د. خضر عباس - سيكولوجية الكرسي

الكرسي… ما هو الكرسي؟ هل هو قطعة أثاث لها أربعة قوائم، ومقعد وظهر وذراعان..يستخدم للجلوس، أم أنه شيء أخر؟

يقول ابن منظور عن الكرسي في معجم لسان العرب: الكُرْسِيّ: معروف واحد والكَرَاسِي، وربما قالوا كِرْسِيّ؛ بكسر الكاف) .
وفي القران الكريم: وسِعَ كُرْسِيُّه السمواتِ والأَرض؛ في بعض التَّفاسير: الكُرْسِيّ العِلم وفيه عدَّة أَقوال، قال ابن عباس: كُرْسِيُّه عِلْمُه، وروي عن عطاء أَنه قال: ما السموات والأَرض في الكُرْسِيّ إِلا كحَلْقة في أَرض فَلاة؛ قال الزجاج: وهذا القول بَيِّنٌ لأَن الذي نعرِفه من الكُرْسي في اللغة الشيء الذي يُعْتَمَد عليه ويُجْلَس عليه فهذا يدل على أَن الكرسيّ عظيم دونه السموات والأَرض، والكُرْسِيّ في اللغة والكُرَّاسة إِنما هو الشيء الذي قد ثَبَت ولزِم بعضُه بعضاً.. قال: وقال قوم كُرْسيّه قُدْرَتُه التي بها يمسك السموات والأَرض. قالوا: وهذا كقولك اجعل لهذا الحائط كُرْسِيّاً أَي اجعل له ما يَعْمِدُه ويُمْسِكه، قال: وهذا قريب من قول ابن عباس لأَن علمه الذي وسع السموات والأَرض لا يخرج من هذا، واللَّه أَعلم بحقيقة الكرسيّ إِلا أَن جملته أَمرٌ عظيم من أَمر اللَّه عز وجل..وروى أَبو عمرو عن ثعلب أَنه قال: الكرسيّ ما تعرفه العرب من كَرَاسِيِّ المُلوك..وكان أهل الشرق القدماء يجلسون غالباً على الأرض أو الحصر أو السجاد كعادة بعض الشعوب الآن أيضاً.. وقد تستعمل لفظة الكرسي للدلالة على المُلك.
ولقد تعددت الكراسي واختلفت أنواعها..فهناك كراسي الانتظار، وكراسي المحاكمات، وكراسي الزوار، وكراسي العزاء، وكراسي الأفراح، وكراسي المهام، وكراسي الموظفين، وكراسي المدراء، وكراسي الوزراء، وكراسي الرؤساء..وكراسي للأغنياء وللفقراء. وللكراسي أشكال متعددة حسب الاستخدام، فهناك كراسي المدراء والوزراء الفخمة، والكراسي النحيفة في مديرية الأمن والتحقيق، وكراسي المندوبين الجافة، وكراسي حراس البنايات الرطبة، وكراسي الأطباء الناعمة، وكراسي الحلاقة اللفافة..وغيرها الكثير .
وكلما تنوعت الكراسي.. كلما تنوعت وسائل وأساليب الوصول إليها، فهنالك كراسي يتم دفع ثمنها مسبقا.. كالكراسي النيابية التي كلفت بعض الجالسين عليها عشرات الألوف من الدنانير..ونوع أخر من الكراسي يشترى بالكلام، فما عليك إلا أن تكون بياع كلام، او منظرا سياسيا.. فالكرسي أفضل وسيله لإسكاتك، فتريح وترتاح، وتنسى تلك الشعارات والخطابات الرنانة وتلقيها خلف ظهرك. ومن الكراسي ما يشترى بالولائم، وما يرافقها من زينه وبهرج، حتى لو استدان أصحابها تكاليف إقامتها على شرف فلان وعلان. ومن الكراسي ما يتم تحصيله من خلال النفاق والكذب ومسح الجوخ لمسئول ما، له تأثير مباشر أو غير مباشر للوصول للكرسي.
والكراسي جميعها منتزعة من الحياة.. فهناك علاقة للكراسي بالأشخاص الذين يجلسون عليها، حيث من خلال الكراسي يتم رصد صفات هؤلاء الأشخاص، وبيان مظاهر التخبط والفساد والمتاجرة بالقيم.. ويقول بعض الكتاب (من كثرة ما يحدث على الكراسي رأيت أن الكرسي هو أفضل شاهد على ما يحدث حولنا، وما يصدر من أصحابها، فالكرسي لن يكون ساعيا إلى الشهرة أو إلى المجد، ولن يصبح مغرما بتصفية الحسابات، فهو مجرد شاهد عاصر أحداثا ممن جلس عليه، يتكلم عنها بحياد تام وموضوعيه، فعندما يبدأ الكراسي في الحديث عن ذلك الشخص الذي جلس عليه فانه لن ينحاز إلى أحد، أو يحابي احد مطلقا!.
وعلينا إذا أردنا أن نتعرف على أي شخص، أن نستنطق الكرسي الذي يجلس عليه هذا الشخص..حيث أن للكرسي تأثيره الطاغي على كل من يجلس عليه.. فالكرسي يتدخل في صياغة وتشكيل شخصية بعض الناس، وطريقة تفكيرهم، وحتى نظرتهم لذواتهم وللآخرين.. وللكراسي تأثير لا يقاوم علي سلوكهم وأفعالهم، فبالكراسي لهم كيان، وبالكراسي لهم امتيازات، وبالكراسي لهم ذوات.
ويجب ان يكون التعامل مع الكرسي، كحالة وظيفية مجردة، بمعنى أن من يتقلده، يكون في موضع الخدمة لكل من له حاجة عنده.
فمنصبية الكرسي تعنى أنه مكان شاغر للجلوس عليه لفترة من الزمن، لا يلصق بأحد، ولا يلصق به أحد، فهو وظيفي لكل من يشغله، وهو لا يتعدى لمن يشغله سوى فترة جلوسه عليه، وحين يقوم من عليه يكون خارج المسؤولية أو السلطة المتاحة له، فهو يغادر الكرسي كوظيفته إلى ذاته ومجتمعه، كما هو مجردا من سلطة الكرسي.. وهكذا يحافظ على مسافة بينه وبين سلطة الكرسي.
وننصح كل من يجلس على كرسي -مهما كان هذا الكرسي- أن ينظر إليه، كما ينظر إلى كرسي الحلاق، الذي لا يثير في النفس جاها ولا وجاهة.. والذي يكتشف الشخص من خلاله -عبر المرايا التي تحيط به من كل جانب- نفسه وذاته، ويتسنى له أن يرى هذه الذات على حقيقتها، مما يزيده من التعرف عليها، فلا يعود يخدعه وصف الواصفين، ولا ثناء المعجبين، ولا مدح المتسلقين. وكرسي الحلاق عمره قصير، ولأن الجميع يدركون هذه الحقيقية، فلن يطمح أحد ممن يجلسون عليه البقاء فيه، لا الحلاق الذي ينتظر الزبون التالي، ولا الزبون الذي لابد أن تكون له مشاغل أخرى كثيرة، يود أن يقوم بإنجازها بعد الانتهاء من مراسم الحلاقة.
ولكن هناك كرسيا من نوع آخر يملك سيكولوجية خاصة تشد المرء إليه حتي ليتمنى أن يجلس فيه وعليه إلى الأبد، إنه كرسي ساحر مغر، وما أكثر هؤلاء الذين يقعون تحت سحره ويفتنون به أكثر من افتنانهم بالغيد الحسان، بل أكثر من أي شهوة في الحياة الدنيا..والأسباب التي تدفع مثل هؤلاء الناس إلى التشبث بهذا الكرسي أكثر من أن تعد.. ولكن أهمها علي الإطلاق هو تلك الهالة التي يسبغها الكرسي على من يستحوذه ممزوجة بذلك الاحترام المصطنع من قبل الآخرين فضلاً عن حاجة الناس للخدمات والمصالح التي يفترض أن يهيئها من يجلس على الكرسي، أو التي يجنيها لنفسه من خلالها.. أي أن ثمة قيمتان لصاحب الكرسي، قيمة مادية وأخري معنوية يصعب الفصل بينهما والإشكالية هنا حين يرتاح صاحب الكرسي إلى هذه الوضعية ويبني حساباته على أن بقاءه من الثوابت التي لا ينالها التغيير أو حوادث الزمان وحين يقبل بصورة أو بأخرى أن يعامل من قبل الآخرين على أنه والكرسي شيء واحد أو وجهان لعملة واحدة.
وأبلغ تعبير في هذا الصدد ما أورده الخليفة علي رضى الله عنه حين قال: من ولاها (الولاية، المنصب، الإدارة) وهي أكبر منه كبرت في عينيه، ومن ولاها وهي أصغر منه صغرت في عينيه..وبهذه الكلمات الموجزة بالغة الحكمة يلخص مشكلة الكرسي.. حيث يعتبر أن المقياس هو الإنسان، فمتي كان صغيرًا في نفسه ركن إلي المنصب وغرته تلك المباهج والأوهام التي بصنعها، ومتي كان كبير النفس عالي الهمة لم يترك فرصة لتلك الأوهام أن تستحوذ عليه وتسرقه من نفسه التي يعرفها أكثر من غيره. ونتساءل..كما تساءل من قبلنا لماذا تمارس الكراسي لعبة الدوران؟ ولماذا نلعب مع الكراسي تلك اللعبة الموسيقية؟ ومن الذي يلعب بالآخر، هل نحن نلعب بالكراسي، أم أنها هي التي تلعب بنا؟ وعندما نمتطي الكرسي من يمتطي الأخر؟ هل نحن أم الكرسي!!هذا هو الكرسي..فأي كرسي تريد.. هل تريد كرسي يمتلك (يلعب بك)، أم تريد كرسي أنت تمتلكه (تلعب به)؟ هل تريد كرسي لك حرية الاختيار في الجلوس والقيام عنه متى شئت؟ أم تريد كرسي ليس لك حرية الاختيار في القيام عنه؟ حيث عندما تصبح ملكا لهذا الكرسي، لن يتركك تغادر.. إلا إلى الموت، أو المقصلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى