مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (23) الخالق العظيم

(23)

* الخالق العظيم !!

حفل اليوم الثاني للقاء عارف نذيرالحق وسارة سليمان بحوارات عميقة ومطولة حول الخلق والخالق والغاية من الوجود ، ما جعل سارة تعيد النظر في ثقافتها كلها ، التي كانت قائمة على معرفة تراوح بين أللاأدرية والإلحاد . سألته وهما يجلسان مسترخيين على أريكتين متجاورتين إلى إحدى زوايا الصالون ، بعد أن أمضيا يوما حافلا بالتجوال في مناطق البريّة ، اجتازا خلاله المناطق التي استولت عليها مستوطنة كيدار:

- حسب رأيك ما هي البداية التي يمكن أن يبدأ بها حوار حول الوجود؟

- لا بد أن يكون سؤالا وجودياً. من أوجدنا، وماهو، ومتى، ولماذا، وما هي غايته، ليس من وجودنا فحسب بل من الوجود برمته، وما علاقتنا به، وهل عرفناه فعلا حق المعرفة، وهل عملنا ونعمل حسب ما أراد هو، وهل حققنا ما يريد ، وهل عملنا منفصل عن عمله ، أم أنه مكمل له ؟ وهل أنجزت عملية الخلق وبلغت الكمال ؟ إلى آخر الأسئلة الوجودية التي يمكن أن تطرح .

- من أوجدنا حسب رأيك ؟

- أوجدنا قائم بالخلق يمكن أن أسميه الخالق أوالمبدع !

- لماذا ليس الله أو ما يقابلها في لغات أخرى ؟

- هذه مفردات لغوية أوجدها البشر بعد اختراع اللغات، منذ بضعة آلاف محدودة من الأعوام، بينما الخالق موجود منذ مليارات الأعوام ، وهو الأول الذي يفترض أنه ليس قبله شيء. ولا أظن أنه يعتبر نفسه إلهاً وخاصة بالمعاني المختلفة التي قصدها البشر.

- هل هو واحد أم أكثر؟

- هو واحد في كل هائل ومتعدد !

- من أوجده ؟

- أوجد نفسه بنفسه لنفسه !

- منذ متى ؟

- منذ الأزل

- بعد العدم ؟

- لم يكن هناك عدم ! الوجود موجود به منذ الأزل.

- وما هو من حيث ماهيته وجوهره ؟

- طاقة . طاقة تتجلى في مادة متعددة الأشكال والأحجام والفضاءات والحيوات ! والمادة بدورها تتحول إلى طاقة في مرحلة ما من وجودها أو عمرها . فالمادة ليست إلا طاقة متحولة . وما نرى أنّه كائن حي أو جماد ، ليس في حقيقته إلا طاقة متحولة.

- أليس له شكل محدد؟

- لا ! هذا من حيث البدء الأزلي فقط .

- ماذا تقصد ؟

- من حيث بدأ وجوده وليس من حيث ما انتهى إليه ؟

- هل هو ضمن زمان ومكان ؟

- لا . هو خارج حدود الزمان والمكان . أو بلا زمان ومكان ، من حيث البدء أيضاً!

- وماذا من حيث ما انتهى إليه أو بلغه ؟

- هو في كل مكان وخارج حدود المكان المحدد. وهو في كل زمان وخارج حدود الزمان المحدد . إنه المتجلي في كل شيء ، فليس في الوجود إلا هو . إنه الحقيقة المطلقة وليس هناك حقيقة مطلقة غيره .

- ما المقصود بالمكان والزمان المحددين ؟

- المكان والزمان اللذين يمكن أن يعرفهما الإنسان ويضع حدودا أو قياسا لهما.

- وماذا عن الشكل؟

- كل الأشكال واللا أشكال شكله دون أن يكون له شكل محدد بعينه .

- ماذا لو قلنا أنه يشبه الإنسان ؟

- مستحيل ! نكون قد حددنا شكله وأقصرناه على الإنسان وهو أكبر من كل الأشكال ، لكن ليس هناك ما هو منفصل عنه، من أصغرخليّة إلى أكبر مجرّة!

- هل هذا يعني أنه كل شيء وكل شيء هو ؟

- أجل !

- أي الوجود كله وما فيه ؟

- أجل !

- هل جاء الوجود كله منه ، أي من نفسه أم أنه أتى بشيء من خارجها؟

- بل من نفسه فلم يكن هناك شيء خارجه، ولم يكن هناك خارج أصلا ، لم يكن هناك إلا هو ، وهو وحده!

- إذن يمكن القول إضافة إلى ما قلته من قبل من أنه أوجد نفسه بنفسه لنفسه ، إنّه كان وما يزال يوجد ويطوّر نفسه بنفسه لنفسه !

- أجل

- أين يمكن أن نضع الإنسان في هذه الحال؟

- أرقى الأشكال الحيّة غيرالمكتملة التي تجلّى فيها الخالق .

- تجليه لنفسه !

- أجل تجليه لنفسه .

- لكن لماذا غير مكتملة ؟

- لأن هذا ما توصلت إليه عملية الخلق حتى اليوم !

- أي أن الخالق لم يتوصل إلى خلق مكتمل وأن قدرته غير مطلقة ؟

- أجل ! فقدرته ليست مطلقة ، وأشك في أن يكون لديه قدرة مطلقة ذات زمن ! كتلك القدرة التي حدثتنا عنها الكتب الدينية، سواء أكانت التوراة أوغيرها..

- حتى قدرة يهوه في التوراة لم تكن مطلقة في أحيان كثيرة .

- لأن كتبة التوراة لا يعرفون ما هي القدرة المطلقة بالضبط! والأمر نفسه ينطبق على معظم الكتب الدينية . ففي الوقت الذي نجد أنفسنا فيه أمام قدرة مطلقة لخالق ، نجده أحيانا غير قادرعلى فعل أشياء بسيطة جدا ، أو معرفة مكان .. إنها مشكلة العقل الذي يجتهد ويفكر ويكتب.

أطرقت سارة للحظات وأخذت نفسا عميقا وهي تحتضن رأسها بيديها .. قالت محاولة استيعاب فلسفة عارف:

- لكي أعرف أنني أفهمك ، هل يمكن القول في هذه الحال إن الخالق طاقة سارية في الخلق ومتجلية فيه ؟

- أجل !

- متجلية في كل شيء بحيث تصبح هي الوجود والوجود هي ، أي ليس هناك وجودان خالق ومخلوق!

- صحيح ، وحين نتحدث عن خالق وخلق ومخلوق نتحدث بشكل مجازي، فالخلق هو الخالق نفسه في تجلياته المختلفة وليس في الوجود غيره.

- وهويدرك وجوده كطاقة متجلية وملموسة وغيرمتجلية أيضا، ويدرك أنه خالق؟ !

- منطقيا لا يمكن لطاقة تقوم بكل هذا الخلق العظيم أن لا تدرك وجودها وبالتالي لا تدرك أنها طاقة مبدعة وخالقة . إن العكس هو الصحيح ، فهي تدرك وجودها وتدرك أنها تقوم بعملية ابداع وخلق. فوعيها يشمل الوجود كلّه وما فيه ، كما تشمله طاقتها ، من أصغر خلية إلى أكبر مجرة كما أسلفنا .

- وهل لها غاية ؟

- منطقيا أيضا لا يمكن أن لا يكون لها غاية، وأنها تقوم بعملية خلق عشوائية عبثية ، حتى وإن بدأت العملية كذلك . إن كل ما نلمسه ونراه ليس إلا تحقق لغاية ما .

- ماذا تقصد بقولك وإن بدأت العملية كذلك ؟

- لم يكن للوجود البدئي غاية محددة . كطفل يلعب بالألوان دون أن يعرف أنه في مقدوره أن يعمل من الألوان ما هو جميل . الغاية ولدت لاحقا وبعد حقبة زمنية لا يمكن تحديدها .. وعلى الأغلب كان كل شيء يجري بشكل عشوائي إلى أن بدأ التوصل إلى ما هو منظم. العلوم لم تستطع حل ألغاز نشأة الحياة حتى اليوم . وما تم خلقه في مليارات الأعوام لا يمكن التوصل إلى حقائه في بضعة قرون .

****

شعرت سارة أن عارف يضعها أمام فكر معقد جدا، بقدر ما يبدو أنه سهل. إذ يفترض في من يبحثون في زمننا عن نشأة الحياة وتطوّرها، أنهم جزء من ذات الخالق نفسه حسب فلسفته ، فكيف يبحث الخالق عمّا خلقه ، ألم يعد يعرفه أم أنّه نسيه ؟ طرحت السؤال على عارف، فأجاب بما لا يتوقعه عقل على الإطلاق:

- أولا أشكرك حبيبتي على هذا السؤال المهم جدا. نحن نتحدث عن خالق غير مطلق القدرة، أوجد نفسه بنفسه لنفسه، وما زال يوجد ويطوّر نفسه بنفسه لنفسه ، وأنّه اكتشف بعلمه أنّ هذه العملية استغرقت معه قرابة أربعة عشر مليار سنة ، حين أراد أن يراجع حساباته وينظر في ما خلقه ، وكم استغرق معه ، على ضوء ما توصل إليه علمه ، وإلى أي حد نجح في مسائل وإلى أي حد أخطأ، ليدوّن المراحل التي مرّت بها عملية الخلق المديدة ، ليتلافى ولو قدرالإمكان أية أخطاء يمكن أن تحدث في المستقبل ، وليعرف إلى أي حد حقق شيئا من الغاية التي ينشدها من عملية الخلق برمتها !

فغرت سارة فاها وهي ترى أن عارف تحدث عن الفعل الإنساني المعرفي كفعل للخالق نفسه ولم يفصل بين الخالق والإنسان . قالت :

- هل تضرب لي مثلا يبسط المسألة ؟

- أظن أنني بسطتها . ومع ذلك يمكن أن تتخيلي روائيا وشاعرا في الوقت نفسه ، أمضى بضعة أعوام في كتابة مسوّدة نص أدبي ، وبعد عقدين أو ثلاثة عقود أراد أن يراجع المسوّدة ليفكر فيها ويدققها ليظهرها إلى النور . مع الفارق في المسألتين .

ضحكت سارة وهي تسأل :

- هل هذا يعني أن عملية الخلق حتى اليوم شبه مسوّدة ّوأنها لا تعبربإطلاق عما هو منشود !

- صحيح ، لأن الغاية المثلى المنشودة لم تتحق بعد ؟

- وما هي ؟

- تحقيق قيم الخير والعدل والمحبّة والجمال.

- ولماذا لم تتحقق؟

- لأن الإنسان لم يدرك وجوده !

- ماذا تقصد بما لا يدرك وجوده؟

- معرفة نفسه .

- لم أفهم ! هل الإنسان لا يعرف نفسه حتى اليوم ؟

- أكيد لا يعرفها ! ولو أنّه عرفها لما تعبد لإله توهم أنه أوجده ليعبده !

- ومتى يمكن للإنسان أن يعرف نفسه ؟

- حين يدرك أن وجوده غير منفصل عن الخالق ، وأن الخالق موجود فيه ، وأن لوجوده غاية ، هي المساهمة في عملية الخلق مع الخالق ، وتحقيق الغاية المثلى من الخلق !

- ألم يتحقق ذلك بشكل نسبي ؟

- طبعا تحقق بشكل نسبي ضئيل لدى بعض البشر، لكن القتل والإستغلال والهيمنة والتعصب والحقد والظلم والحروب والفقر والجشع، واضطهاد الشعوب، ومسائل أخرى كثيرة ما تزال قائمة . أي أن الحضارة الإنسانية ما تزال بعيدة المنال ، لأن الإنسان الكامل والخلق الكامل ، لم يوجدا بعد . وقيام دولة اسرائيل تحديدا وما تفعلة لهو أحد أهم النماذج على سوء عالم اليوم !

- هل يمكن القول : إن كمال الخلق من كمال الخالق !

- إلى حد ما ، لكن ليس بالمطلق !

- لم أفهم !

- لأن الخلق كله ليس بمستوى الكمال الذي بلغه الخالق بكليّته . فالخالق المتجلي في الكون بكواكبه ونجومه ومجراته ، بلغ كمالا اعجازيا أرقى بكثير من الكمال القائم من قبل الاحياء على كوكب الأرض ، والمتجلي في الإنسان مثلا .

- لماذا لم يضع الخالق كماله كله في الإنسان طالما أنه تجل له ؟

- العملية تخضع لقوانين أوجدها الخالق في الخلق ، ولا تخضع لأوامر، ورغم أن هذه القوانين أوجدت لدى الإنسان العقل المتفوق خلال ملايين السنين ، إلا أن الإنسان لم يوظف هذا العقل على أكمل وجه بعد .

- لكن الخالق هو مصدر هذا العقل، إن لم يكن العقل نفسه هو عقله، كونه غير منفصل عنه ، فلماذا لم يوظفه على أكمل وجه لتحقيق الغايات المنشودة ؟

- هذه إحدى أهم ميزات هذا العقل الكوني الكلّي الذي صدرت عنه العقول كلها ، وبشكل خاص العقل الإنساني ، لقد منح كل عقل جزئي متولد عنه في كل كائن انساني أن يفكر بشكل مستقل عن العقل الآخر، حتى عن العقل الكوني الكلي ، لتتنوع أشكال الوعي والتفكير، لإثراء مقدرة العقل الكوني ، وتكامل عملية الخلق بين الخالق وذاته المتجلية في الإنسان .

- تقصد لجعل الخالق يفكر ويعي بما لا يحصى من العقول لبلوغ ما هو أفضل وأرقى وأجمل لتحقيقه!

- صحيج. العقل هو أروع ما أبدعه الخالق خلال أربعة عشر مليار سنة من الخلق والإبداع، فجعله حرّاً في كل كائن ، من أصغر خلية إلى الإنسان، أرقى تجل وتجسد للخالق نفسه .

- لذلك يكون رقي الإنسان من رقي الخالق . والمؤسف أن من يدركون ذلك في الوجود هم قلائل جدا، فتوظيف العقل يسير في اتجاه غير الذي يطمح إليه الخالق .

- أحسنت عزيزتي . والمؤسف أكثر أن ثمة ملايين من البشرأصبحوا كالببغاوات ، لم يوظفوا عقولهم سوى للإقتناع بفكر ما وترديد مقولاته ليلا نهارا، ليغدوا كالببغاوات حقيقة لا وهما. ليجد هؤلاء أنفسهم خارج التاريخ ، بل خارج الزمن نفسه ، بل وخارج عملية الخلق نفسها ، ومصيرهم إلى الفناء ، لتفيد عملية الخلق من الطاقة التي ستنتج عن مواد أجسادهم.

- لا أعرف أين ذهبت بي يا عارف ، لقد شعرت أنك وضعتني خارج فكر فلاسفة كثيرين عرفتهم ، رغم أن فكرك يلامس بعض أفكارهم بشكل أو آخر .

- فكري ليس معزولا عن الفكر البشري عزيزتي ، حتى بعض الديني منه ، وإن اجتهدت قدرالإمكان لأن تكون لي خصوصيتي. فكري ينتمي إلى مذهب وحدة الوجود ، لكن ليس كما يفهمها ابن عربي وسبينوزا وغيرهما ..أنا أسميها "وحدة الوجود الحديثة " وهي عندي فلسفة مادية روحية ، تقوم على العلم أوّلا، والمنطق ثانيا ، والتأمل والإجتهاد ثالثا .

- المؤسف أن الناس في زمننا لم يعودوا يهتمون بالفكر، واستكانوا إلى العقائد التي آمنوا بها .

- الأمر الذي لا يصدق أن الناس يتعلمون شيئا ويؤمنون بشيء آخر، فعلى سبيل المثال، تعلموا في المدرسة أن الأرض تدورحول نفسها وحول الشمس، وأن الشمس لا تغرب ولا تشرق ، وحين يواجهون بذلك لا يعترفون بما تعلموه ويصرون على حقيقة ما أوردته كتبهم الدينية !

- لماذا برأيك ؟

- ربما لتخوفهم من عذاب جهنم . تصوري هذا الخطأ البسيط في تقديم البخور، الذي دفع يهوه لأن يحرق ابني هارون ! ألا يجعل هذا الأمر اليهودي المتدين يؤمن بدين يهوه ، شاء أم أبى خوفا من انتقامه الفظيع .

- صحيح فإذا كان هذا انتقام يهوه من خطأ غير متعمد ، فكيف سيكون انتقامه من خطأ أكبر ؟

- لقد انتقم كثيرا وأودى بحياة مئات الآلاف حين تراجعوا عن عبادته . حتى سليمان نفسه تراجع عن عبادته .

بدأت تتثاءبين..

- صحيح نعست .. مع أنني أطمح في الإستماع إليك أكثر .

- ستسمعين إلى أن تملّي !

- تصبح على خير ..

قبّل عارف سارة وأودعها السرير لتنام على طعم القبل كما نهضت ! لم تجهد كثيرا لطرد الرغبة الجنسية من مخيلتها حين راودتها للحظات .. وجدت أن الأمر ليس في غاية الصعوبة ، حين تخيلت نفسها تنام بين أحضان عارف، الذي لم تسأله حتى حينه لماذا لا ينام معها في سرير واحد . خاصة وأن السريرين اللذين في بيته مزدوجين!


  1. ***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى