سميحة خريس - الكرسي..

هذا الملف يتناول موضوعا غريبا، لعله عدة مواضيع في آن واحد. ما الذي يقفز إلى الذهن عندما نقول كلمة الكرسي؟ لا أكتمكم أن روحا من الدعابة الجادة، والسخرية الهادفة كانت تدفعني لاقتراح ملف عن الكرسي في الملحق الثقافي، وانزاحت في مخيلتي أفكار كثيرة عن تلك القطعة الأساسية في الحياة، فكرا ومادة. اكتشفت مفارقة مضحكة؛ إن أول كرسي يجلس عليه المرء يحيل إلى الطفولة المبكرة عندما تتهيأ الامهات لتعليم أطفالهن السيطرة على الجسد والتخلص من مخلفاته، وهي مفارقة غريبة، ذلك أننا نتعود أن نجلس وفق تعليمات صارمة وتدريب مرير، ولكننا لا نلبث أن نشعر بأن هذا هو الأمر العادي والطبيعي، نتأقلم مع التعاليم، نجلس كما ينبغي، نستأنس، ونتدرب على استعمال مختلف الكراسي التي تمر في حياتنا القصيرة، قبل الانتقال إلى مهد الأرض.

وتتقاطع في مخيلتي الأفكار حول لعبة الكراسي مثلا، عندما يتدافع اللاعبون لاحتلال ما تبقى من الكراسي التي تقل تدريجيا كلما تقدمت مرحلة. إنها باختصار لعبة الفرص في الحياة، وبالطبع يملك الكرسي المعنى الكبير سياسيا واجتماعيا، كما أنه شديد الإغراء في الأدب، حيث يمكن ومن خلال تناوله أن تذهب إلى شتى المعاني والحيل، ويندر أن تجد كتابة أدبية وقد تحررت من ظلال الكراسي، فكلنا كتبنا عنه، حتى ولو صورناه مشهدا في المكان، وليس عبثا أن آية قرآنية حملت اسمه، ولا شك حفلت بالدلالة عليه. إنه كون من المشاعر والمعاني والأفكار والعلاقات، لا مجرد خشب اجتث من شجر. طالما أغرى المسرحيين ليدوروا حوله ويفتشوا عن أسراره. وبالطبع لم ينج منه الفن التشكيلي، الذي استعاده كما هو وقلبه كمادة أثيرة على الريشة، وتركه علامة فوق اللوحة قادرة على هز وجدان المشاهد وبعث مختلف الأفكار فيه.
إنه كرسي الاحلام للعاشقات اللواتي يحلمن بليلة الزفاف، وهو ذاته بوابة الموت لمن نالوا حكم الاعدام بالكرسي الكهربائي، وهو الوسيلة لتربية نشء على الانضباط في المدرسة، وهو حلم السياسيين الطامحين إلى المنصب الأكبر. إنه عالم متعدد الاتجاهات، واسع الاحالات، لهذا لم أجد من المناسب أن أرسم لكتاب الرأي الثقافي خطا محددا يسيرون عليه وهم يتناولون الكرسي معنى ودلالة. تركت لكل كاتب أن يطلق قلمه في كيان الكرسي ليكتب ما تبعثه الكلمة في خاطره، ولعلي حظيت بدراسات ونصوص حول الكرسي، لكني أعرف أن الملف سيكون بمثابة بوابة للقارئ كي يتذكر بنفسه تلك الكراسي التي جلس عليها، والتي حلم بها، والمعاني التي انطوت على علاقته كإنسان بهذا الجماد المالك روحه الخاصة. أردت أن أسبر مع القراء أذهان المثقفين حول ما يعنيه هذا الكرسي القابع في بيوتنا، المتحكم بإرادتنا، المالك ارادته والمتمتع بطبيعته، القادر على قولبتنا وتغيرنا، ومصادرتنا، الذي نحبه ونكرهه في آن، المريح، المتعب، الصياد والفخ!
* كاتبة أردنية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى