د. عادل الأسطة - البيوت حين يموت سكانها

وأنا أتمشى، مساء الجمعة، توقفت أمام منزل قديم مهجور. إنه منزل المحامي لطفي الزعبي. في الفترة الماضية عرفت أن ورثة المحامي قرروا منح البيت إلى جامعة النجاح الوطنية ليكون جزءاً من التراث الوطني أو لشيء مشابه لهذا.
توقفت أمام البيت أتأمله. ربما يعود بناؤه إلى سبعين أو ثمانين عاماً. ربما أكثر بقليل.
البيت غير بعيد من البلدة القديمة في نابلس. إنه يبعد عنها بضع مئات من الأمتار أو أقل قليلاً. يقع غربها وبالقرب منه يقع مقهى الهموز أحد أشهر مقاهي نابلس منذ 50 ق 20.
تبدو حجارة البيت مائلة إلى الصفرة. الشبابيك على طراز مباني تلك الأيام. إنها مستطيلة وأشبه بالأبواب. كما لو أنها أبواب حقاً. للمنزل حديقة مزروعة بأشجار الليمون والبرتقال وله مدخل بدرج لا تزيد عدد درجاته على 5 درجات.
ماذا فعلت بك الأيام يا دار؟
كما لو أنني أقف على الأطلال. مثل شعراء العصر الجاهلي. لم أسخر من المنزل كما كان أبو نواس يسخر من الواقفين على الأطلال. لم أسخر من نفسي لأنني وقفت أتأمل المنزل وفي المقهى ليس ثمة خمر احتسيها فأتغزل فيها.
منزل المحامي مغلق، ويبدو أن الجامعة، منذ أهدي لها، لم تفعل فيه شيئاً. الدرجات التي تبدو غير منظفة أو مكنسة منذ أشهر تقول هذا. أوراق الأشجار المتساقطة والطين الذي يعلو الدرجات و..و..
كل شيء يذكر بأسطر محمود درويش: "فالبيوت تموت إذا غاب سكانها".
لم يطمع أصحاب المنزل ببيعه للمستثمرين، خلافاً لأصحاب أراض زراعية قريبة منه كانت تزود المدينة ببصلها الأخضر وفجلها وبقدونسها ونعنعها وجرجيرها وربما بسبانخها وملوخيتها. ما زالت بعض الأراضي تزرع وإنْ بيع القسم الأكبر منها وأقيمت عليه مبان أسعار الشقق فيها مرتفعة.
لم تغدُ نابلس مثل رام الله حتى اللحظة ولكن منزل المحامي يذكر بمنازل عديدة في رام الله عرضت للبيع وأقيمت على أنقاضها بنايات ضخمة وما زالت بيوت سكنية تنتظر مقاولين وأثرياء يشترونها بالملايين ليقيموا بناياتهم الجديدة وليزدادوا ثراء على ثراء.
كان المحامي لطفي الزعبي من أشهر محامي نابلس، وكنا نعرفه من خلال ملابسه الأنيقة وأناقة منزله لا تختلف عن أناقة بيته، وكنا نعرفه أكثر من خلال امتلاكه حافلتين (باصين) كانا ينقلان الركاب من نابلس إلى مخيم عسكر وبالعكس.
أنا شخصياً عرفته في مكتبه الذي زرته مراراً.
بين 1970 و1971 كنت في الإجازات الصيفية للمدارس أعمل (كونترول) وقد عملت على أحد (باصي) الزعبي، وكان علي كل مساء أن أذهب إلى المكتب.. أحاسب الموظف "أبو بهجت" الذي وثق المحامي به وثوقاً تاماً، وكان "أبو بهجت "شخصاً مرحاً وكان من مخيمنا.
متى بني المنزل؟ لا أعرف بالضبط وإن كنت أخمن أنه بني في 20 ق20. الحجارة تقول هذا. ولم تكن المباني في ذلك الوقت لتبتعد كثيراً عن البلدة القديمة. إنها كانت ملاصقة لها.
شرق المدينة كان هناك مبنيان أقيما زمن الانتداب البريطاني وزمن العثمانيين. العمارة والقشلة وقد هدما بالكامل بعد أن دكت الطائرات الحربية الإسرائيلية أحدهما في 2001 في انتفاضة الأقصى. والمبنيان في الذاكرة سجن وغرف تحقيق وضباط احتلال.
متى توفي المحامي؟ لا أذكر.
المنزل يقع مقابل مكتبة بلدية نابلس التي عرفت باسم المنشية، وغنى فيها عبد الوهاب وأم كلثوم في 40 ق20 أو قبل ذلك بقليل. ربما كان أهالي المنزل من رواد تلك الحفلات.
"البيوت تموت إذا غاب سكانها" والمنزل المهجور يبدو ميتاً على الرغم من أن الأشجار ما زالت واقفة ومونعة ومورقة، وهو ما زال أفضل حالاً من كثير من بيوت نابلس القديمة- أعني البلدة القديمة أحد أجمل المواقع في نابلس ولكن الناس يهجرونها بحثاً عن الجديد.
أحيانا نبدو مثل الشعراء القدامي. نقف على أطلال البيوت ونتأملها. هل نسخر من أنفسنا كما سخر أبو نواس من الواقفين على الأطلال أم أننا نسخر من أبي نواس الذي لم يمتلك وعياً بالتراث وآثر عليه الخمر والساقية والخبز لا اللبن الحليب.
رأى (يونج) أن الأعمال الأدبية إن هي إلا أساطير عريقة تتردد في حياة البشر.
من يدري! ربما كان وقوفي على أطلال المنزل وتأمله ضرباً من هذا، فما صلتي أنا بالبيت؟ هل يشفع لي أنني عملت يوماً ما (كونترولاً) على حافلة من حافلتي صاحب المنزل؟
المقهى هذا المساء بلا صوت أم كلثوم ولا أغنية.
هل أطلب من صاحب المقهى أن يسمعنا أغنية الأطلال؟
لا خل لتنكره ولا صديق. أنت في المقهى وحيد والآخرون يتحدثون ويلعبون النرد والورق وحين أذن المؤذن لصلاة المغرب ترك الذين يصلون الأشياء على حالها وقاموا يصلون في المقهى نفسه. لقد تحول لحظات إلى مسجد.

عادل الأسطة
2017-11-05

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى