مسعد بدر - بنية الوزن والقافية، ودلالتها.. قراءة في قصيدة للشاعر السيناوي: إبراهيم فايد

1- لزوم ما لا يلزم:
الشعراء النبطيون، في سيناء، لا يطمئنون إلى قصيدة التفعيلة، وينفرون تماما من قصيدة النثر. لمستُ ذلك عن قرب ممن أعرفهم من هؤلاء الشعراء، وسمعته في شهادة أحد أعلام هذا الشعر الخليجيين – في لقاء تليفزيوني – حيث أخذ يصف قصيدة التفعيلة بأنها "شعر الحداثة"، وإن هذه الحداثة هي تغريب صِرف وطمس لهويتنا – زعم – وتراثنا، ثم انبرى يغمز (بدر شاكر السياب) غمزا صريحا. وليس صاحب هذه الشهادة بالدارس الذي يخفض، أو يرفع من مقام السياب أو قصيدة الشعر الحر، لكننا نشير إلى شهادته بوصفها دليلا على موقف الشعراء النبطيين الرافض لتطور موسيقى القصيدة العربية، إلا قليلا منهم اتجه فعلا نحو قصيدة التفعيلة، ومنهم الشاعر السيناوي الصاعد بقوة: (محمود حسين).
ليس على أحد من بأس أن يطمئن أو ينفر من شكل ما من أشكال القصيدة؛ فالناس أذواق، والذوق لا نقاش فيه. لكن قلق الشعراء النبطيين من حركة التطوير والتغيير، امتد ليشمل الدراسات الحديثة أيضا؛ لاعتقادهم بأنها هي المُنظّر لذلك الشكل الشعري الذي يرفضونه.
قلنا إن النفور من شكل قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر لا نقاش فيه، وإنما حديثنا عن الدراسات الحديثة التي يتوجّس هؤلاء منها شرا، معتقدين أنها تحارب القديم وتدعو إلى الجديد، وأنها – أي الدراسات الحديثة – هي رأس الحربة الموجّه إلى نظام القصيدة التقليدي تريد فناءه واستبداله بما هو مدعاة (لطمس الثقافة العربية) كما يزعمون. وهم في ذلك ينطلقون من عكس القاعدة الراسخة في عالم الأدب من أن الشاعر هو الذي يرسم طريقا للناقد، وأن القصيدة الجيدة تفرض أسلوبها، وتخطّ مسارها في دنيا الإبداع؛ فيأتي النقاد والدارسون – لاحقا – يسعون لوضع مذاهب نقدية جديدة توائم الإبداع الجديد. ورحم الله (مصطفى ناصف) في كل حين، وحين قال: "نحن – النقاد – نأكل على موائد الشعراء"!
إن السر وراء هذا الموقف الذي يقفه الشعراء النبطيون هو خشيتهم الشديدة من ضياع (الوزن والقافية)، وحرصهم المفرط على كون هذين المحورين هما أساس بناء القصيدة؛ حتى حدا بهم هذا الحرص، على أن يتجاوزوا الشعر العمودي الفصيح بخطوتين اثنتين التزموا فيهما ما لا يلزم في الفصيح، وهما:
أ- الالتزام شبه المطلق بالإتيان بالتفعيلة كاملة دون زحاف أو علة، إلا فيما ندر ندرةً تُثبت القاعدة ولا تنفيها.
ب- الالتزام التام – أيضا – بتقفية الشطرين معا التزاما لا يكاد يشذ إلا في بحر (الصخري). وسوف نرى كيف تحققت هاتان الخطوتان في القصيدة التي نَستشهد بها.
من هنا، من منطلق الحفاظ على القديم، بل من منطلق إضافة قيود صارمة على نظام القصيدة العمودية، من هنا كان التوجس والإعراض عن الدراسات الحديثة التي لم يتنبه أصدقاؤنا هؤلاء إلى أنها لا تحارب الوزن، ولا تعادي القافية، مع أنها – في الوقت نفسه – لا تراهما شرطين لازمين لتحقيق شعرية القصيدة.
2- بنية الوزن ودلالتها:
إن الدراسات الحديثة أولت الوزن والقافية اهتماما خاصا. ولسنا هنا في معرض المقارنة بين موقف هذه الدراسات وموقف النقاد القدامى، وإنما قصارانا أن نوضح موقف الدارس المعاصر لهاتين القضيتين: قضية الوزن، وقضية القافية؛ ليتبين أصدقاؤنا أمرا ربما غاب عن بعضهم.
يرى الدارسون المحدثون أن البنية الإيقاعية – والوزن هو أبرز عناصرها – هي أول المظاهر المادية المحسوسة للنسيج الشعري الصوتي، وتعالقاته الدلالية. وتأسيسا على ذلك ذهبوا خطوة أبعد في تقديرهم لإيقاع القصيدة وبنيتها الموسيقية؛ فقرروا أن هذه البنية هي "أجرومية التعبير الشعري". مع ملاحظة أن الأجرومية – هنا – تشير إلى معنى القواعد الأساسية التي تنهض عليها شخصية أي عمل شعري. وأجرومية التعبير الشعري هذه تتضمن نماذج شكلية لتنظيم الجداول الصوتية، كما تتضمن قواعد لتوليد الخطاب الصوتي منضبطة مع نظام التوليد الدلالي، لا فرق في ذلك بين الأوزان الشعرية التقليدية، أو الأوزان المستحدثة. (وأوزان الشعر النبطي مستحدثة، وقد أعطتها الدراسات الحديثة حقها). ويشير هؤلاء الدارسون إلى أن الوزن العروضي قائم على التكرار؛ فيرحّبون بهذا التكرار الذي يصون الشعر عن التفكك والانحلال، ويجعل القصيدة سلسلة متماسكة مترابطة لا تشتت فيها ولا هلهلة.
تأسيسا على هذه المنزلة العالية التي يرفع الدارسون المحدثون الوزن إليها، ننظر في قصيدة من الشعر النبطي لشاعر من سيناء هو: (إبراهيم فايد). وهي قصيدة تصور ما لقيته الذات الشاعرة من آثار مؤلمة نتيجة الرحيل وفراق للديار بسبب الحرب المستمرة في سيناء، هذه الحرب التي تتكرر مشاهدها الرتيبة يوميا، بلا جديد، وكأن هذا التكرار الرتيب هو صورة من صور السكون لا الحركة!
وقد جاءت بنية الوزن في القصيدة معتمدة على تكرار تفعيلة واحدة هي (مستفعلن)، وهي – بذلك – بنية مستنبطة من بحر الرَّجَز، وتفعيلاته (مستفعلن) ثلاث مرات في كل شطر، إن كان تاما؛ فهو من البحور (الصافية) التي تعتمد تفعيلة واحدة مكررة. والمعروف أن هذا البحر فيه جوزات كثيرة جعلت القدماء يسمونه "حمار الشعراء"؛ لكثرة ما يتصرفون فيه. فكيف استنبط شاعرنا وزن قصيدته من هذا البحر القديم الشهير؟
جاء تفعيلات القصيدة على (مستفعلن)، كاملة لا ينقصها حرف، رغم ما يتيح هذا البحر للشاعر من سعة في التصرف، وكأن الشاعر أبى إلا أن يكون هذا البحر حصانا كريما، لا حمارا يحتمل النقص. ثم لم يكتف الشاعر بثلاث تفعيلات عرفها تراثنا الفصيح في كل شطر، حتى أتى في الشطر الواحد بأربع تفعيلات كاملة، مع ملاحظة التذييل في التفعيلة الأخيرة من كل بيت (الضرب)، بإضافة حرف ساكن، يقول:
وحي الخيال وصهوة أحلامي، قفا نبكي شجن
وح يل خيا / لو صهـ وتح / لا مي قفا / نب كي شجن
برد و حنين ودرب يبعد بي ورا طرد السراب
بر دو حني / نو در بيب / عد بي ورى / طر دس سرا ب
مستفعلن / مستفعلن / مستفعلن / مستفعلان
هكذا جاءت القصيدة جميعها بتفعيلات مكررة تكرارا لا نقص فيه؛ فما دلالة ذلك، وما فوائده؟
نبادر – أولا – بالقول إن تركيب الأصوات على وزن معين لإنتاج الإيقاع إنما يتم بـ "مقتضى الوجوب" الذي يعني الاختيار الأوليّ الذي لا تنشأ القصيدة النبطية إلا به، بحيث يصعب أن نوازي بين الوزن من ناحية، ودلالة القصيدة من ناحية أخرى؛ فإن بحر الرجز مثلا صالح للتعبير عن معان مختلفة، ولا يختص بلون منفرد منها. ثم نؤكد أننا ننظر – هنا – في الوزن فقط، وهو الإطار الإيقاعي العام الذي يحتضن ألوانا من إيقاع (الحشو) لسنا بسبيل الحديث عنه في هذه المقالة.
على أننا يمكن أن نسأل: لماذا جاءت التفعيلات كاملة لم يُحذف منها حرف، رغم أن علم العَروض يبيح حذف بعض حروف (مستفعلن)؟ ولماذا جاءت التفعيلات أربعا، بزيادة تفعيلة على البحر الموروث؟
أول ما نسجله أن التكرار يسهم في ربط أجزاء القصيدة؛ إذ يعمل على توحيد أجزائها وتلاحمها، فيجعل القصيدة قطعة موسيقية مترابطة، وعقدا منظوما، وكلا واحدا لا تنفصم عراه، ولا يسطو عليه التفكك والتشتت.
ثم إن طول الشطر (4 تفعيلات بلا نقصان) هو صورة لفظية نغمية لطول نفَس الشاعر، كما أنه – وهو الأهم – ترجمة لدفقة شعورية عميقة ممتدة بعمق الألم وامتداد مأساة الرحيل، ذلك أن تشكيلة التفعيلة – أساسا – هي لغة نفسية قبل أن تكون عروضية، تنفعل معها ذات الشاعر قبل أن تتمثل في مُنتَج صوتي له إيقاع منظم، بحيث يصح القول إن وزنا معينا، بكيفية معينية، هو أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر، قبل أن يعكسها بصياغة لغوية تُظهر المتلقيَ عليها.
إن إحساس الشاعر بالغربة والضياع الدائمين بلا أمل في استقرار أو عودة للديار التي طردته منها الحرب في سيناء، هذا الإحساس هو انفعال مشحون بعاطفة مفعمة بالقوة تنمو نموا تصوره الحركة المتمثلة في إيقاع هذا الوزن السريع بتفعيلاته المتجاورة المتلاحقة، وتصوره – أيضا – هذه الاستمرارية في تكرار التفعيلة بدقة وانتظام؛ فتتبلور تجربة الشاعر من خلال التجانس الصوتي والدلالي معا.
على أنه ينبغي أن نشير إلى أن إدراك التجانس الصوتي والقيمة الإيقاعية للتكرار، في مثل هذا النمط من الشعر، يعتمد على القراءة الصحيحة الجهرية لا القراءة الصامتة. أما القيمة الدلالية فتحتاج إلى تأمل في النص من حيث ألفاظه وتراكيبه وصوره وبنيته العامة. وهذا ما يصل بنا إلى أثر تكرار الإيقاع في نفسية المتلقي.
لعل من أهم نتائج التكرار أنه يوفّر للمتلقي، بل يضمن له، نصيبا وافرا من الإشباع الإيقاعي الذي هو أسّ مهم من أسس الشعر، وإن اختلف الدارسون في صوره وتشكُّلاته. وهذا التكثيف الإيقاعي يُحدث آثارا في نفسية المتلقي؛ فهو يطبع في حسه ووجدانه وعقله صورة الشيء المكرر، ليكون هذا الشيء المكرر حاضرا غير غائب، وليكون الإشباع الإيقاعي بابا للوصول إلى الإشباع الدلالي، الذي نرجو أن نتتبعه في مقالة أخرى.
3- بنية القافية، ودلالتها:
إن عناية الدارسين المحدثين بالقافية ليست بأقل من عنايتهم بالوزن؛ فهي – عندهم – تؤدي دورا مهما وجليا في القصيدة ، سواء كان تكرارها منتظما (كما في الشعر العمودي والنبطي) أو غير منتظم (كما في قصيدة التفعيلة)؛ فإن من أهم وظائفها إبراز الخطورة الدلالية لبعض الكلمات، بوصفها أكثر كلمات البيت أهمية، وأشدها تعلقا بالذهن، حتى غدت نقطة القوة والصلابة في بناء الشطر، فضلا عن دورها الواضح في تسوير حدود الجملة الشعرية، أي وضع (سورا) يحد الشطر؛ فيصونه عن الميوعة ويحميه من التفتت والتشرذم. وهذه مقدمات نظرية تصدق على قافية قصيدتنا، وعلى كل قصيدة مقفّاة.
أما إذا خصصنا هذه القصيدة بالنظر في قوافيها؛ فسوف نتأمل الحروف التي جاء عليها (الروي) وننظر في خصائصها ومدى تساوقها مع التجربة الشعرية التي تصور الرحيل والضياع، وما يصاحبهما من ألم وشكوى، وغضب أيضا؛ نتيجة الحرب التي غدت قارّة متصلة، تتكرر تكرارا رتيبا مملا جعل المقام أقرب إلى السكون منه إلى الحركة؛ إذا جاز أن توحي الحركة بالسكون!
لقد أجهد الدارسون المحدثون أنفسهم في تعقّب دلالات الحروف؛ فحرف النون، وهو روي/ قافية الشطر الأول، يدل على الاضطراب، وعلى المشاعر الإنسانية كالحنان والحزن والخضوع (دان)، وعلى الرقة، كما أنه تعبير عفو الفطرة عن الألم العميق (أنّ أنينا). وهذه كلها معان تتسق مع مضمون التجربة ودلالة القصيدة اتساقا ظاهرا.
وإذا كانت القصيدة هي في جوهرها حركة تراوح بين داخل الذات وخارجها حتى تتبلور فتغادر الذات إلى الخارج؛ فإن (حسن عباس)، في دراسته عن خصائص الحروف العربية ومعانيها، أثبت أن حرف النون "يدل على الحركة من الداخل إلى الخارج"، أي حركة موازية لحركة إبداع القصيدة.
ومن خصاص حرف النون، أنه صوت أنفي يخرج من الأنف؛ فهو مناسب جدا لحديث الرحيل والبعاد، فعند الحديث عن الفراق تختنق الأصوات في الفم؛ فتخرج من الأنف لا من الفم الكظيم!
أما روي/ قافية الشطر الثاني فقد انبنى على حرف الباء، والباء صوت قوي يجمع القوة من جهتي الانفجار والجهر. والانفجار يعني أن الباء صوت انفجاري، أي صوت غير مستمر، ويُسمَّى أيضا صوتا شديدا أو وقفيا، وينطق بالإغلاق الكامل للمجرى الفمي ثم إطلاق الهواء المحبوس فجأة؛ ليحدث الجهر، المشار إليه، وهو معنى يناسب كمية الانفعال الهائل التي اختزنته الذات الشاعرة حتى ضاقت بما يؤذيها من توتر ناجم من هذا الانفعال؛ فانفجرت ولم تعد تحتمل الصمت والكتمان، انفجرت وانفرجت أمامها سُبُل القول الذي يُختم دائما بهذه الباء التي يصفها الدارسون بأنها تفيد "بلوغ المعنى"، فيكتمل البيت بقافية ساكنة هي أشد ما تكون تعبيرا عن "مقتضى الحال"، الذي غدا ساكنا رتيبا لا جديد فيه!.

القصيدة:
وحى الخيال وصهوة أحلامي قفا نبكى شجن
برد و حنين ودرب يبعد بي ورى طرد السراب
بعد الغياب وحجة المقفي خيوطه من وهن
شرع دروب الحلم وأبوابه إلى صدري رحاب
أن صافحي يمناي يكفى ما من الماضي ارتهن
أبلج صباح الصدر شمسه بددت ليل و ضباب
حادي أمَل يصبو إلى حلم تخفى وامتكن
لجّ وصداه بجذع زيتون المُنى عاصي وتاب
نصفى معه شوق و طمان ويجمع انصافي معاً
رحم التجارب مع مشيب العمر ينجب لي شباب
متن اليتيم اللي شده مفتونة الحيين عن
حزمة سوالف ردّدت مضمونها نفس الجواب
نخل ودنَا و اسّاقطت عذريةً بين الفنن
معه الربيع و باقي أيامى خريف بلا زهاب
رِجلي هنا موطى ملوك الحرف من مبدا الزمن
جمع الشتات وقمة المجد وحصيده بالكتاب
لا تلتفت لي شاطئ أحلام الفتى شام ويَمن
شاعر تحزّم بالوفا جذوة فؤاده بالخطاب
عزمه يجدّف رحلة التيه بسنينه ما مضن
شمخ رواسيه الأمل نوره على عالي الهضاب
وقفاً على الوادي المقدس يا طوى قلبي سكن
في مجمع البحرين إيه خضّبي بيض السحاب
خافت تسلل شاغل الدحنون زهره ما فطن
لأنه يجاور نجمتين وذابن بحفنة تراب
من يعكس أكام الجمال بفكره الواكف لحن
يشطح بي المكنون من فيضه على متن الركاب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى