محمد العرجوني -3- على متن قطار طاليس : يناير 2015

.... في المساء توجهت إلى محطة القطار، ثم إلى مكان بيع التذاكر. طلبت من السيدة المكلفة، تذكرة إلى باريس. نظرت إلي مليا من أعلى إلى أسفل، من وراء الزجاج الذي يفصلها على الزبائن، نظرة قرأت من خلالها، او تهيأ لي، أن دماغها محشو بأخبار الإرهاب التي تملأ القنوات وبالصورة النمطية "لمرتكبي" هذه الفضائع. ابتسمت لها، وقلت مازحا عبر الكوة المخصصة للتواصل: "يبدو أنك غير راغبة كي اغادركم... ؟ هل لديك تذكرة؟"
مدت إلي التذكرة من غير تفاعل مع مزاحي، وطلبت مني 100 أورو. اندهشت أمام هذا الثمن. وعبرت عن ذلك ب: " ووووواوووو"
فقالت لي : "إنه القطار السريع، سيدي... سوف تكون بباريس بعد ساعة و خمسة وأربعين دقيقة فقط عوض 3 ساعات... "
فاظهرت اندهاشي وقلت لها مازحا دائما :
" يبدو أنك قررت ارسالي داخل رصاصة مسدس... هذا دليل على أنك غير راغبة في بقائي ببروكسيل ..."
ابتسمت أخيرا وقالت :
"لا أبدا... مرحبا بك... لكن يبدو أنك تحب باريس أكثر من بروكسيل... لهذا نرسلك بسرعة البرق "..
ضحكت... وشكرتها وودعتها... بعد أن دفعت ثمن التذكرة. دردشة كهذه مرفوقة بابتسامة أو حتى ضحكة تزرع الأمل في الروح الإنسانية. إنه عالم ربما لا" يثرثر" كثيرا. خاصة حينما نكون في الشمال، بعيدين عن البحر الأبيض المتوسط. فرق كبير بين ساكني المدن الساحلية الجنوبية ومن يسكنون في الشمال. ربما زرقة البحر والسماء واشعة الشمس، او هدير الموج، كل هذا له تأثير على أمزجة الناس. أحسست بصعوبة تحفيزهم على الكلام، أنا الذي في حاجة إليه في هذه الظروف المتسمة بالحذر. خاصة بالأماكن الحساسة كمحطات القطار. توجهت إلى مرفأ القطار، وسط المسافرين وكذلك مجموعات متفرقة من عناصر الجيش متأبطين رشاشاتهم ومستعدين لاستعمالها. بحثت على المقطورة بفضل الرقم المرقون على التذكرة. لم أكن بعيدا عنها. صعدت. ثم بحثت عن المقصورة. كان بابها مفتوحا. وجدت بها امرأة ورجلين. حييتهم بأدب. ردوا التحية. نظروا إلي. فكان الصمت. تبادلوا النظرات. ابتسمت وقلت في نفسي: "كيف أقضي معهم تقريبا ساعتين؟.. يبدو عليهم أنهم غير مستعدين لرفقتي التي فرضتها التذاكر. كانت السيدة جالسة وحدها والرجلان جالسان قبالتها. مكاني إذن حسب الرقم بالتذكرة جنب المرأة. علي أن اتخطاها. اعتذرت منها. نهضت من مكانها لتسمح لي بالمرور. أدخلت حقيبتي الصغيرة بصندوق الأمتعة. أزحت عني معطفي. فجلست. ساد الصمت. إلا من بعض الكلمات المتبادلة بين "مرافقي" الثلاثة. فهمت أنهم أصدقاء أو زملاء في العمل، من خلال بعض الكلمات المتبادلة. على الطاولة التي بيننا نحن الإثنين. أي السيدة وأنا، والآخرين، كيس رقائق بطاطس (شيبس) وثلاثة كؤوس بلاستيكية و قنينة مكتوب عليها "شامبانيا" . قلت في نفسي:" حينما تحضر الشامبانيا، معناه حسب ما أعرف عن ثقافتهم، هناك احتفال... علي إذن أن أسهل عليهم أمر الاحتفال لانني ربما عكرت صفو جوهم بسبب هؤلاء المعتوهين الذين ينشرون الرعب بين الناس بتفجيراتهم، فينسبون إلى" فصيلتنا"... حمدا لله إنني زائر فقط...الله يكون في عون الجالية العربية المسلمة التي هي في غربة من أجل العيش الكريم... اية كرامة وسط هذه الأجواء المشحونة؟؟ ..."
في هذه اللحظة، تقدم مراقب التذاكر فطلب من الجميع تذاكرهم. بدأت أبحث عن تذكرتي. ارتبكت. لم اجدها. لم أتذكر أين وضعتها آخر مرة. بحثت في جيوب المعطف. جيوب" الجاكيت"، جيوب السروال... لا شيء. فتحت محفظتي. لا شيء. بدأ العرق يتصبب. لأن المقصورة مجهزة بجهاز التدفئة. كان المراقب ينتظر تذكرتي، بعد أن انتهى من مراقبة الآخرين. كلهم كانوا ينظرون إلي وأنا أبحث بنوع من النرفزة. تدخلت السيدة التي بجانبي:
"ربما وضعتها داخل حقيبتك..."
قلت لها :"شكرا لك... ربما..."
هممت بإنزال الحقيبة من الصندوق. فقال لي المراقب :
" أبحث عنها... لا ترتبك... سوف ارجع بعد قليل... "
شكرته. لكن رغم ذلك أحسست كأنني زرعت فيه الشك. أخذت حقيبتي والعرق يتصبب من جبيني. كل مرافقي ينظرون إلي وينتظرون مني كلمة :" وجدتها...!! " هل كان ذلك تضامنا منهم؟ أم هدفهم التيقن أنهم رفقة شخص أو مسافر عادي؟
أحسست بتضامنهم لكن في نفس الوقت أحسست باني ازعجتهم. وأخيرا بعد أن بحثت وسط الملابس التي بعثرتها داخل الحقيبة بدون جدوى، تذكرت الجيب الخارجي للحقيبة. وفعلا وجدتها. أحسست بغبائي، وفي نفس براحة. هذا دليلي أنني أديت ثمن التذكرة ولست هنا بطريقة غير قانونية. احس الجميع معي بانفراج. وساد الصمت مرة أخرى. رجع المراقب. تأكد من تذكرتي. تمنى لي سفرا سعيدا. هبط من المقطورة. لحظات مرت. سمعنا صوتا يرحب بنا على متن قطار طاليس السريع. أعطانا وقت الوصول. تحرك القطار. ببطء، ثم انطلق كالرصاصة. تخيلت نفسي داخل رصاصة كما قلت لبائعة التذاكر. لكن نحن جالسين ولا نحس بشيء. تابع مرافقي حديثهم حول أمور تخصهم. بقيت داخل قوقعتي التي لا أحب. لا يمكن أن أبقى صامتا كل هذا الوقت. وليست لدي الرغبة في قراءة أي كتاب. أفضل اكتشاف الطبيعة التي تمر مسرعة عبر النوافذ. كنت أبحث عن طريقة للتحدث إليهم. نظرت إلى قنينة الشامبانيا. فقلت كما فعل أرخميدس عند اكتشافه طفو الجسم على الماء وهو يستحم:"اوريكا ! وجدتها !"
فقلت لهم :
"أعتقد أنني محظوظ..." فابتسمت. نظروا إلي مندهشين. فواصلت حديثي:
"نعم... محظوظ لأنكم ربما اشتريتم الشامبانيا لتحتفلوا بتواجدي معكم...." فضحكت. ضحكوا هم أيضا، فقال لي من توجد أمامه القنينة:
"مرحبا... هل تشرب؟". نظرت إلى الكؤوس الثلاثة، وقلت له :
"لا. يكفي انني افتتحت الجلسة فلا تحرموني من احتسائكم الشامبانيا أنتم الثلاثة... أنا بعض رقائق البطاطس تكفيني.. " ضحكوا. فبدأ يسقيهما. وبعد أن ملئت الكؤوس نظروا إلي وقالوا إلي :" نخبك.. ضيفنا..."
فكانت مفتاح نقاشنا. فشكرتهم. وتذكرت ابا نواس، فعربت لهم ما قاله حول مثل هذه اللحظة :
أَلا فَاسقِني خَمراً وَقُل لي هِيَ الخَمرُ
وَلا تَسقِني سِرّاً إِذا أَمكَنَ الجَهرُ
فَما العَيشُ إِلّا سَكرَةٌ بَعدَ سَكرَةٍ
فَإِن طالَ هَذا عِندَهُ قَصُرَ الدَهرُ
Sers-moi à boire
Et dis-moi que c'est du vin
Mais ne me sers point secrètement
Quand c'est possible de le faire ouvertement
Car vivre n'est en fait
Qu'ivresse après ivresse
Et si cela perdure pour lui
Le temps s'amoindrit
صفقوا لي وللشاعر. فحدثتهم عنه. وعرفتهم بشاعر عباسي ظهر في اواخر القرن الثامن الميلادي وتوفي بداية القرن التاسع. شاعر الخمر والمجون. فتحدثنا عن الأسطورة الاغريقية وعن ديونيزوس، إله الخمر لدى الإغريق الذي أصبح "باكوس" مع الرومان الخ... بعدها تحدثنا عن الأندلس والحضارة الإسلامية التي عُرفت بالتسامح. وبالمناسبة كنت حينها اقرأ رواية جاك اطالي Jacques Attali "la confrérie des éveillés" التي يجعل من إبن رشد وابن ميمون بطليها الرئيسيين، والتي يظهر من خلال احداثها اهتمامهما بارسطو. قدمت لهم نفسي. و فعلوا نفس الشيء. كانوا يساريين في فكرهم. وبطبيعة الحال
ناقشنا الأوضاع العالمية وما يعرفه من مشاكل جراء تهافت الإمبريالية العالمية. فتحدثنا عن انهيار المعسكر الشرقي وعن كورباتشوف والكلاسنوت وإزالة حائط برلين و فقاعات كوكاكولا والانبهار بسراويل جين وبحرية الرأسمالية والرغبة في الاغتناء السريع الخ... و تحدثنا عن أفغانستان والمجاهدين وعن القاعدة الخ...فكانوا غير مقتنعين بالإعلام الغربي حول الأحداث الإرهابية التي تلصق بالإسلام عبر الحديث عن الاسلاموية. بل كانوا مقتنعين أن الإمبريالية تستغل ذلك لزرع الفوضى التي تقول عنها "خلاقة". لم أحس بالطريق من كثرة الكلام والضحك. وصلنا باريس. خرجنا أجمعين من المقصورة توادعنا. شكرتهم على حسن ضيافتهم لي. فقالت لي السيدة : "تحياتي للمغرب... وتحياتي لصديقك الشاعر..." (لم تتذكر الاسم)
فقلت لها : "أبو نواس... يحييك..."
ضحكنا وافترقنا. هي لحظة تنسينا هموم العالم الذي يسيره السياسيون.... اولئك الأشخاص الذين يعانون من عته لا دواء له، فيكفي أن يتغير توجه سهم البترول أو أي سلعة أخرى في البورصات العالمية، ليعكر لنا السياسيون ناهبو خيرات البلدان الفقيرة، صفو اجوائنا الإنسانية ويزرعوا هكذا الحقد والكراهية بين الشعوب. فتحسرت على حالنا وعلى ضعفنا حتى أصبحنا لعبة بين أيديهم. يتلاعبون بمشاعرنا وجهلنا وفقرنا... و حسرتي كانت أكبر على ما تعانيه جالياتنا جراء هذه الأحداث المؤلمة...
أختم سردي هذا بما قالت الفيلسوفة والسياسية الألمانية هانا اراندت Hannah Arendt:
"صمت الفكرة بداخلنا، هو الذي يولِّد الوحوش "
*+*+*+*
محمد العرجوني


L’image contient peut-être : plein air



L’image contient peut-être : ciel, nuage et plein air




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى