولتني قطعة حمراء ، ووضعت على وجهها أخرى خضراء ، وقالت افعل مثلي ..(كانت المرة الأولى التي تحسست بها تلك الرطوبة الندية ، كانت المرة الأولى التي رأيت السماوات فيها بلون جديد ) ثم قالت : ما رأيك أن تساعدني بإيصال هذه الأكياس إلى آخر السطوح ، واهبك ثمرتان لم تذق مثلهما، ها انا اخبئوهما تحت ثوبي، انظر . وشدت ثوبها على صدرها . (فكان كما قالت . ثمرتان ستبقى أحداهما حلما إلى أن أموت ) .
حملنا الأكياس وانطلقنا نجتاز أسيجة السطوح . فرأينا معلماً حليق الشارب يوقد في تنور الطين كتبا . ورأينا في سطح آخر رجل يلبس عمامة، ينكس رايات ملونة كانت مشدودة على الأسيجة ، يلاحقه أطفال شقر بعيون خضراء . ورأينا عجوز تخبئ ابنها تحت كومة حطب ، واستوقفنا في احد الأسطح شاب وسيم . طلب منا أن نوصل إلى بنت تنتظرنا في آخر السطوح علبة كبريت فارغة ، دس فيها ورقة معطرة ..
أوصلنا الأكياس وعدنا ، اجتزنا السياج الذي يفصل بين بيتينا ، وقادتني من يدي إلى علية السطح .. كان بابها مفتوحا ، وقد اكتسحته دفقة هائلة من ضياء الشمس ، فرأيت ظلالنا ، وقد ارتسمت داخل مشواة السمك المعلقة قبالتنا على الجدار بمسمار طويل ، شنقت إليه اسماك صغيرة مجففة ، وقلائد بامياء يابسة ، وباقة كبيرة من الثوم . فيما اكتظ صحن السلم الحجري المؤدي إلى قاع المنزل ، بأقفاص صنعت من جريد النخل ، تملؤها قنانٍ تفوح منها رائحة الحبة الحلوة ، وكراسات حمراء ، وأحذية عتيقة وقالت :
ـــ كن ابني ولن تجوع .. وطلبت مني أن اصعد على علبة صفيح ، أكل الصدأ فيها ، صورة راعٍ ينفخ بالناي لحملانه وقالت أغمض عينيك فامتثلت .
دست إحدى ثمرتيها في فمي .. فملأت روحي رائحة الله .. قبل أن تنفلق ضلفتي باب المنزل بصيحات شيوعيون .. خونة . خبأت ثمرتها في صدر ثوبها .. وطلبت مني أن أبقى ساكنا ريثما تعود .. وقد أوصتني أن لا أخاف .. رايتها تهبط السلم ، وقد بدأت تتلاشى رويدا.. رويدا .
إذا ما قادتك المحن يوماً إلى تلك السطوح .. وألفيت نفسك واقفا بذلك الباب .. جنديا هاربا من الموت .. أو وراقاً تشتري الكتب .. أو عتاقا جئت تساوم على إبريق نحاس مثقوب .. فاحذر أن تطأني بأقدامك .. فتقلق روحي المصلوبة في مشواة السمك .. منتظراً .. عودة أمي الصغيرة .. لترضعني .. من ثمرتها الحلوة الأخرى.
كأني أراني .. أُطِلُّ برأسي .. عبر فجوة في سياج السطح .. أحدثها سقوط ميزاب قديم .. المحهم .. يجوسون عبر الزقاق .. تضيق على جباههم .. أغطية سوداء متوجة بنسور من نحاس .. يقتحمون تلك الأبواب المخضبة بالحناء ودماء النذور.
ثلاثة أيام مضت على انتقالنا إلى المدينة ، ولازلت حبيس سطح البيت الذي استأجره أبي قرب وحدته العسكرية . أرى أمي ، تخفي قطعا صغيرة ملونة من ملابسها ، تحت ثياب أبي المرقطة كدروع السلاحف ، على حبل موصول من عدة اقمطة رثة ، لا يزال بعضها محتفظا بالتمائم والحروز ، قبل ان تغادرني على عجل، اثر سعال متقطع انبعث من تلك الأسطح القريبة ، تاركة إياي ، اعجن تراب السطح بالماء الراشح من الثياب ، لأصنع منه كرات من طين اخلق منها ، أبقاراً بقرونٍ من عيدان ثقاب محروقة، وطيور ذات رقاب، واسماك دون زعانف، وصغار خنازير أضاعت أمهاتها في ممرات مائية ضيقة، يلاحقها صيادون قساة بسفن سوداء رشيقة، اطليها بدل القار بقضبان سوداء استخرجها من بطاريات راديو مهملة في جميع أرجاء السطوح .
هبطت الشمس ، حتى كادت تلامس الأسيجة المزروعة بشظايا الزجاج ، فداهمت الظلال المحصورة في الزوايا ، ولحست قشور الرقي المقضومة عن أخرها ، فأحالتها أهلة مليئة بالتجاعيد . ( آه . من رآني منكم ، اقلب تلك الأهلة علّي أجد فيها قضمة حمراء أفلتت من أسنان شرهة طيلة الليل ) .
كانت الظهيرة تضج بالسكون .. إلا من صوت أمي يصلني وهي تكبِّر بصوت عالٍ في الصلاة لأنزل .. عندما حطت على تراب السطح بنت تحمل أكياساً ملأى بالفاكهة . سارت تتفحص بأصابع قدميها دمى الطين .. كانت تلبس ثوبا اصفر لا يغطي ركبتيها ، وقد طبعت عليه جوريات حمراء ، وان أيادي صبورة ، أحالت شعرها المجعد إلى ضفيرتين تنتهيان بأشرطة حمراء وقالت :
ـــ بشعة دماك .. ألا تملك ألواناً .. تعال أدلك على ألوان حلوة .
أنزلت أكياس الفاكهة ، وتقدمت نحو حبل الغسيل ، وأزاحت ثياب أبي ، كاشفة تلك الألوان المحرمة على كل عين .. ناولتني قطعة حمراء ، ووضعت على وجهها أخرى خضراء ، وقالت افعل مثلي ..(كانت المرة الأولى التي تحسست بها تلك الرطوبة الندية ، كانت المرة الأولى التي رأيت السماوات فيها بلون جديد ) ثم قالت : ما رأيك أن تساعدني بإيصال هذه الأكياس إلى آخر السطوح ، واهبك ثمرتان لم تذق مثلهما، ها انا اخبئوهما تحت ثوبي، انظر . وشدت ثوبها على صدرها . (فكان كما قالت . ثمرتان ستبقى أحداهما حلما إلى أن أموت ) .
حملنا الأكياس وانطلقنا نجتاز أسيجة السطوح . فرأينا معلماً حليق الشارب يوقد في تنور الطين كتبا . ورأينا في سطح آخر رجل يلبس عمامة، ينكس رايات ملونة كانت مشدودة على الأسيجة ، يلاحقه أطفال شقر بعيون خضراء . ورأينا عجوز تخبئ ابنها تحت كومة حطب ، واستوقفنا في احد الأسطح شاب وسيم . طلب منا أن نوصل إلى بنت تنتظرنا في آخر السطوح علبة كبريت فارغة ، دس فيها ورقة معطرة ..
أوصلنا الأكياس وعدنا ، اجتزنا السياج الذي يفصل بين بيتينا ، وقادتني من يدي إلى علية السطح .. كان بابها مفتوحا ، وقد اكتسحته دفقة هائلة من ضياء الشمس ، فرأيت ظلالنا ، وقد ارتسمت داخل مشواة السمك المعلقة قبالتنا على الجدار بمسمار طويل ، شنقت إليه اسماك صغيرة مجففة ، وقلائد بامياء يابسة ، وباقة كبيرة من الثوم . فيما اكتظ صحن السلم الحجري المؤدي إلى قاع المنزل ، بأقفاص صنعت من جريد النخل ، تملؤها قنانٍ تفوح منها رائحة الحبة الحلوة ، وكراسات حمراء ، وأحذية عتيقة وقالت :
ـــ كن ابني ولن تجوع .. وطلبت مني أن اصعد على علبة صفيح ، أكل الصدأ فيها ، صورة راعٍ ينفخ بالناي لحملانه وقالت أغمض عينيك فامتثلت .
دست إحدى ثمرتيها في فمي .. فملأت روحي رائحة الله .. قبل أن تنفلق ضلفتي باب المنزل بصيحات شيوعيون .. خونة . خبأت ثمرتها في صدر ثوبها .. وطلبت مني أن أبقى ساكنا ريثما تعود .. وقد أوصتني أن لا أخاف .. رايتها تهبط السلم ، وقد بدأت تتلاشى رويدا.. رويدا .
إذا ما قادتك المحن يوماً إلى تلك السطوح .. وألفيت نفسك واقفا بذلك الباب .. جنديا هاربا من الموت .. أو وراقاً تشتري الكتب .. أو عتاقا جئت تساوم على إبريق نحاس مثقوب .. فاحذر أن تطأني بأقدامك .. فتقلق روحي المصلوبة في مشواة السمك .. منتظراً .. عودة أمي الصغيرة .. لترضعني .. من ثمرتها الحلوة الأخرى.