إنها قرانا في ذاك الريف البعيد ذات ظهيرة مستحرة ، الشتاء يترك قبعته عند الباب ويرحل براس حليق عاري ، فيعتمرها الصيف فيبدو كجندي روسي ثمل هرب من الخدمة العسكرية ، يرسل الشتائم نحو القاطرات التي تنهب الطريق الحديدية يتبول علي رصيف حجري يشعر بحرقة بوله في رأسه ، الصيف في قرانا له طعم الزمهرير وحرقة المعدة ، و كأنما الهواء وضع في بطن فرن غاز كبير وضخ فوق رؤوسنا ، نتخفف نخلع صديرياتنا نشرب الكثير من الماء نمص الثلج ونحن نسير في طرقات رصفت بالرمضاء ، نغني للذين رحلوا تحت ضربات الفقر والعوز فأخذهم الشتات وفرقهم علي مدنه العرجاء الجائعة لأيدي عاملة ارخص سعرا ، العارية التي لا تستر أحدا مدن ثلج وملح ومسلات أسمنت تجعل الحنين يعوي في صدرك ، وتتمني حينها العودة لتغرق في بلاد الأنهار والونس والحكايات التي تنتهي بلاد لاتستحق أن تدير لها ظهرك ، الشمس رغم حرها نتحداها بالنظر في عينها مباشرة ، ممسكين بخيوطها المذهبة ناسجين منها ثيابا للعرائس الذين ينتظرننا في أحلامنا عندما نخلد للنوم ، نرش علي وجوههن المستديرة السمراء من حليب الغيم بخات تجعلهن ينتفضن كالملسوعات ، نجوب طرقات ترابية حفاة لاننتعل الا بؤسنا وشقاوة سنوات العمر الأولي ، نطرق الأبواب ونهرب ، يخرج الرجال رؤوسهم من فتحات الأبواب الضيقة فتخرج إليهم الطريق الخالية لسانها ، يشتمونا بألفاظ نحب أن نسمعها تخرج من السنة الكبار ، نختفي تحت ظل حائط طيني كحشرات البق التي لاتخرج الا لتلدغ كانوا يرسلوننا الي المدرسة لنتعلم في قري تجاور قريتنا نذهب إليها راجلين نقطع مسافة ميلين ويزيد ترافقنا الحرائق والخيبات وغدر النخب الذين أرسلناهم الي مبني البرلمان نوابا ليحكوا حكايات بؤسنا ، وصخب الإنتخابات القادمة ونصيبنا من ظلم الحسين ، ربما كانت هذه جملة أسباب جوهرية في تخلي بعضنا عن الذهاب الي المدرسة فصاروا مزارعين ولحامين وبقالين في احياء الخرطوم وباعة عطور وغاسلي صحون تحت أقبية فنادق بلاد الأضواء والحرية .