خليل حمد - فالج لا تعالج: مذهل..

"لا وعي من دون الم" هذا ما يقوله عالم النفس كارل يونج. ويبدو انه مصيب في ذلك، فان دققت ستجد ان أكثر الناس ابداعا اشدهم الما. ولا ابداع بدون الم، بينما ستجد ان العلاقة بين اليتم والعبقرية هي علاقة السبب بالنتيجة.
انا كنت محظوظا من هذه الناحية، حيث فقدت امي وتيتمت وانا في السنة الثانية من عمري، ولم تترك امي البيولوجية صورة، ولذلك فانا لا اعرف أي ملامح لها، وكأنها السراب، ويمكنني ان ادعي ببساطة أنني ابن شجرة او ابن الجبل او ابن السحاب او ابن الالم.
وعملا بقاعدة كارل يونج أعلاه، وجدت نفسي، وانا ابن اليتم والألم، عاشقا للأدب، قراءة، وكتابة في سن مبكرة.
وفي سن 16 عثرت على عامل مشترك أعظم بيني وبين ليو تولستوي، العبقرية الروسية الاستثنائية والاسطورية، وأقول اسطورية من واقع إنجازاته واحداث حياته المعروفة...يا للعجب! ذلك العامل المشترك هو انه أيضا فاقد الام مبكرا ولم ير صورة لها ابدا. لكنه تميز عني، ولا مجال للمقارنة من حيث الانجارات، لان حياته كانت اشد مأساوية، فكان تلقائيا أعظم الما وعبقرية وإبداعاً. فبينما وجدت انا اما بديلة، وهي خالتي اخت امي خففت علي المي وقد ظننتها امي، فقد تولستوي الاب والام وعاش في ميتم، وكان في طفولته شبه مشرد ومات مشردا.
هذا العامل المشترك أوحى لي بفكرة عجيبة، اظنه الهام جاءني من السماء او من وادي عبقر او من نار الألم، وانا في تلك السن المبكرة، وهي ان هناك علاقة بين الابداع الادبي وفقدان الام.
هكذا ولدت الفكرة في صفحتها الاولى. لكنها، أي الفكرة، ما لبثت ان تطورت الى فكرة أكثر اتساعا، أي ان هناك علاقة بين اليتم والابداع الادبي وعلى اعتبار ان كل مبدع في مجال الادب لا بد انه يكون قد اختبر اليتم. ثم تطورت الفكرة مرة أخرى عندما اقترح رئيس لجنة رسالة الماجستير في جامعة سان دياجو في كاليفورنيا، توسيع الفكرة لتشمل الفقد بشكل عام object loss وعلى أساس ان هناك ما يؤكد بأن بعض الادباء المبدعين أمثال همنجوي لم يختبروا اليتم وكان ساردا سحريا.
المهم انني احتفظت بسر تلك الفكرة في قفصي الصدري، لكي لا اتصف بالجنون او الهرطقة، وبدأت منذ تلك اللحظة بالبحث والتمحيص وجمع المعلومات، فأول شيء اقرأه عن أي كتاب سيرة حياة المؤلف لمعرفة ظروف حياته المبكرة وهل هو يتيم ام لا؟!
استمر هذا البحث وتطور خلال دراستي الجامعية الأولى في جامعة بيت لحم، وهناك وحيث توفرت بيئة ثقافية غنية أعلنت الفكرة لبعض المقربين، لكنني لم أجد أحدا يصفق لها او يصدق ادعائي ولا عتب في ذلك فلم أقدم الدليل على صحة الطرح حتى ذلك الحين. وتخرجت من الجامعة ولم أتمكن فيما اذكر من اقناع أحد بالعلاقة المفترضة بين اليتم والابداع الادبي في ذلك المحيط. وفي تلك الفترة تطورت مواهبي الكتابية حيث كتبت مذكرات طالب جامعي نشرتها جريدة الشعب المقدسية وقد سمعت ثناءا عليها من رئيس التحرير الذي أبلغني بأن الجريدة توزع اعداد أكثر في اليوم التي تحتوي على مذكراتي الجامعية.
بعد التخرج، انتقلت مباشرة للعمل في الكويت، وهناك وجدت بيئة ثقافية مزدهرة، فعملت على تطوير مهاراتي الإبداعية أكثر فأكثر، وكتبت المزيد من المحاولات الأدبية، وهناك كتبت اول قصة قصيرة متكاملة الأركان بعنوان " ليلى والبحر" وقد وافق الاديب محمود الريماوي على نشرها في جريدة الوطن، ونشرت فعلا.
لم تطل اقامتي في الكويت في تلك المرحلة، لذلك سافرت الى الولايات المتحدة مدفوعا بشغف البحث والدراسة والعثور على إجابات بخصوص فكرتي التي تطورت الى نظرية لم يقتنع بها حتى ذلك الوقت احد غيري.
كانت الغاية من السفر الى الولايات المتحدة دراسة الماجستير في الادب الإنجليزي في احدى الجامعات هناك. وفعلا بعد ستة اشهر في برنامج اللغة المكثفة في جامعة رفرسايد الاتحادية، التحقت بجامعة San Diego state University في ولاية كاليفورنيا. وهناك تكثف بحثي حول نظريتي الواعدة، خاصة ان أحد أساتذة برنامج اللغة نصحني بكتابة رسالة ماجستير بدلا من الجلوس لامتحان الشامل للحصول على شهادة الماجستير وبهدف تسهيل مشواري نحو الدكتوراه.
المهم انني أنجزت المتطلبات الاكاديمية لشهادة الماجستير وصار لا بد من مواجهة الحقيقة وهي اختيار موضوع لمشروع رسالة الماجستير، وحيث انني كنت مهوسا بالفكرة، قررت ان اكتب رسالة الماجستير حول العلاقة المفترضة بين اليتم والابداع على الرغم من مخاطر الفشل، وهنا تدخل الأستاذ رئيس اللجنة واقنعني بأن أوسع الفرضية وبحيث يتم الحديث عن فقدان جسم object loss وعدم تحديد الفقد بالأب والامparental loss.
لكنني تمكنت من إقناعه لاحقا بضرورة تركيز البحث في تلك العلاقة ولذلك كانت هذه الفكرة هي محور رسالة الماجستير الأساسي ضمن الإطار العام. وقد وافق الدكتور نكولز على ذلك الطرح على مضد كبداية. واذكر انه كان مترددا في البداية، وكنت أخشى ان يرفض العمل على تلك الفكرة، لكن والدته ماتت لسوء حظه وحسن حظي، اثناء النقاش، فعاد متشجعا على بحث الموضوع من واقع ما الم به من الم الفقد على ما يبدو.
فاختار لي ثلاثة كتاب هم بابلو نيرودا، ورالف السون، وسلفيا بلاث، وهم الثلاثة ايتام إضافة الى ان الأول من أمريكا اللاتينية والثاني من أصول افريقية، والثالثة امرأة بيضاء من أصول المانية.
والصحيح ان العثور على ادلة تربط بين ابداع ويتم الثلاثة المستهدفين لم يكن سهلا. لكنني تمكنت من اقناع اللجنة بطرحي وذلك لوفرة الأدلة على تلك العلاقة لدى المذكورين، واظنني كنت شديد الحظ في ذلك الاختيار فلم أكن شخصيا اعرف منهم سوى الشاعر العالمي بابلو نيرودا.
المهم في تاريخ 3/3/1983 وقعت اللجنة بكامل أعضاءها بالموافقة على رسالة الماجستير وكانت بعنوان creativity and the search for fulfillment “ " وكان رقم الملف في المكتبة 13 ، ومن يومها صار الرقم 3 رقمي المفضل.
وبذلك كنت اول شخص على الاطلاق يضع نظرية تتحدث عن علاقة محتملة بين اليتم والابداع الادبي، وبنيت على أساس التحليل النفسي لحياة واعمال الكتاب، معترف بها اكاديميا على الأقل حيث أدرجت ضمن مراجع رسائل الماجستير في الولايات المتحدة dissertation abstracts .
تخرجت من الجامعة، وعدت الى الكويت وعملت وتزوجت وانشغلت في كل شيء لكنني لم انشغل عن تلك الفكرة. ظل موضوع اثبات صحة النظرية يشغلني، فانا كنت مقتنع تمام الاقتناع بها لكنني لا املك الأدلة، المناسبة، وقد وجدت ان من سبقني من الباحثين حاولوا العثور على سر الابداع وهناك أبحاث عديدة تطرقت للموضوع لكن لم يتمكن أحد ابدا من اثبات ان اليتم سبب أساسي في خلق الابداع، وتبين لي لاحقا ان ذلك بسبب خطأ في اختيار العينات الدراسية.
المهم في وقت لاحق وقع بين يدي بمحص الصدفة كتاب the listing of the most 1oo influential person in history للكاتب الأمريكي مايكل هارث، ومترجم من قبل انيس منصور تحت عنوان " اعظم 100 شخصية في التاريخ".
وكأنني شعرت لحظتها بأن الكتاب ألقاه علي طائر الهدهد ، على شاكلة كتاب بلقيس. فقد حسم محتوى الكتاب الامر، وصار لا بد من مواجهة الحقيقة بتأكيد او نفي النظرية من خلال بحث العلاقة المفترضة عند افراد هذه العينة. ومن خلال البحث التفصيلي تبين ان 54% من أعظم 100 ايتام في الطفولة التي تمتد الى سن 21 سنه حسب علم النفس. وبذلك حصلت على دليل احصائي يتعدى عامل الصدفة ويرتقي الى الدليل العلمي، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان اليتم سبب في خلق الابداع. لكن ليس أي ابداع وانما الابداع العبقري، وعلى اعتبار ان اليتم أعظم مصدر للألم بينما قد تدفع مصادر أخرى لا حصر لها من الألم الى ولادة الابداع في حدود لا تصل الى العبقرية كما هو الحال عند افراد العينة.
خلاصة الحديث، وهذا هو المهم، لقد امضيت عمري وانا ابحث بين أروقة المكتبات وفي بنوك المعلومات، وادرس واعمل واناقش، حتى انني سافرت الى حدود العالم الغربية شاطي المحيط الهادي للحصول على المعرفة، ثم لاحقا الفت كتاب بعنوان " فلنهدم اصنام القرن الحادي والعشرين" مستهدفا نقد الفكر العربي الحديث الذي يرتقي الى عبادة الفكرة. ثم بعد ذلك الفت كتاب اخر استنبطت فكرته من واقع نظريتي التي اسميتها ب" النظرية البوزيترونية في كشف سر الطاقة الإبداعية" والتي لا مجال للحديث عنها هنا بتفصيل وربما نغطي هذه التفاصيل في مقال اخر.
المهم حتى تلك اللحظة لم تلق فكرة النظرية البوزترونية سوى اعتراف محدود، ولذلك لم أتمكن من العثور على دار نشر تتبنى طباعة ونشر الكتاب الذي قدمت فيه الدليل الإحصائي على صحة النظرية وطبعت منه عدد محدود من النسخ وزرعتها صدقة عن أرواح والدي للأيتام. حتى انني عزفت عن استكمال تأليف كتاب النظرية المذكورة، والذي أتصور انه يمكن ان يتصدر قائمة المبيعات best seller لو انجز، كونه يطرح نظرية مدعومة بالدليل الاحصائي في غاية الأهمية من حيث القيمة في مجال للعلوم الإنسانية، ولها انعكاسات على كل جوانب الحياة.
لكن بالأمس تغير كل شيء فجأة. فقد نشرت على صفحتي مجموعة مقالات على شكل يوميات كورونية، وقد أعجب الأستاذ الدكتورعادل الاسطه مشكورا وهو أستاذ النقد الادبي الأسطوري لمن يعرفه، بآخر مقال والذي كان بعنوان " فالج لا تعالج: فضفضة وتأوهات حرب الكورونا". فعلق بكلمة واحدة على المنشور هي " مذهل ".
فأحدثت هذه الكلمة اثرا مدويا، وكأن زلزلا عنيفا وقع تبعه تسونامي، وصلت امواجه الى المغرب العربي، فاتصل بي من هناك الاستاذ مهدي ناقوس من ادارة انطولوجيا السرد العربي يطلب الاذن بنشر مجموعة من كتاباتي على صفحتهم، ووافقت بلا تردد مشكورا متوقعا ان يكون ذلك من صدى تعليق الدكتور عادل الاسطة.
ثم تواصلت انا لاحقا مع دكتور هناء علي البواب صاحبة دار نشر خطوط وظلال في الاردن، والتي ذكرها الأستاذ عادل في احدى خربشاته التي تناولت الادب في زمن الكورونا، وقال ان ما كتبته يذكره بما كتبه بمقدمة ( الديكامرون" ل ( بوكاشيو) و" يوميات سنة الطاعون" ل ( دانيال ديفو)، فوافقت على عرض فكرة تبني نشر الكتاب على اللجنة الدارسة لديهم.
حقا انه لشيء "مذهل" كيف يمكن لكلمة واحدة، ان تفتح لك أبواب السماء. ولا اظن ان أمواج هذا التسونامي الرائع الذي احدثته الكلمة المذكورة قد وصلت الى منتهاها.
مذهل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى