عفيف شليوط - مستقبل الثقافة..

عندما قرأت كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لعميد الأدب العربي د. طه حسين، تبين لي أني أكتشف هذا الكاتب والمفكر العربي من جديد، بعد أن تعرفت عليه من خلال ابداعاته الأدبية وخاصة كتابه "الأيام"، الذي طالما ترك أثرًا في نفسي، وجعلني أعود إليه بين الفينة والأخرى. كيف لا، وهذا الكتاب يستعرض سيرة شخصية استثنائية، قاهر الظلام الذي حقق ما عجز عنه المبصرون، الكتاب الذي يعكس أوضاع المجتمع المصري في القرن العشرين.
لكنه هنا، في هذا الكتاب، يكشف لنا جوانب لم نلتفت إليها من قبل، حيث يطرح قضية ثقافية فكرية بامتياز، يكتب عن مصر بعد الاستقلال، محذرًا الشعب المصري من سكرة النصر. يبحث عن جذور الثقافة المصرية، وعلاقتها بثقافات الشعوب الأخرى، ويحاول أن يضع التصور كيف يجب أن تكون تلك الثقافة.
طه حسين في كتابه هذا يُكثر من طرح الأسئلة، التي تجعلنا نعيد التفكير في الكثير من القضايا التي كنا نعتقد أنها من البديهيات. ينتقد أساليب التعليم في مصر والمنهاج الدراسي في مدارسها ومعاهدها، ويتحدث عن الصلة القوية بين الثقافتين المصرية واليونانية.
أما أكثر ما فاجأني بل صعقني عندما قرأت الفقرة التالية من الكتاب " من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للوحدة السياسية ولا قواما لتكوين الدول". فهنا يتحدث عن الدولة، وهو ينفي الجانب الديني أو القومي في بلورة الوحدة لشعب معيّن ، أو كيان سياسي مُعيّن. عمليًا هو يرفض فكرة وحدة الشعب العربي، لأنه لا يجد في عامل اللغة أساسًا للوحدة، فما الذي يجمع إذًا بين السوري والمصري والسعودي والفلسطيني سوى اللغة والدين؟ إذًا هو يبحث عن الدولة العلمانية، التي تجمع في طياتها قوميات وأديان مختلفة، فالدولة بالنسبة لطه حسين تقوم على المصالح والوحدة الجغرافية. ومن الواضح أن طه حسين ينشد فصل الدين عن الدولة عندما يكتب "أنّ السياسة شيء والدين شيء آخر".
كما أدهشني استماتة د. طه حسين محاولاته ليثبت لنا أن ثقافة مصر هي ثقافة أوروبية تارة، وتارة أخرى يعود الى جذوره الفرعونية. حاول أن يصور مصر وكأنها جغرافيًا في الشرق، لكن فكرها وثقافتها من الغرب.
لكن لم الدهشة، ألم يبحث الفلسطينيون عن أصولهم الكنعانية، واللبنانيون عن جذورهم الفينيقية. والثقافة الآشورية السريانية الكلدانية ألم تكن جزءًا من الثقافة العراقية؟ إذًا لما الدهشة عندما نقرأ ما كتبه عميد الأدب العربي، والذي تعرض لهجوم لم يخلو من الإتهامات لهذا المفكر العربي.
أروع ما ورد في هذا الكتاب أن "الثقافة والعلم أساس الحضارة والاستقلال"، فالاستقلال بدون استقلال اقتصادي وفكري وثقافي هو استقلال منقوص، فعندما لا يشعر الانسان بالانتماء لبلده ويولي بالولاء للسلطة نتيجة خوف أو عدم وعي، مع سقوط هذه السلطة يكون هذا المواطن أول المنتقمين من هذه السلطة التي قمعته وسلبته حريته وكرامته. لاحظنا كيف أفراد من الشعب العراقي بعد سقوط سلطة صدام في العراق، كيف دخلوا الى أهم متحف تاريخي في العراق وحطموا محتوياته. لو كان هؤلاء يتمتعون بثقافة لأدركوا أهمية هذه الكنوز، ولو كانت السلطة تعمل على نشر وعي الانتماء للوطن، ومارست هي نفسها هذا الانتماء من خلال احترام شعبها، لما حصل ما حصل. ذات الأمر حصل في ليبيا عندما انهار نظام القذافي، ولكن لم يحصل الأمر ذاته في سوريا، فالشعب السوري أو للدقة غالبيته كان يشعر بالانتماء لسوريا، والدفاع كان ولا زال عن سوريا الحضارة والثقافة وليس النظام.
هذه الطروحات السريعة تدعونا لطرح الأسئلة، وطرح الأسئلة يثير قضايا تدعونا لإعادة التفكير. وإعادة التفكير تجعلنا نعيد حساباتنا، نعيد تقييم الأمور، وليس بالضرورة الوصول لنتائج، فالاجتهاد يخلق جوًا ثقافيًا حضاريًا. عندما نستمع لبعضنا البعض، وعندما نستبدل ثقافة الأحذية والعنف وإلغاء كل من يفكر بشكل مغاير بثقافة الحوار، نرتقي بثقافتنا وننمي الانتماء لبلدنا.
الشخص المقموع لا يمكن أن يشعر بالانتماء، بل يتحول الى ناقم ينتظر الفرصة للانتقام. والشخص المهمش يهمش في ثقافته من يحاول تهميشه، وبالتالي يلغي كل منا الآخر، فنتحول الى فئات ومجموعات متصارعة لا يجمع بينها شيء.
أحيانًا أقرأ في صحافتنا ووسائل إعلامنا بعد التصريحات التي تفخر بانجازاتها، ونحن ندرك في داخلنا أن هذه اللاثقافة أصبحت تتغلغل في داخلنا، وتعشش في ذاكرتنا، رغم هشاشتها. صحافة غير مسؤولة، متهورة، ممكن أن تقود الى فتنة من أجل مصالح فئوية ضيقة، والناس يصفقون ويهللون، وهم لا يدركون أنهم يقودوننا نحو الهاوية.
فما هو مستقبل ثقافتنا، البلطجية أم العقلانية، المصالح الفئوية أم المصالح المشتركة لأبناء البلد الواحد، هذه مادة للتفكير، لعلنا نتعظ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى