بعد الإعلان عن حالة الطوارئ، لزمت البيت بسبب الحجر الصحي، بعد ثلاثة أيام انتابني إحساس بأن شيئا ما ينقصني. إحساس ملك عليّ فكري وشغل شعوري، فلا خالجت فكري فكرة إلا وبتر منها شيئا، ولا اضطربت في قلبي عاطفة إلا وأفقدها دفئها. و ما زلت على هذه الحالة حتى تشوش ذهني بحثا عن هذا الشيء المفقود الذي يطرق الدماغ كما تطرق قطرة الماء حيزا معينا من الجبين. صالت وجالت في مخيلتي عدة احتمالات للعثور على مفتاح السر، فأرجعت السبب إلى حرماني أو بالأحرى فطامي عن ارتياد المقهى، والدردشة المسائية مع الأصدقاء، وعبق القهوة يملأ المكان. اطمأنت نفسي لهذه الحقنة من العلاج، متكئة على عكاز الحكمة القائلة: إذا عرف السبب بطل العجب، وانبسطت أساريرها، وأسرت لي: لا محالة سينتفي التشويش، ويعود لذهنك صفاؤه. ما إن انتهى مفعول الحقنة، حتى عاد الشيء المفقود التائه في ثنايا مخي، يصدر صوتا غير مفهوم من خلف زجاج نافذة الاستغاثة القاتم. فراودتني فكرة الخوف من غول كورونا المرعب، لكني وجدت في مقولة: " الموت في عشرة نزاهة " مشجبا لأعلق عليه من رجليه شبح الخوف من هذا الغول الفتاك.
ولوأد هذا التشويش الخفي الملحاح، قررت أن أقلم أظافره، وأخمد أنفاسه إلى الأبد، بدفن وجهي بين دفتي الكتاب تارة، وفي وجه صفحة الكتابة تارة أخرى، وسرت في جسمي نشوة الانتصار، وأقنعت نفسي بأنني عثرت على الدواء الشافي لدائي، قبل أن يعثر الأطباء على لقاح مضاد لأبي الأدواء كورونا. لكن ما إن طويت الكتاب، وانتهيت من تحبير الورقة، حتى عاد طنين التشويش يخمش جدار مخي بمخالبه الحادة وبكل ما أوتي من قوة. واستمر يستفزني للتعرف على مصدره، أو بالأحرى لأخرجه من غيهب اللاشعور، إلى عالمي المحسوس. فحدثتني نفسي أن العلاج قد يكمن في الوصفة السحرية التالية؛ ألا وهي أن أنوع جرعات الدواء من القراءة، هكذا وزعت وقتي بين التهام حبات من القصص القصيرة حينا، والتلقيح بحقن من فصول روائية حينا، ومسك الختام تناول أقراص فائرة من قصائد شعرية. دون إغفال بعض المسكنات من المستملحات المستخلصة من زمن كورونا.
لكنه هو هو؛ ما إن يغب برهة من الزمن، وأمني النفس بقراءة الفاتحة على روحه، حتى يظهر بقوة وأشد استفزازا وإلحاحا. فأجعل أحث ذاكرتي على التذكر، إن كنت أهملت عملا ما، ذا أهمية دون إتمامه، أو أنني وعدت أحدا ما بإسداء خدمة ما، فتقاعست عن الإيفاء بالوعد. لكن هذه الاحتمالات لا تصمد إلا للحظات حتى تلقي سلاحها، لتصير لقمة سائغة في جوف غول التشويش.
كل ما بذلته من جهد في هذا الاتجاه، أو ذاك كان يذهب أدراج الرياح، حتى التخمين في أن أكون قد ابتعت من عند البقال، أو الجزار، أو الخضار، ما يشتهيه المطبخ دون تسديد ما بذمتي، لم يجد نفعا، إذ لا أحد منهم رماني بنظرة ادفع ما بذمتك، علاقتي بهم ظلت عادية وإن خنقت الكمامة ابتساماتهم.
وبينما أنا غارق في خضم الحيرة، وألهث وراء التغلب على هذا التشويش المستفز، عنّت لي ذات لحظة فكرة أن أجرب علاج اللهو بلعبة من ألعاب الهاتف، لعل الشفاء يأتي على يد لعبة من ألعابه، فمن يدري قد يوجد في نهر العبث ما لا يوجد في بحور الجد؛ وفي طريقي إلى تطبيق الألعاب، تعثرت أناملي في إحدى الرسائل القصيرة؛ رسالة قصيرة جدا من رسائل زمن كورونا، ورغم أنها قصيرة جدا، فلقد حملت في أحشائها سؤالا كبيرا، تقول كلماتها القليلة جدا: تحية طيبة وبعد؛ اسمح لي أستاذي العزيز أود أن أعرف متى نعود إلى مدرستنا؟
طويت الرسالة، وأغلقت الهاتف، وأحجمت عن خوض غمار أية لعبة.
لقد بطل العجب إذ ظهر السبب، واحتدم الصراع على أشده بيني وبين التشويش الذهني، كلما هممت بالجواب عن السؤال المطروح، ابتلعه الغول الرابض في ذهني.
6/5/2020
ولوأد هذا التشويش الخفي الملحاح، قررت أن أقلم أظافره، وأخمد أنفاسه إلى الأبد، بدفن وجهي بين دفتي الكتاب تارة، وفي وجه صفحة الكتابة تارة أخرى، وسرت في جسمي نشوة الانتصار، وأقنعت نفسي بأنني عثرت على الدواء الشافي لدائي، قبل أن يعثر الأطباء على لقاح مضاد لأبي الأدواء كورونا. لكن ما إن طويت الكتاب، وانتهيت من تحبير الورقة، حتى عاد طنين التشويش يخمش جدار مخي بمخالبه الحادة وبكل ما أوتي من قوة. واستمر يستفزني للتعرف على مصدره، أو بالأحرى لأخرجه من غيهب اللاشعور، إلى عالمي المحسوس. فحدثتني نفسي أن العلاج قد يكمن في الوصفة السحرية التالية؛ ألا وهي أن أنوع جرعات الدواء من القراءة، هكذا وزعت وقتي بين التهام حبات من القصص القصيرة حينا، والتلقيح بحقن من فصول روائية حينا، ومسك الختام تناول أقراص فائرة من قصائد شعرية. دون إغفال بعض المسكنات من المستملحات المستخلصة من زمن كورونا.
لكنه هو هو؛ ما إن يغب برهة من الزمن، وأمني النفس بقراءة الفاتحة على روحه، حتى يظهر بقوة وأشد استفزازا وإلحاحا. فأجعل أحث ذاكرتي على التذكر، إن كنت أهملت عملا ما، ذا أهمية دون إتمامه، أو أنني وعدت أحدا ما بإسداء خدمة ما، فتقاعست عن الإيفاء بالوعد. لكن هذه الاحتمالات لا تصمد إلا للحظات حتى تلقي سلاحها، لتصير لقمة سائغة في جوف غول التشويش.
كل ما بذلته من جهد في هذا الاتجاه، أو ذاك كان يذهب أدراج الرياح، حتى التخمين في أن أكون قد ابتعت من عند البقال، أو الجزار، أو الخضار، ما يشتهيه المطبخ دون تسديد ما بذمتي، لم يجد نفعا، إذ لا أحد منهم رماني بنظرة ادفع ما بذمتك، علاقتي بهم ظلت عادية وإن خنقت الكمامة ابتساماتهم.
وبينما أنا غارق في خضم الحيرة، وألهث وراء التغلب على هذا التشويش المستفز، عنّت لي ذات لحظة فكرة أن أجرب علاج اللهو بلعبة من ألعاب الهاتف، لعل الشفاء يأتي على يد لعبة من ألعابه، فمن يدري قد يوجد في نهر العبث ما لا يوجد في بحور الجد؛ وفي طريقي إلى تطبيق الألعاب، تعثرت أناملي في إحدى الرسائل القصيرة؛ رسالة قصيرة جدا من رسائل زمن كورونا، ورغم أنها قصيرة جدا، فلقد حملت في أحشائها سؤالا كبيرا، تقول كلماتها القليلة جدا: تحية طيبة وبعد؛ اسمح لي أستاذي العزيز أود أن أعرف متى نعود إلى مدرستنا؟
طويت الرسالة، وأغلقت الهاتف، وأحجمت عن خوض غمار أية لعبة.
لقد بطل العجب إذ ظهر السبب، واحتدم الصراع على أشده بيني وبين التشويش الذهني، كلما هممت بالجواب عن السؤال المطروح، ابتلعه الغول الرابض في ذهني.
6/5/2020