د. سيد شعبان - مما أحبه من سردي! الراهب حنا

تراكمت السنوات على وجهه، صارت خطوطا ومنحنيات تشبه دروب حارة المتاهة في كفر أبو ناعم الذي يقبع خلف شريط القطار الواصل بين دسوق وقلين بلاد يغطيها طوفان من الذباب والبعوض، الناس هنا تنام على وقع أقدام عساكر الإنجليز يتطوحون سكارى من خمارة الزغبي.
أهل الكفر يخافون منهم على أبقارهم ونسائهم.
يضعون أحجارا جلبوها فوق ظهور حميرهم من جسر النيل تمنع الفيضان أن يغرقهم خلف الأبواب، متاريس وراء أخرى، ينامون بنصف عين، هؤلاء أشرار ينتهبون كل شيء، يعربدون في البندر لا يحترمون مقام ولي الله الدسوقي؛ يقال إنه مبارك، يحمي البلاد من شر هؤلاء المحتلين؛ سبعون عاما وهو صامت في مقامه العلوي.
يسكن الغجر حوله، يتباركون به؛ يقتسمون نذوره، بعضهم يقسم أنه من آل البيت، النسوة تبيع الفول النابت؛ الرجال يصبغون الحمير، يراقصون القرود، عند المقام حيل وألاعيب، لحوم من كل لون تباع وتشترى، وفي سكرة الليل: مدد يا أهل المدد!
لاشيء يتغير في كفر أبو ناعم، الجرس الكبير يقرع يوم الأحد في الكنيسة العتيقة، تقول رواية: جاء المسيح وأمه إلى الدلتا مر موكبهم من هنا؛ بلادنا تحب العذراء وابنها؛ شجرة جميز عملاقة تظلل تلك البناية العتيقة؛ أسراب من حمام تسكن برج الراهب حنا، رجل طيب، انحنى ظهره، يتوكأ على عصاه، يعطي الفقراء كل أحد عظته؛ يصبرهم، يرجو لهم مملكة السماء، تسرق الأبقار، النساء في عربات قطار الدلتا تساق إلى البندر، يتم ترانيمه وأوراده، منذ خمسين عاما وهو ممسك بإنجيله، كم أنت طيب أيها الراهب حنا!
عنده زيت ودهن يداوي به المرضى؛ أما هو فمن يشفيه وقد انحنى ظهره منجل حصاد؟
يقيم القداس حتى وإن لم يأت أحد، ربما مر واحد من أهل الكفر لا يهم إن كان مسلما فيتبادل معه الحديث ومن ثم يحتسيان كوب الشاي، تبدو مسحة من صفاء وطيبة في كفر يعيش آلام الفقر وحياة الضنى.
يقال إن الراهب حنا عنده خزانة مملوءة بالذهب، حين تتناهى إليه تلك الشائعة يضحك ملء فيه، يداخله شعور غريب، ربما يجده يوما؛ يبني مدرسة ووحدة صحية، لكن للجهل مخالب تعمي العيون وتعتل منه الأجساد، يسكن الفقر بيوت الكفر، يخيم المر على وجوه العابرين.
حين يخلو بنفسه تدور في رأسه خبالات شتى؛ أن يترك أثرا، للمرأة اشتهاء ونعومة فراش، وهل حنا إلا بشر تجري داخله ألف رغبة محمومة، يتكتمها لكنه دائما ما يعظ بلازمته التي عرف بها: الرب يحب المتطهرين.
يبدو أنه يرجو عالما آخر، تطوف بالكفر بائعات الهوى، يزرن الدوار الكبير، بعض ليال في بيوت سرية، الراهب حنا لا يغلق بابه دائما.
تجري الذئاب وراء الدجاج في شوارع الكفر، الراهب وعظهم أن يدعوا ذلك العالم بكل شره، الأطفال يتألمون جوعا، نساء الكفر لايمشطن شعورهن الملبدة كفراء الشياة النحيلة.
يوما كان يحلم بأنثى جميلة، لم يبح بذلك السر ﻷحد، شعرها وخصرها، صدرها تتعارك فيه رمانتان، حكاية نسيها كفر أبو ناعم منذ زمن..
في مرة داعبه الهوى، أخذ يشدو بأغاني الصبا؛ والهوى قدر والمرأة هيام، رسم وجهها على النافذة الزجاجية تتداخل مع صورة العذراء، كما تمنى أن تأتي ذات الوجه المريمي ؛ كاد العشق يفضحه، نسي أيامه معها، للراهب مكانته في عيون رعيته.
يختزن حكايات وراء أخرى، يعتاش عليها، يوقد ناره، يتبلع الخبز ببعض حساء، ثم يكتب في كتاب عتيق؛ في كفر أبو ناعم كنز لا يعرفه إلا من لديه دجاجة تبيض بيضة أشبه بكرة؛ يخرج منها فرخ له ثلاثة أرجل!
يطول ليل الراهب في أوراده، يأتي شتاء وصيف وهو في مكانه، الأحد موعد عظته التي لا تتغير؛ المملكة في السماء، ينادي الصغار في تذلل ولكننا نحتاج كساء، أبقارنا بلا لبن، يمسح على رؤوسهم ثم يدهن أجسادهم بالزيت المبارك. شيء واحد جعله لا ينام؛ متى سيخرج الديك من البيضة المكورة وتكون له ثلاثة أرجل؟
أمر محير بالفعل؛ في أية جهة ستكون الرجل الثالثة، عجيب أن تكون تحت رقبته، لا ربما تكون أعلى ظهره، ستنسى الناس آلامهم حين يأتي الديك،.
لكن خيول المحتل تضرب الأرض، تعوي الذئاب في كفر أبو ناعم، مقام الدسوقي صامت والراهب حنا في عظته يعيش في مملكة السماء، الناس لا تجد سراويل ولا كسرات خبز، وللصبر علة لا يبرء منها الضعفاء؛ تنوح السواقي على ماء مغموس بسياط القهر، كل حاجة في أبو ناعم تسير في سكة عكس الاتجاه.
جاءه هاتف غريب؛ عند المقام حجرة كبيرة تحتها مفتاح منقوش عليه رسم، خذه واذبح فوقه نملة بيضاء يتيمة، لفها في صرة، وفي قن الدجاج الذي يطعم فراخه في كيمان أبو ناعم ضعها تحت دجاجة عاقر!
ركب قطار الدلتا، جاء بجرابه الذي كان يكتب فيه أجمل حكاياته، لف ودار حول مقام الدسوقي، حين رآه الغجر يفعل هذا أشاعوا في البندر أن الراهب حنا صار واحدا منهم، ابتسم في وقار، جاءوا إليه بثياب بيض، حصان أشهب، رشوه بالملح سبع مرات، علا هتافهم، الراهب في تبتل يتمتم أوراده، تسكن قريبا من المقام الجدة عارفة؛ تبلغ من العمر مائة عام، صاحت فيهم؛ انصرفوا فله سر ومكان.
مالت على أذنه: سرق المفتاح لص من يومين، حاولت أن أمنعه، أعطاني لفافة فيها رسالة لك: النملة اليتيمة ماتت منذ أسبوع، لا يعطى المفتاح لمن يسكن في مملكة السماء؛ يوما ما ستنبت نخلة مباركة جوار مقام ولي الله الدسوقي عند رصيف السفن القادمة من رشيد تحمل القادمين من بحر الروم، لايدري متى يأتون؟
عاد الراهب إلى عظاته يتمتم ويتساءل:كيف يخرج الفرخ ذو الثلاثة أرجل؟ في عظته الأخيرة ذكرهم بما رآه وأن المملكة يوما ستكون في كفر أبو ناعم.
عن #الروايةالقبضة : الراهب حنا
كتب الناقد العراقي أ.د فراس عبد الرزاق السوداني :
رمزيّة هذا النصّ عالية، وإن كان الرمز ملازماً لنصوص د.سيد شعبان جميعاً تقريباً، لكنّه هنا أكثف وأعمق..
التصوير التعبيريّ لحال الفوضى الذي يلفّ الكَفْر وأهله في النصّ أدّى وظيفته، وإن أتعب القارئ قليلاً.. لكنّه تعب لذيذ -إن صحّ التعبير وجاز-، فالأصل أن يُقرأ النصّ الأدبي غير مرّة ليُسبر غوره ويعرف كُنهه.
لكنّ الكاتب لم يترك القارئ مع الرمز عاري اليدين، فإن "سَرَق المفتاح لصّ قبل يومين" في النصّ؛ ما ضيّع الكاتب على القارئ مفتاح نصّه الذي يَلِج به إلى ما وراء، وراء العتبة..
العنوان الأبرز لهذا النصّ عندي هو "نقد المجتمع" وخصوصاً مَن قعدت به هِمّته عن مواجهة غوائل الزمن وصروفه، سواء كان محتلّاً أو جهلاً أو غير ذلك.
"لا يَحترمون مقام ولي الله الدسوقيّ. يُقال إنّه مبارك، يحمي البلاد من شرّ هؤلاء المحتلين.. سبعون عاماً وهو صامت في مقامه العُلويّ"، رسالة واضحة في نقد القاعدين عن حقوقهم، المنهمكين بخُرافات لا تعود عليهم بأسباب الحياة الكريمة.
"الراهب حنّا رجل طيّب... يرجو لهم مملكة السماء؛ تُسرق الأبقار، النساء في عربات قطار الدلتا تساق إلى البندر..." رسالة أخرى في ذات السياق!
والعنوان الثاني الأبرز في هذا السرد "المفارقة" التي تؤدّي وظيفة أدبيّة بحتة فيه..
"يسكن الغجرُ حوله، يتباركون به؛ يُقَسِّمون نذوره. بعضهم يُقسم أنّه من آل البيت!!!".
"عنده زيت ودهن يداوي به المرضى. أمّا هو، فمن يشفيه وقد انحنى ظهره منجلَ حصاد؟!!".
وهو يبثّ الشائعات في النصّ على لسان أهل الكَفْر؛ لأنّ "الشائعة" حيلة الجاهل وسلوته. تجد ذلك بعد كلّ "يُقال"..
"يُقال: إنَّ الراهب حنّا عنده خزائن مملوءة بالذهب، حين تتناهى إليه تلك الشائعة يضحك ملء فِيه..".
ولا يفوت الكاتب في هذا السياق أن يعقّب ناقداً: "لكنّ للجهل مخالب تُعمي العيون وتعتلّ منه الأجساد".
اللغة التي يكتب بها د.سيد شعبان لغة شعريّة في كثير من عباراتها، وهو ما يحتاجه كاتب القصّة القصيرة؛ ليطبع نصّه باللغة العالية من جهة، وليختزل من جهة ثانية.
تجد ذلك في مثل قوله: "للمرأة اشتهاء ونعومة فراش..."، و"الهوى قدر والمرأة هيام..."، وبعضها موزون كقوله: "يرجو لهم مملكة السماء".
والذي أراحني كقارئ، ذاك التوازن الذي تناول به شخصيّة الراهب حنّا، فما حاف عليه ولا مال.. هو رمز في قُبالة رمز الوليّ الدسوقيّ، وإن أخذ مساحة أوسع من غيره حتّى وُسِم النصّ باسمه.
ويأتي قوله: "مقام الدسوقي صامت والراهب حنا في عظته يعيش في مملكة السماء. الناسُ لا تجد سراويل ولا كسرات خبز، وللصبر علّة لا يبرء منها الضعفاء. تنوح السواقي على ماء مغموس بسياط القهر. كلّ حاجة في أبو ناعم تسير في سكة عكس الاتجاه"..
يأتي ليعطي الخلاصة، ويفكّ الرمز ويفضّ شفرة النصّ.. في نقد لاذع له إسقاطاته التي لا أريد التفصيل فيها عن قصد.
والحكمة البالغة التي هي عندي بألف حكمة، وأسمّيها "جوديّ النصّ" الذي أرسى عليه سفينته، في قوله: "لن يعطى المفتاح لمن يسكن في مملكة السماء"..
عبارة يتصارع فيها الأمل واليأس وكلّ المتناقضات والمفارقات، لكنّ الأمل يغلب؛ لأنّه سبب الحياة، فـ"يوماً ما ستنبت نخلة مباركة"..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى