مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (25) *شائعات عن جمال سارة وعلاقتها بعارف! (26) *عارف نذيرالحق يرفض استقبال ممثلي السلطة الإسرائلية .

(25)

*شائعات عن جمال سارة وعلاقتها بعارف!

* فيضان سيل وادي أبوهندي!


انتهت إجازة سارة .. ودّعت عارف بقبلات حارة، وعادت إلى بيتها في القدس الغربية . قالت إنّها لن تغيب عنه كثيرا، وستحاول أن تقضي معظم أيام السبت والعطل معه ، وربما تأتي حتى خلال الأيام التي يكون فيها العمل قليلا لتنام وتذهب في الصباح إلى الكليّة . عادت إلى التدريس لتقارع الفلسفة بعقل مختلف نسبياً عمّا قبل مع طلابها ، داعية الطلاب إلى التفكير في صحة ما تحويه الكتب، والمقارنة بين مختلف الأفكار، دون اعتبار ما يقرأونه حقائق ، بل مجرد اجتهادات لعقول تبحث عن الحقيقة بالمنطق والإستدلال والتأمل والإجتهاد ، مضيفة إلى وعيهم رؤى جديدة استلهمتها من فلسفة عارف . في البلدة انتشرت شائعات كثيرة عن جمالها وعلاقتها بعارف نذيرالحق. فعن جمالها قيلت الأوصاف المتداولة والمعروفة لدى الناس عن الجمال الأنثوي ، فثمة من قال إنها قمر! وآخر قال إن الماء يرى من روحها ! يقصد عنقها! وآخر رأى أنها كالشمس في كمالها، وثمة من شبهوها بما هو أكثر واقعية ، فقالوا إنها ظبية، وهي كريم الفلا حين تركض في الجبال . أما بعض اللغويين فاطلقوا عليها أوصافا لغوية ، فقيل إنّها حوراء ، وقيل لمياء ، وآخر قال بثنة، فرد آخربل بثينة، فخالفهما آخر بأنها بثين ! ليخرج آخرعلى الجميع معلنا أنها أسيل أو أسيلة لنعومة خديّها . وكان جميع هؤلاء يأسفون لكون الفتاة يهودية ، ووقعت في حب أحد أهم مثقفي البلدة ووقع هو في حبّها. وتمنوا لو أن هذا الجمال كان لفتاة مسلمة وليست على دين الكفّار .. الطريف أن أيا من هؤلاء لم ير سارة عن قرب ، أو لم يرها على الإطلاق . وثمة من أطلقوا أوصافا مغايرة قبيحة وخاصة من النساء ، فأشعن ولو بدافع الغيرة، أن أنفها أفطس ، وأنها عوراء ردّاً على من قالوا أنها حوراء، هذا عدا عن كونها كافرة وزنديقة .

أمّا عن العلاقة فحدث ولا حرج ، فلم تمر سوى بضعة أيّام حتى عمّت الإشاعات البلدة من أطراف القدس إلى أبعد نقطة مسكونة ، حتى أنها وصلت إلى جامعة القدس وبعض أحياء أبوديس والعيزرية والعيسوية شمالا ، وصورباهر والعبيدية والتعامرة جنوبا ! وقد ساعدت وسائل الإتصال الإجتماعية على الشبكة العنكبوتية بنقلها بسرعة فائقة لتعم العالم، عبر تغريدات غامضة في البداية على تويتر وبوستات على الفيس بوك وغيرهما لأسماء رمزية ، بدأت تتحدث عن : ملحد فلسطيني يقع في حب كافرة يهودية ! مثقف فلسطيني يغرم بفتاة اسرائيلية تصغره بعقود! اسرائيلية تأسر قلب مفكر وأديب فلسطيني عجوز ! وراحت التعليقات تتكهن بمن يكون الشخص المذكور ، ومن أي بلد في فلسطين ، ولم يحسم الأمر سوى الشائعات التي كانت تدور في السواحرة ، وتسربت إلى خارج حدود أراضيهم ، مؤكدة أن الشخص المذكور ليس إلا عارف نذير الحق . حينئذ راح بعض المثقفين يدافعون عن عارف مشيرين إلى أنه ليس من حق أحد التدخل في حياته الشخصية . غير أن الشائعات لم تأبه للأمر ولم تتوقف ، فمنها ما أكد على أن عارف تزوج من الفتاة سراًعلى سنة الله ورسوله، ومنها ما قال أنه زواج مدني دون شهود ، ومنها ما قال أنها علاقة غرامية دون قيود ، ومنها ما قال أنها زنى على رؤوس الأشهاد بين ملحد وملحدة ! ولم يقل أحد على الإطلاق إنها مجرد صداقة لا غير، لفتاة لا يعرف أحد كيف تعرف عارف إليها ، وإن تطرقت بعض الشائعات إلى زيارات سرية يقوم بها عارف إلى مثقفين يهود أصدقاء له يقيمون في مستوطنتي كيدار ومعاليه أدوميم ! ولا شك أنه تعرف على الفتاة هناك ! وشائعات أخرى تحدثت عن تعرّفه إلى الفتاة عبر لقاءاته مع أصدقاء له في القدس الغربية يزورهم بين فترة وأخرى، خاصة وأن الفتاة كما يقال مثقفة وتحمل شهادة الماجستير في علم الإجتماع والدكتوراة في الفلسفة !

عارف سمع بالشائعات بل ورأى بعضها على الفيس وتويتر . تجاهل الأمر ولم يعطه أية أهمية . وحين اتصل به صحفي مستفسرا عن الأمر أجاب بأنها صديقه واكتفى بذلك .

*******

ادلهمت السماء فوق جبال القدس ورام الله والرملة ونابلس وبيت لحم والخليل وصفد وحيفا والناصرة وعكا وطبريا وتل أبيب ويافا وبئرسبع وغزة بغيوم داكنة مظلمة، غطت السماء الغربية من أقصاها إلى أقصاها. وتاق ماء للإنعتاق من أسرالغيوم فاضطرب في غيهب الظلمات السماوية، واصطدمت شحنات سلبية بأُخَرٍ موجبات ، فالتمعت بروق شقت أعنان الفضاء ، ودوت رعود ارتجت لها جدران البيوت ، منذرة بهول القادم من آيات !

وهو يرقب السماء الغربية من أمام بيته على مقربة من قهوة حجازي توقع عارف نذيرالحق هطول أمطار غزيرة وهبوب عواصف ينتج عنها سيول وفيضانات .. كثيرا ما شاهد في طفولته مجرى وادي أبو هندي وهو يتحول إلى نهر يفيض على جانبي المجرى في الأيام العاصفة .. ارتدى من الملابس ما يقيه الأمطار الغزيرة ونزل إلى الوادي ليتمتع برؤية مجراه وقد تحوّل إلى نهر ..

في المنطقة الواقعة بين مستوطنتي كيدار ومعاليه أدوميم في الوادي، كان قرابة مائة طفل من المستوطنتين يقومون برحلة في الطبيعة برفقة معلمة من معلماتهم، ويبحثون في مجرى الوادي عن حجارة ملساء صقلتها المياه على مر السنين وأحالت بعضها إلى أشكال فنيّة جميلة ..

يفصل وادي أبو هندي بين أراضي الديسة والسواحرة ، فجنوبه للسواحرة وشماله للديسة ، مع بعض التجاوزات في هذه القسمة للديسة، تجعلهم يمتلكون أرضا جنوبه .. وكثيرا ما شهد هذا الوادي مشاجرات على الأرض بين الطرفين في أوائل القرن العشرين ، خاضها المئات من أبناء البلدتين ، ونظمت في ذلك قصائد شعبية من قبل شعراء في البلدتين ، إلى أن انتهت بأكبرالمشاجرات على منطقة تدعى الزرّاعة، حيث تم تقاسم أرضها .

يبلغ مجرى الوادي قرابة ثلاثة أمتارعرضا أو أكثر قليلا في معظم المناطق ، وقرابة مترين عمقا في معظم الأماكن . ويبلغ فضاء الودي بين سلسلتين من الهضاب، قرابة ألف وخمسمائة متر في معظم الأماكن، وإن كانت تنفرج أكثر أوتضيق في أماكن أخرى. ويمتد لمساحة تزيد على خمسة عشر كيلو مترا ، يلتقي بعدها مع وادي الدكاكين شرقا لينتهيا إلى واد أكبر يصب مجراه في البحر الميت ..

تنحدر إلى الوادي من الهضاب سفوح وأودية كثيرة على الجانبين، تبدأ من العيزرية وأبوديس والسواحرة الشرقية وتمتد على طول الوادي..

خاطب عارف المعلمة محذرا وهو يسيرعلى الطريق المحاذي للمجرى، طالبا إليها أن تخرج الأطفال من مجرى الوادي ، فالغيوم المزدحمة في الغرب والبروق والرعود تشير إلى أن أمطارا غزيرة تهطل هناك ، وقد تحدث عنها سيول عارمة تتدفق عبرالأودية ، قد تدهم الأطفال فجأة ، لا يعرف ماذا ينتج عنها . لم تأبه المعلمة لكلام عارف ، غير مصدّقة لما يقوله .. وفي تلك اللحظة تلقى عارف مكالمة من سارة :

- حبيبي أين أنت ؟

- أنا في وادي أبو هندي، أنتظر العواصف والسيول . ليتك معي لتري سيل وادي أبو هندي حين يتدفق في العواصف المطريّة .

- أنا في كلية هداسا لعمل يتعلق بالتدريس. انتبه لنفسك حبيبي ..

- هناك أطفال في رحلة يبحثون عن الحجارة والحصى في مجرى الوادي وأتخوف عليهم من أن يدهمهم السيل، أنذرت مرافقتهم لكنها لم تأبه لكلامي..

- هذه الحمقاء . ألح عليها حبيبي. أرى من النافذة المطر يهطل بغزارة لم أشهدها من قبل. ربما سيبلغكم بعد قليل . ابتعد عن مجرى الوادي حبيبي.

- لا تخافي علي حبيبتي . كل خوفي على الأطفال . أرى الغيوم فوق أبوديس والسواحرة .

- الهطول يزداد حبيبي ، وكأن أنهارا تنصبّ من السماء . ابتعد عن مجرى الوادي.

- أسمع الآن صوت خرير مياه قويأً قادما عبر منعطفات الوادي . سأحاول اخراج الأطفال من المجرى. إلى اللقاء حبيبتي .

قفز عارف إلى المجرى وراح يصرخ بالأطفال والمعلمة بالعبرية طالبا إليهم الخروج منه ، فيما صوت سارة يتردد عبر هاتفه الذي ظل مفتوحاً بعد أن وضعه في جيبه . خرج بعض الأطفال بينما لم يأبه آخرون ، بل وراحوا ينتظرون قدوم السيل بفرح إذا كان ثمة سيل سيأتي كما يزعم هذا العربي. ولم تمر سوى لحظات حين أقبل السيل مندفعا . كانت مقدمته تقارب نصف عمق المجرى.. غير انها كانت تزداد باستمرار .. راح بعض الأطفال يتقافزون إلى خارج المجرى. نجح بعضهم، غيرأن بعضهم لم يتمكنوا لأن الجدران كانت قرابة ضعف قاماتهم ، شرع عارف في حمل كل من تطاله يداه من الأطفال وإلقائه خارج المجرى .. دهم السيل كل من في المجرى بارتفاع أعلى من بعض قاماتهم ، وقع بعض الأطفال ليجرفهم الماء المتدفق .. راح عارف يلقي بنفسه على أقرب الأطفال إليه ويلقي به خارجا، وتمكنت المعلمة من إنقاذ بعض الأطفال أيضا ، قبل أن تنقذ نفسها بمساعدة عارف، حين وجدت أنه لن يكون بمقدورها أن تفعل أكثر مما فعلت، ولم يبق أمامها إلا أن تنقذ نفسها. تشبثت بحافة جدارالمجرى دون أن تتمكن من الصعود ،فسارع عارف إلى رفعها ودفعها إلى خارج المجرى وتابع إنقاذ الأطفال ..

أقبل السيل عارما متلاطما مندفعا هادرا محملا بجذوع أشجار وأغصان ونفايات ومواش وقد فاض على جانبي المجرى في بعض الأماكن ليغطي الطرق والأراضي على الجانبين، فيما كانت السماء تهطل مدرارا ، والأبراق تتوالى والرعود تقصف مجلجلة ، والعواصف تهب مزمجرة . راح الأطفال يتخبطون في السيل والتيّار يتقاذفهم في لجّة الماء .. صرخ عارف مستنجدا بإلهه !! " كن معي يا إلهي " وهو يندفع بقوة لينتزع طفلين معاً من التيار ويلقيهما خارج المجرى ، فيما صراخ المعلمة والأطفال خارج المجرى يعلو ليختلط بإيقاع المطر والعواصف وهزيم الرعود ، ليبدو النهار وكأن يوم القيامة قد انبثق فيه .. شعرعارف بقوّة خارقة تنبعث في جسده بحيث أصبح في مقدوره أن يجاري السيل المتدفق ، وحتى أن يسبقه ، اندفع خلف مجموعة من الأطفال والطفلات يتقاذفهم السيل، وألقى بنفسه بينهم وهو يصرخ بهم اصعدوا على ظهري ، وتشبثوا برجليْ ، واندفع في الماء ليأخذ طفلين بيديه ، فأنقذ بذلك خمسة أطفال، كان اثنان قد تشبثا برجليه وأخر صعد على ظهره وتمدد عليه متشبثا بكتفيه. تابع عارف اندفاعه في الماء كدلفين ، إلى أن أنقذ جميع الأطفال ما عدا طفلة قذفها السيل في لجته لتبتعد . صمم عارف على اللحاق بها .. أدركها في أول السيل ، حملها بيديه وضمها إلى حضنه، وانطلق بها بضع خطوات على الأرض أمام السيل ، إلى أن عثر على مكان منخفض صعد منه إلى اليابسة ، وهو يتمنى في نفسه أن لا تكون الطفلة قد فارقت الحياة . مدد الطفلة على الأرض وراح ينفخ نفسا من فمه إلى فمها .. نفخ بضع أنفاس ، لتبدأ الحياة تدب في جسد الطفلة .

أخذ عارف نفسا عميقا ثم انحنى على الأرض يقبلها ، وما لبث أن شخص إلى السماء وراح يهتف من أعماق جوانحه " شكرا يا إلهي ،شكرا يا الهي " وعيناه تغرورقان بالدموع، دون أن يتنبه إلى جراح كثيرة كانت تنزف دما، قد أصيب بها دون أن يشعر، فيما ظهرت ثلاث طائرات هيلوكبتر محلقة في الجو، قادمة نحو المنطقة ..

كانت سارة قد أدركت حين لم يعد عارف يرد على الهاتف . بل وحين لم يعد الهاتف يرن، أن أمرا فظيعا قد حدث . فسارعت إلى الإتصال بالإسعاف لتخبرعما يكون قد حدث. كما تلقى الإسعاف مكالمات من بعض أهالي الأطفال ، الذين شاهدوا فيضان الوادي من أعالي السفوح .

حطت الطائرات على الأرض وشرع المسعفون في انقاذ من يحتاج إلى انقاذ من بين الأطفال الذين أصيبوا بجراح من جراء ارتطامهم بالصخور أو بجذوع الأشجارأو بالنفايات والسلع المختلفة التي كان السيل يتقاذفها .. وكان من بين الذين أنقذوا عارف والطفلة التي كان يضمها إلى حضنه، حيث أقلتهما طائرة مع بعض الأطفال إلى مستشفى هداسا .

****

(26)

*عارف نذيرالحق يرفض استقبال ممثلي السلطة الإسرائلية .

استنفر الأطباء والممرضون والممرضات لإجراء اسعافات عاجلة للأطفال ، فبعضهم كان قد ابتلع ماء اختلط بالتراب والنفايات ولابد من اجراء غسيل معدة لهم .عدا أن معظمهم قد أصيبوا برضوض وكدمات وجروح وصدمات، من جراء ارتطام أجسادهم بصخور وجذوع أشجاروصفائح مختلفة وعلب مواد غذائية فارغة وأخشاب، كان السيل يجرفها معه . عدا أن معظمهم كانوا يعانون من اضطرابات نفسية .

كان عارف نذيرالحق من أكثر المصابين بالجروح والرضوض والصدمات والكدمات في رأسه ومعظم أنحاء جسده . ولم يعرف أحد إلا الخالق نفسه كيف احتمل الألم إلى أن أنقذ جميع الأطفال دون أن يغمى عليه . ولاحظ الأطباء أنه يغيب عن الوعي للحظات وتهرب منه الكلمات، ولا يستطيع الإجابة عن بعض أسئلة الطبيب المشرف على علاجه، مما قد يشير إلى أنّه تلقى صدمة شديدة في رأسه. نُزعت ملابسه ونظّف جسده بمواد مطهرة. وشرع أطباء وممرضات بتضميد الجراح التي في رأسه ووجهه ويديه وصدره وظهره ورجليه .

هرعت سارة إلى المستشفى . لم يسمح لها بالدخول إلى غرفة عارف في البداية ، لكن حين عرف الطبيب المشرف على العلاج ، أنها صديقة عارف سمح لها بالدخول ليرى إلى أي حد يمكن لعارف أن يتعرف إليها ..اندفعت إلى السرير . كان عارف يتنفس ببطء وكان خدّه الأيسر ورأسه مضمدين.

انحنت عليه وملست بيدها على خده الأيمن وهي تردد "عارف حبيبي ..عارف حبيبي " لم يبد على عارف ما يشير إلى أنه سمع من يخاطبه. كبحت سارة صرخة هائلة في دخيلتها وتابعت ترديد كلماتها "عارف حبيبي أنا سارة . عارف حبيبي أنا سارة" انتظرت قليلا.. بدأ عارف يرفع جفنيه ويغمضهما ببطء شديد ، وما لبث أن رفعهما ولم يغلقهما، وهو يرنو إلى وجه سارة على مقربة من وجهه . ارتسم على شفتيه طيف ابتسامة . انفرجت شفتاه وهو يهتف بصوت منخفض متقطّع " س.ار.ة. " ولم يقل غيرذلك . أطبق شفتيه وأغلق عينيه .

ألقت سارة رأسها على طرف السرير وشرعت في البكاء .. وضعت ممرضة يديها على كتفيها وأنهضتها بلطف ، فيما الطبيب يحاول طمأنتها بأن حالة عارف ليست خطيرة طالما تعرف إليها .. ربما صدمة أثرت قليلا على الدماغ . اطمئني .

*****

انتشرت الأخبارعبر الإذاعات وقنوات التلفزة لتعم العالم، وتتصدر عناوين الصحافة في اليوم التالي. الإعلام الإسرائلي وحسب ما ادعى أنه نقلا عن مواطنين من مستوطنة كيدار ومعاليه أدوميم، وعن بعض الأطفال والمعلمة الذين تم التحدث إليهم في المستشفى ، تصدرته عناوين مثل : عربي يشارك في انقاذ عشرات الأطفال الإسرائيليين من فيضان سيل وادي كيدار ! وهكذا أصبح عارف نذير الحق مشاركا وليس منقذا رئيسا إن لم يكن المنقذ الوحيد ، فالمعلمة لم تنقذ إلا بعض الأطفال قبل أن يتكاثر ماء السيل ، ولم تستطع انقاذ نفسها إلا بمساعدة عارف . وأصبح وادي أبو هندي يحمل اسم وادي كيدار، نسبة إلى الإسم الذي أطلق على المستوطنة التي أقيمت على أراضي السواحرة . وتحدثت بعض الصحف عن شجاعة المعلمة التي لم تخرج من السيل الهادرإلا بعد أن تم انقاذ جميع الأطفال.

الإعلام الفلسطيني تصدرته عناوين متشابهة تقول: المفكر والأديب الفلسطيني عارف نذيرالحق ينقذ عشرات الأطفال الإسرائيليين من فيضان سيل وادي أبو هندي ! وتطرقت بعض وسائل الإعلام المختلفة إلى التعريف بعارف نذيرالحق وعمق فكره الفلسفي الإنساني، الذي يجتهد في تقديم فهم منطقي وعلماني للخالق والخلق والغاية من الوجود، بعيدا عن التعصب لفكرالأديان وأساطيرها. وأنه ينظر إلى جميع الأديان والمعتقدات بمنظور واحد، وأنه لا يميز بين معتقد ومعتقد إلى بمدى عمق الفكرالإنساني فيه . وتطرقت بعض الصحف إلى ما أدلى به أحد المسعفين قائلا إنّ سيدة اسرائيلية تدعى سارة سليمان هي من قامت بإبلاغ الإسعاف والجهات المعنية بما يحدث، لأنها كانت على اتصال مع عارف خلال العواصف لتطمئن عليه. والمؤسف أن سرعة السيل كانت أقوى من سرعة الإسعاف الذي لم يصل إلا بعد أن تم انقاذ جميع الأطفال من مجرى السيل. وتحدثت الصحف عن الحال الصحية السيئة لعارف وغيابه عن الوعي، وعدم تمكن الصحفيين من التحدث إليه . وأشارت الصحف إلى ثناء الرئيس محمود عباس على العمل الإنساني العظيم الذي قام به عارف ، وأصدر قرارا بأن يتكفل مكتب الرئيس بكل نفقات علاج عارف وفترة نقاهته بعد الشفاء.

في اليوم الثالث فضحت المعلمة التي كانت تعاني من صدمة نفسية خلال اليومين السابقين ، لم تتح لها التحدث إلى أحد، وسائل الإعلام الإسرائيلية التي شوهت الحقيقة، مؤكدة في حوارعلى قناة تلفزيونية خاصة أنها لم تجر مقابلات مع أحد ، وأن الفضل يعود للرجل الفلسطيني الذي قام بإنقاذ جميع الأطفال وإنقاذها هي أيضا ، وأن الرجل رغم كبر سنّه كان يتمتع بقوّة خارقة غيرآبه بكل ما يتقاذفه السيل الجارف من مواد مختلفة ، رغم أنها كانت تصطدم به أو تعيق عملية الإنقاذ التي يقوم بها، ووصفت كيف انقض على طفلين كان السيل يتقاذفهما معا لينقذهما، تاركا خلفه طفل أكبر كان يتشبث بجذع شجرة، تاركا إياه إلى ما بعد انقاذ مجموعة من الأطفال ، لأنه كان مطمئنا عليه لتشبثه بجذع الشجرة . وقالت إنها تألمت حين شاهدت صفيحة وهي تصطدم بجسد الرجل بقوة من الخلف وهو يسعف طفلا ، ويندفع في الماء كحوت ليسابق التيار المتدفق بقوة ليسبقه، وليلحق بجميع الأطفال وينقذهم جميعا، واحدا واحدا أو اثنين اثنين أو ثلاثة وأكثر ! وقالت إن ما كانت تراه هو معجزة بكل معنى الكلمة. وحين سئلت عن سرالقوة والشجاعة اللتين رأتهما في الرجل ، قالت إنها هبة من الله للرجل ، وأنه لولاها لما تم إنقاذ قرابة سبعين طفلا ، بل مائة لأن بعض الأطفال الذين أنقذوا في البداية أنقذوا أنفسهم بفعل تحذير الرجل . وأخيرا أبدت المعلمه ندمها وأسفها واعتذارها لأنها لم تمتثل لإنذار عارف لها بإخراج الأطفال من مجرى الوادي لأن سيلا سيأتي.

معظم الأطفال كانوا مصابين باضطرابات نفسية ، أشفي معظمهم منها ، وما زال آخرون يعانون لهول ما شاهدوه .. أحدهم كان يصرخ بشكل فظيع كلما تذكر الفيضان . وآخر كان ما يزال يستنجد بأمه بين فترة وأخرى . وحالات أخرى راوحت بين الرجفة والذهول والصمت والسرحان والرعب والهلع والدهشة .

مقالات أخرى في صحف فلسطينية في الايام اللاحقة حملت أراء مختلفة في الأمر، منها ما جاء تحت عنوان : ننقذ أطفالهم بينما هم يقتلون أطفالنا ! وآخر حمل عنوان : لماذا لم يقف عارف متفرّجا ، تمنى كاتبه لو أن عارف بقي متفرجا، ولم تدفعه إنسانيته لإنقاذ الأطفال! مقالات أخرى تحدثت عن إنسانية عارف وتفانيه في انقاذ الأطفال حتى لو كلفه ذلك حياته ، وأخرى ضربت به مثلا للفسطيني الإنسان الذي يعبر عن إنسانية الفلسطيني بشكل عام . مقالات أخرى وضعت عارف في مكانة سامية لا يرقى إليها إلا العظماء .

******

سارة سليمان أخذت إجازة بدون راتب من الكلية، وأقٌنعت إدارة المستشفى بأن تبقى إلى جانب سريرعارف ليلا نهارا، إلى أن يشفى تماما. كانت تمضي وقتها جالسة على كرسي وتقرأ في أحد كتب عارف التي أهداها إليها، أوالتي ابتاعتها من مكتبة في القدس. وحين كانت تتعب من الجلوس كانت تتمدد على السجاد إلى جانب السرير وتغفو لبعض الوقت ثم تستيقظ . في اليوم الثالث لعلاجه في المستشفى ، فتح عارف عينيه وتلفظ باسمها وكأنه يبحث عنها، هبّت عن المقعد وهي تهتف " حبيبي" اتكأت على حافة السرير وهي تردد " أنا معك حبيبي" مد عارف يده ببطء وملس على خدها، فشرعت هي في تقبيل أصابع يده ودمعتان تنزلقان على وجنتيها . وما لبثت أن أعادت يده إلى وضعها إلى جانبه حين رأته يغمض جفنيه ، وملامح ابتسامة بالكاد ترتسم على شفتيه وكأنه يعبرعن اطمئنانه على وجودها إلى جانبه أو وجوده إلى جانبها أو وجودهما معا .

شائعات كثيرة انتشرت في المستشفى عن علاقة الحب التي تربط سارة بعارف ، ومدى عمقها ، ومدى إخلاص سارة لحب هذا الكهل الذي يكبرها بثلاثة عقود على الأقل، وقد شبه بعضهم هذا الحب بحب روميو وجولييت وآخرون اعتبروه حبأ أفلاطونيا . وقد انتشرت قصة الحب في كافة أنحاء اسرائيل بالقدر نفسه الذي انتشرت فيه قصة انقاذ الأطفال، حتى أنها بلغت أسماع العاملين في الشاباك والموساد وآمان و مختلف قطاعات الجيش .. وكتب بعض الكتاب والمثقفين الإسرائيليين مقالات تمجّد بطولة عارف وتشيد بثقافته الإنسانية الرفيعة ، وتمنت على كل فرد من الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني أن يرتقي ولو إلى الحد الأدنى من المحبة التي يحملها كل من عارف وسارة للآخر، ليودع الشعبان التعصب إلى الأبد ، ويعيشا بمحبة ووئام وبحقوق مواطنة كاملة لكل منهما .

صورالأشعة التي أخذت لجمجمة عارف أظهرت وجود نقطة دم على جزء صغير في مؤخرة دماغه ، وأنه في حاجة إلى عملية في الدماغ لإزالتها. غير أن سارة أصرت على عدم القيام بالعملية إلا بموافقة شخصية من عارف وهو بكامل وعيه في حالة يقظة تامّة. أذعنت إدارة المستشفى للأمر ووافقت على طلبها.

وحين بدا عارف بكامل وعيه في اليوم الخامس ، وأخبرته سارة بالأمر، قال بثقة مطلقة أنه ليس في حاجة إلى عملية وأن الله سيشفيه ! ما جعل الطبيب الجرّاح المختص بجراحة الدماغ يستدعي سارة، ليسألها كطبيب علماني، أقرب إلى الإلحاد منه إلى الإعتقاد بوجود خالق، لم يتوصل العلم بالمطلق إلى معرفة ماهيته: عن ماهية هذا الإله الذي قصده عارف بثقة، بقوله إن الله سيشفيه ! فهل هو يهوة أم الله أم يسوع المسيح ؟ وهو يدرك أن عارف فيلسوف علماني قد لا يختلف عنه في شيئ! فوجئ الطبيب بما قالته ساره " إنه ليس أي واحد من هؤلاء، إنه الخالق العظيم القائم بالخلق كما يتصوّره عارف" ولم يكن هناك قوة في الأرض قادرة على أن تقنع الطبيب بذلك ، حتى حين أعلن عارف في اليوم السابع، أنه شفي تماما من كل ما أصابه من جروح وصدمات، وأنه لم يعد هناك نقطة دم على دماغه ، لكن، وحين تم إعادة تصوير الدماغ وتبين ان نقطة الدم قد اختفت فعلا ، صمم الطبيب على الإيمان بهذا الخالق وقراءة كتب عارف عنه . فأمضى ليلته في قراءة كتاب يحمل عنوان " الخالق . الخلق . الغاية ." أعارته له سارة . ولم يكن هناك من هو قادرعلى تصور دهشته ، حين وجد أن هذا الخالق موجود فيه ، وأن وجوده غير منفصل عن الوجود الكلي الكوني لهذا الخالق ، آمن إيماناً مطلقا به ، وأعلن ذلك على الملأ ، وتحدث عنه في مؤتمر صحفي ، وعن قصة شفاء عارف التي كانت حافزه لهذا الإيمان المختلف، لتنتشر بذلك قصة الشفاء كمعجزة إلهية تنسب إلى خالق مختلف عن الآلهة جميعا .

****

بإيعاز من رئاسة مكتب رئيس السلطة الفلسطينية، أفرد جناح خاص لعارف لاستقبال المهنئين بشفائه ، وما أن أعلنت إدارة المستشفى في اليوم التاسع أن عارف قد أصبح في حال جيده تتيح له استقبال المهنئين بشفائه، حتى غصت غرفته والجناح وردهات المستشفى وقاعة الإستقبال بمئات باقات الورد. أحضرت سارة إلى عارف ملابس جديدة وأشرفت بمساعدة ممرضتين على تنظيم دخول المهنئين. فكان أول من أدخلتهم عشرة أطفال من الذكور والإناث يمثلون جميع الأطفال الذين أنقذهم عارف ، كانوا بمرافقة امهاتهم وآبائهم إضافة إلى المعلمة، و كانت آخر طفلة أنقذها عارف من بينهم .. تبادل عارف مع الأطفال القبل وحمل الطفلة وسألها عن اسمها ، فقالت " رفقة " فقال عارف " أحلى أمورة ورفيقة " وضمها إلى حضنه وقبلها . ثم تقبّل تهاني المعلمة وشكرها وامتنانها وعذرها بعدم الإمتثال إليه من البداية ، ثم تهاني وشكر أهالي الأطفال .. وكانت الدفعة الثانية من المهنئين بعض ذوي عارف من اخوته وأخواته وبعض ابنائهم وبناتهم بينهم الراعي علي.. أمّا الدفعة الثالثة فكانت من رجل وسيدة وشابة ، هم يعقوب سليمان وزوجته راحيل ويوئيلا خطيبة شمعون . ولأول مرة لم يتردد عارف في مخاطبة يعقوب كصديق وليس كعديق ، حين فتح يديه على وسعهما قائلا " أهلا يا صديقي " ليلقي يعقوب نفسه عليه ليتحاضنا ويتعانقا بحرارة ..

الدفعة الرابعة من المهنئين كانت من ممثل رئيس السلطة الفلسطينية وممثل عن رئيس الوزراء وبعض القياديين الفلسطينيين .

الدفعة الخامسة رفض عارف نذير الحق استقبالها ، وكانت من ممثلين عن رئيس الوزراء ورئيس الدولة ، وقال لسارة أن تخبر هذين الممثلين أن تهنئته من قبل السلطة الإسرائيلية ليست أقل من التوقف عن قتل الأطفال وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين ، والتوقف عن إقامة المستوطنات ، والشروع في مفاوضات سلام حقيقية . أما عن الشعب الإسرائلي فقد تلقى التهنئة بباقات الورود وقبل الأطفال .

الدفعة السادسة كانت من بعض السفراء العرب والأجانب لدى السلطة الفلسطينية من بينهم سفراء الأردن والنرويج والسويد واليابان .

الدفعة السابعة كانت من الكتاب والصحفيين والمفكرين الفلسطينيين بينهم رئيس اتحاد الكتاب ورئيس اتحاد الصحفيين .

الدفعة الثامنة كانت من الفنانين الفلسطينيين بكافة فئاتهم .

الدفعة التاسعة كانت من اتحاد المرأة الفلسطينية ممثلة برئيسة الإتحاد وبعض النساء.

الدفعة العاشرة كانت من بعض الكتاب والمثقفين الإسرائيليين .

وانتهى بذلك استقبال المهنئين وخرج عارف من المستشفى برفقة سارة .

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى