سميحة خريس - الكرسي

قبل سنوات كتبت قصة قصيرة بعنوان " الكرسي" أهديتها لفتى مبدع رشيق القلم، كان قد انتقل بإجراء رسمي من خانة المبدعين إلى خانة كبار الموظفين، وشغل منصباً إعلامياً بارزاً في دولة الامارات العربية المتحدة، وكنت أرقب مشفقةً تلك التغييرات التي تطرأ على الفتى الجميل، وتصادر شطحاته الجميلة، وتحليقه الواعد لصالح مهنة تقتضي الحزم والتحايل والواقعية المصمطة، شعرت أن ما يحدث له شيء خارجه تماماً، شيء يتعلق بالكرسي الذي يشغله.

كتبت القصة حينها عن كرسي له شخصيته المستقلة، لكنه لا يترك الجالس عليه في حاله، بل يصحبه معه في رحلة الدوران التي تبدو فارهة من الخارج، بينما تعبّر عن قلق ومخاوف وضياع للبوصلة، كما جعلت للكرسي (في القصة) أعيناً وأيدياً يرى فيها ويبطش.
بتُّ مقتنعة أن للكراسي أرواحاً تطغى على أرواح الجالسين عليها، أرواحاً قادرة على الإمساك بك في اختطاف يسبق حالة الجلوس، تحرك الجمع كما لو كانوا أطفالاً في لعبة الكراسي التي تصطف على صورة دائرية، ويكون عدد اللاعبين دائماً أكبر من عدد الكراسي، وما إن تدور رحى الموسيقى الصاخبة حتى يدور اللاعبون حول الكراسي بانتظار اللحظة الحاسمة، لحظة وقوف الموسيقى واندفاع كل منهم لإيجاد مقر لمؤخرته، بعضهم يحتال بدفع زملائه، أو بحجز أفضلية له وذلك بوضع يديه على ظهر الكرسي تحسباً للحظة الجلوس، وبالطبع هناك دوماً خاسرون يخرجون من اللعبة، وآخرون ينتظرون الخسارة التالية.. يقل عدد الكراسي بتقدم اللعبة وتزداد المنافسة. في حالة الأطفال إنهم يتعلمون أصول اللعبة ببراءة، لكنهم في كبرهم يمضون فيها محملين بثقل المنافسة ودوخة الدوران.
والكراسي حقاً مغوية، أو أنها رغم مصادرتها الجانب المضيء في النفس، فخاخ يصعب الخروج منها، بل هي ندّاهات تستدعي الناس إليها، إلا ما السر وراء قبض الجالسين عليها بها بأسنانهم وأظافرهم ولو خرب العالمين، إنها بما توفره من سلطة ومن اصطفاف الكثيرين حولها ممجدين مبتهلين، تغير طباع الإنسان، وتحوله إلى متشبث بالفريسة.
الكاتب السياسي النبيه حسني عايش يضحك من الواقع الذي توفره الكراسي، ويقترح اقتراحاً عملياً متوائماً مع عصر الصناعة، يقول: "لماذا تصنع الكراسي من المغناطيس؟ لماذا لا تكون الكراسي من التيفال غير اللاصق مثلاً؟". لعله يريدها مثل مقالي البيض التي يطير عنها الطعام بسهولة ولا تحتاج إلى حك وتقبيع. ربما كانت هذه الكراسي المقترحة معقولة، خصوصاً إذا زُودت بالدائرة الحمراء التي تتوسطها والتي تتوهج إذا ما ارتفعت درجة الحرارة، لتفهم ست البيت أن الوقت قد حان للقلي، أو لإنقاذ الطبخة من الاحتراق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى