علي البدر - عندما يَتَنَبَّأُ السيّابُ.. قصة قصيرة

(ستة وخمسون عاما مرت وأنت ياسيابُ بيننا تعيش)

تحسس بيده اليسرى صدره ومسحَت أصابعُه آثر الشضايا المرسومة عليه وحاول دسَّ يده اليمنى بجيبه متلمساً كتابه الذي مزقته شضايا حرب مجنونة ، لكنه انتفض وكأن شيئأ أيقظه من رقدة طويلة. رمقني بنظرة فلاحت ابتسامة غير معهودة بينما رُسِمَت خيوطُ تفاؤلٍ على وجهه وبدا يتمايل كسعفة تحملها الرياح. همً بالكلام فقاطعته معاتباً:
- جئتُ ونشوةُ اللقاءِ ياسياب أحمِلُها. كفانا هَماً وأنت العارفُ الدّاري. الزمنُ أتعَبَني ودهرٌ ضاعَ فيه البائعُ والشّاري؟
- ستضحك يوماً وتلوي القدر وتصهر الحديد وتنصب القضبان ليقبع خلفها الذئابُ سارقوا قوت الشعب. "مللتُ سماع صوت الرجاء: "جيكور، أين الخبزُ والماء.
ألليل وافى وقد نام الأدلاء
والركب سهرانُ من جوع ومن عطشِ
والريح صرِ وكل الأفق أصداء.
جيكور. مدّي لنا باباً فندخله أو سامرينا بنجم فيه أضواء". سينجلي الظلام وتعود ضحكاتنا وتلك اللحظات السعيدة، نقفز الأنهار ونصعد نخيل البرحي والمكتوم ونقطف الرمان والكروم. ستعلو ضحكاتنا ونحن نسبح في البويب ونقرأ الشعر في بيت الأقنان، يسمعنا البسطاء في كوت المراجيج ويرفرف فوق رؤوسنا الحمام.
- أجل ياسياب. جئتك والهم يلفني.. ينخر أعماقي، وها أنا أقول..سينجلي الظلام وتشرق الشمس على بيوت المسحوقين ونطرد الدخلاء سارقي قوت الشعوب وقاطعي الرقاب .
ابتسامة أشرقت، لم أألفها عند لقاءاتي المتككرة معه. حاول الإنحناء فلم يستطع. أشار بسبابته نحوي فأيقنت أن شيئاً ما لابد أن يقوله. كلماٌت ما زال صداها يرن في أعماقي أسمعُها كلما تطوقني الهمومَ وتنتابني الهواجس.
- "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر،
أو شُرفتانِ راحَ ينأى عنهما المطر.
عيناكِ حينَ تبتسِمان تورِقُ الكرومُ وترقصُ الأضواءُ
.. كالأقمارِ في نهرْ، يرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعة السَّحرْ.".
أشرتُ له ملوحاً بيدي. وداعاً وداعاً، بينما ظلَّ صوته يلاحقني . توقفتُ لحظات فبدا أكثر إصراراً. لوَّح لي بذراعه حتى اختفى وسط الضباب لكن صوتَه ظلَّ يُسمع من بعيد..
- " كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيومَ
وقطرةٌ فقطرة تذوبُ في المطر.
وَكَركَرَ الأطفالُ في عَرائِشِ الكرومِ،
وَدَغْدَغَتْ صمتُ العصافيرِ على الشجر
أنشودةَ المطر.
- مطر. مطر. مطر...
------------------
جيكور: قرية في جنوب العراق عاش فيها بدر شاكر السياب.
البويب: نهر صغير ذكره السياب في الكثير من قصائده وتصوره البعض كنهر النيل أو التايمس...
كوت المراجيج: أي كوت المراقيق ، ألرق أو العبيد، ويسمى بيت الأقنان. وبعض من سكان ريف جنوب العراق يقلب حرف القاف ويحولها إلى جيم. مثل: قاسم إلى جاسم.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى