مسرحيات عبد الكريم العامري - كوفيد.. مسرحية في فصل واحد

مسرحية في فصل واحد
شخوص المسرحية:
1- الرجل
2- المرأة
3- الكاتب

(غرفة مظلمة، لا يظهر منها الا ضوء يمر عبر شباك في الجانب، الرجل يجلس على الارض بين منضدة وكرسي يبدو عليه الخوف).
الرجل:
اعيدي الضوء الى الغرفة، لا احتمل العتمة.
صوت المرأة من الخارج: المنطقة كلها معتمة لا توجد كهرباء انتظر انا ابحث عن فانوس.
الرجل: (غاضبا) ألم اشتر مصباحا يدويا من قبل؟ أين هو؟
صوت المرأة من الخارج: لم أجده.
الرجل: اللعنة على هذا المنزل، كل شيء فيه يضيع (الى المرأة) لا تقولي انك لم تجدي الراديو أيضا؟
صوت المرأة: الراديو موجود لكنه لا يعمل.
الرجل: (متضايقا) أعرف. أعرف. نسيت أن أشتري بطاريات له. لا حاجة لي الليلة أن أسمع الأخبار فكل الأخبار مكررة. ليس فيها ما يفتح النفس!
المرأة: (تدخل وهي تحمل الفانوس، تبحث عن الرجل الجالس بين المنضدة والكرسي) أين أنت يا رجل؟ (تلتفت هنا وهناك، تنظر له وهو على الأرض) ما هذا؟ أنت تجلس على الأرض (تقترب منه وتمسك بيده) انهض. انهض يا رجل.
الرجل: (متهكما) كل هذا الوقت وأنت تبحثين عن الفانوس!
المرأة: أنت تسأل أم تتهكم؟ ألا يحتاج فانوسك للوقود كي يعمل؟
الرجل: ها قد عدنا! أنت تلمحين لشيء ولا تقصدين فانوسي (يلوك الجملة بلسانه) تلك نفس الاسطوانة التي اسمعها منك كل يوم.
المرأة: أليس من حقي كزوجة أن أطلب منك الخروج للعمل.
الرجل: (بغضب مكبوت) أين؟ (بصوت أعلى) أخرج أين؟ ألم تسمعي الأخبار؟
المرأة: (هازئة) الأخبار من اختصاصك. ما الذي تستفيد امرأة مثلي من الأخبار!
الرجل: ليس الأخبار.. ألم تقل لك النسوة اللاتي يلتقين بك عند باب الحوش ما فعله الوباء؟
المرأة: الوباء أقل ايلاما من أن نموت جوعا.
الرجل: لم اسمع ان احداً مات جوعاً لكنني سمعت أن آلاف الناس ماتوا بذاك الوباء اللعين.
المرأة: تمنيتها في الأرض وها قد نزلت اليك من السماء!
الرجل: ألا تكفّي عن هذا اللوم يا امرأة؟ ما هي الا ايام ويسمح لنا بالخروج للعمل.
المرأة: سمعت هذا منك ومنهم منذ اكثر من ثلاثة شهور. كم شهر نحتاج لكي نتخلص من هذا الوضع. (تجلس على الكرسي) والله مللت ولم أعد أطيق ما نحن فيه.
الرجل: ما جرى علينا يجري على كل الناس.
المرأة: لكننا ليس مثل كل الناس! (تصرخ) بيتنا فارغ.
الرجل: وما أدراك ان الناس يعيشون في بحبوحة وبيوتهم ملآنة. هم مثلنا.
المرأة: لم أسمع من جاراتي ان بيوتهنّ فارغة مثل بيتنا.
الرجل: لأنهنّ لا يخرجن أسرار بيوتهن ويثرثرن بما موجود وما هو غير موجود.
المرأة: أنت تتهمني بفضح أسرار البيت والثرثرة؟
الرجل: (متضجرا) أووف. تمتلكين مخيلة رائعة. تفسّرين القول كما تشتهين.
المرأة: فسّر لي أنت ما تعنيه بقولك لأنهنّ لا يخرجن أسرار بيوتهن ويثرثرن. هل وجدتني أنشر غسيل منزلنا في الشارع. (تقترب منه أكثر هامسة) اذا كنت لا تعرف ان للناس عيون وآذان، ترى وتسمع، وصوتك يصل الى رأس الشارع.
الرجل: (غاضبا) أنت تثيرينني. ان تكلمت معك بهدوء تظنيننيأبرر لك.
المرأة: (مقاطعة) لهذا لا حلّ لديك الا الصراخ.
الرجل: لأنه الاسلوب الوحيد الذي يوقفك.
المرأة: ما يوقفني ليس صراخك بل خروجك للعمل.
الرجل: أي عمل هذا والناس محجورين في البيوت؟
المرأة: ليس كل الناس هم في الحجر، أصحاب المخابز والأفران يعملون، أصحاب المحال التجارية يعملون، عمّال النظافة يعملون..
الرجل: أتريدينني أن أفتح مخبزاً؟
المرأة: ان تأخذ سيارتك وتعمل سائق إجرة.
الرجل: ومن سيؤجرني؟ لا أحد في الشارع.
المرأة: أصحاب المخابز والأفران والأسواق.
الرجل: كم عددهم؟ ها. قولي لي كم عددهم؟ خمسة، عشرة.. سينفد الوقود قبل ان احصل على أجر يكفي.
المرأة: ما شاء الله اعذارك في جيبك.
الرجل: هذا هو الواقع.
المرأة: الواقع أن نتعايش مع ما نحن فيه.
الرجل: الوحش في الشارع!
المرأة: الوحش في كل مكان. عليك بالانتصار لنفسك.
الرجل: (ضاحكا بسخرية) انتصر لنفسي؟ وأين هي تلك النفس. لم أعد أطيقها فكيف سأنتصر لها؟
المرأة: فلسفة فارغة! (تصمت قليلا، وتمد يدها نحوه) اعطني مفتاح السيارة.
الرجل: ما الذي يدور في عقلك؟
المرأة: أريد أن أسدّ رمقك، جوعك.
الرجل: أتعرفين ما الذي سيقوله الناس عني؟
المرأة: هكذا أنت، لا يعنيك أمرنا اكثر مما يعنيك أمر الناس.
الرجل: (متهربا) حسنا، حسناً.. لننهي هذا الأمر. اذا كان الهم هو الحصول على القوت فالحكومة اشارت الى أنها ستوفره لكل الناس.
المرأة: (ضاحكة بسخرية) أي حكومة؟ تلك التي نرى وجوه أصحابها البائسة في التلفاز كل يوم.. اخبرني، ما الذي أوعدونا به وفعلوه؟ كل كلامهم هواء في شبك.. الشبعان يا رجلي لا يهتم بالجوعان.
الرجل: تفاءلوا بالخير تجدوه!
المرأة: أي خير يأتينا منهم؟ لا خير فيهم ولا منهم! جاءوا حفاة، عراة، نهبوا وسرقوا، وما أدراك ما الذي سيفعلونه في قادم الأيام.
الرجل: ننتظرهم ولن نخسر شيئاً.
المرأة: سنخسر أعمارنا ونحن ننتظر! الطفل الذي لد يوم مجيئهم صار شاباً.. كم عام علينا أن ننتظر. شبابنا ضاع وأجسادنا جفّت وهم ما زالوا يأكلون بنا. متى يشبعون منا؟ لا أدري! والله لا أدري! علينا أن ندفع ضريبة بعد أخرى. ضريبة الطارئين في حياتنا، وضريبة القبول على مضض لأوضاعنا، وضريبة صمتنا ورعونة ذيولهم!
الرجل: خطابك هذا لن يجدي نفعاً. الفأس وقع في الرأس.
المرأة: وبالفأس يمكن أن نقتلعهم من الجذور.
الرجل: جذورهم قويّة. تمتد حتى أقصى الشرق!
المرأة: الشرق. آه الشرق! اللعنة على الشرق. كل مصائبنا منه. آه لو كانت الأراضي مثل خرائط الورق لمزقت منها كل شرق!
الرجل: لا عتب على كل الاتجاهات. الخطأ فينا.
المرأة: هل أذكرك بما قلته أنت يوم جاؤنا وجئتني راقصا (تقلده) هذا يوم الخلاص، سقطت أعمدة الأمس البائس. (تصمت قليلا) هل أذكّرك؟ حسناً سأذكّرك بما قلته لك. من ترقص الآن طرباً بمجيئهم سيجعلون حياتك جحيماً. يومها ستترحم على أمسك البائس! هذا ما قلته لك. هل تتذكره؟
الرجل: ليتني لم أرقص !
المرأة: ليتهم لم يجيئوا أصلا. ليتها كانت أضغاث أحلام تلك الأيام.
الرجل: (يائساً) ما جرى قد جرى، ورفعت الأقلام وجفّت الصحف!
المرأة: (تنظر له بألم) أهذا كل ما لديك؟ بل قل رفعت الأرزاق وجفّت المروءة.
الرجل: أنت ساخطة جدا.
المرأة: الحقوق التي ضاعت لا تحتاج الى سخط.
الرجل: تحتاج الى صبر!
المرأة: بل تحتاج الى ثورة.
الرجل: (هاتفا) ما هذا ايتها الثائرة. من يسمع اصرارك يظن أنك تمتلكين كل مفاتيح الحل. أي ثورة تلك في بلد تتبارى فيه الأكفّ للتصفيق لهذا وذاك. كوني امرأة عاقلة. ما تحلمين به يا عزيزتي محال! فزمن الثورات قد ولّى.
المرأة: الثورات باقية ما دام النزف مستمرا.
الرجل: (هازئا) الحمد لله أنك في حظر منزلي. لولا هذا الوباء لأوقعتينا في كارثة!
المرأة: وهل هناك كارثة أقسى مما نحن فيه. لا خبز ولا حرية ولا وطن!
الرجل: كثرت لاءاتك!
المرأة: لم نستطع ان نطلقها في وجه اللصوص.
الرجل: لا أعتقد ان هناك من يحلم مثلك. احتفظي بأحلامك ولا تطلقيها بعيدا.
المرأة: عتبي على من يسجن أحلامه في صدره.
الرجل: (ضاحكا) بالنسبة لي حققت حلمي.
المرأة: (تنظر له باستغراب) اشتريت سيارة.
الرجل: (يقترب منها ويلكزها) بل اشتريتك أنت.
المرأة: لست سلعة لتشتريني.
الرجل: (مترددا) عذرا. عذرا. خانني التعبير، ولم أجد كلمة بديلة.
المرأة: لا بأس. لا تعتذر. كلنا أصبحنا سلعا.
الرجل: يا لفطنتك، ما قلت شيئا الا ولك ورد. آه لو تصبرين قليلا.. الوباء سينجلي ونعود الى ما كنا عليه. وعد مني اني سأملأ هذا المنزل خبزا.
المرأة: قد ينتهي هذا الوباء لكنّه سيترك غصّة في قلوب الناس. ما يعنيني هو الوباء الأكبر، الأعظم الذي سيبقى جاثما على صدورنا.
الرجل: الى أن يأذن الله برحيلهم.
المرأة: بهذا صدقت لأنهم جاءونا وهم يحملون صكّا من الله. يحكمون باسمه ويسرقون.
الرجل: حاشا الله ان فوّضهم الأمر.
المرأة: يكذبون ويظنون ان غباءهم طال الناس.
الرجل: حياتنا كلها أكاذيب. ليتهم يكذبون على الناس وحسب، أنهم يكذبون على الرب أيضا.
المرأة: ربهم ليس رب الفقراء.
الرجل: تعددت الأرباب وفقدنا رأس خيط من يكون.
المرأة: لم نفقده. هو يرانا، ونحن نتمسك به. لا يستطيعون مهما حاولوا ان يغيّروا اتجاه بوصلتنا مثلما فعلوا مثل آخرين. الحر لا يمكن أن يكون عبدا لهم. أنا على يقين أن ما فعلوه بنا يغضب السماء.
الرجل: غباؤهم أعمى بصائرهم. السماء لهم مثلما الأرض. كل شيء لهم. حتى مصائرنا صارت بأيديهم. هم ربع الله او هكذا يسمّون أنفسهم.
المرأة: ألم تقل أنهم أغبياء؟
الرجل: نحن أكثر منهم غباء اذ وضعنا رقابنا تحت أقدامهم.
المرأة: (منتفظة) رقابنا عالية. شلّت أقدامهم كما عميت بصائهم. لا تكن يائسا، فاليأس لا يجلب الا التعاسة، والتعاسة تجبرنا على قبول ما هو أتعس.
الرجل: وهل هناك ما هو أتعس من عيشنا؟
المرأة: الكره. الأنانية. الخنوع
الرجل: (ضاحكا) الفيلسوفة الحالمة!
المرأة: (تصمت قليلا) من؟
الرجل: (مترددا) أمزح معك.
المرأة: كل حياتك مزاح.
الرجل: ألم توصيني أن لا اكون يائسا؟ المزاح يفتح الصدور، والضحك يجعل المرء متفائلا.
المرأة: ليس كل شيء مزحة! مصائرنا ليست كذلك.
الرجل: (ضاحكا) عدنا لمصائرنا وعصائرنا! أنا الآن قد اقتنعت...
المرأة: بماذا؟
الرجل: أن اخرج واتحدى الوباء. ما سمعته منك حفّزني في أن أخرج واملأ منزلنا بالخبز.
المرأة: (مع نفسها) ليس بالخبز وحده يحيا الانسان.
الرجل: ها..؟ ماذا قلت؟
المرأة: (حائرة صامتة)
(يدخل الكاتب وهو يحمل اوراق النص)
الكاتب: (مع الرجل والمرأة)
عذرا، انتهى حواركما. (مع الجمهور) بصراحة لا أعرف ما أقول. لا أعرف كيف أنهي المسرحية. لا أحب النهايات الكلاسيكية التقليدية. لا أحب أن اضع شخوصي في موقع التطهير كما لا أرى ان النهايات المفتوحة تقدم شيئا لكم. هذه أوراق النص المسرحي الذي شاهدتم وربما عشتم جزءا منه (يرفع الأوراق بيده) سأضعها بين أيديكم لتجدوا لها النهاية. اكتبوا ما تشاؤون، نهايات سعيدة أو تعيسة. اكتبوا ما شئتم ولا تتهموني بالغباء او الهروب وبأني خذلتكم وبددت وقتكم بالقراءة والمشاهدة. لكنني والله أنا مثلكم، مثلكم تماما. الحيرة تلفّني. توقفت لأني لم أجد طريقا استمر فيه. قد يسميه بعضهم الجمود الفكري. أقر أن جمودا فكريا أصابني خير من أن يتهمني بعضهم بالتحريض دون وضع الحلول. لهذا أحببت أن تشاركوني النهاية لا لشيء الا لأنها قضيتكم. قضيتنا جميعا وأنتم وأنا معكم وكل أحرار الدنيا أحقّ بوضع النهايات لها. لا نريد أن نسدل الستار فالستار لا يليق بوطن حر وشعب ثائر.

اظلام

البصرة المظلومة 10 تموز - 1 ايلول 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى