عوض عثمان عوض جبريل - الرجل الذي يكره نفسه

فصل الشتاء جاء باردا هذا العام على غير عادته مقارنة بالسنوات الماضية.. تتغير أمزجة البشر بصورة عجيبة في هذا الفصل حيث يسكنهم الصمت الأزلي أو مس من حالات التيه او الجنون لدرجة يصعب حتى لعلم النفس تفسيرها .. حالة الإغلاق التام التي تعم المدينة هذه المرة زادت من قتامة المشهد نتيجة لانتشار الوباء ... ويبدو أن أول الذين اصابتهم لعنة الشتاء هذه المرة جارنا استيفن في البناية.. شخص متقلب الأطوار في بداية الثلاثينات من العمر و مزاجي لدرجة محيرة يختفي ويظهر يصمت لدهر ثم يتكلم بمرح.. لا أحد يعرف له شئ على الإطلاق أو ربما هو لا يعرف نفسه .. سارح في عالمه الخاص وبعض الأحيان يفسح كلبه في المساء ثم يتمرن ويتسابق معه لفترات طويلة في الحديقة العامة الخلفية للبناية.. لدرجة تشعر أنه مقبل على المشاركة في الأولمبياد... متزوج وله طفلة واحدة... لا يتكلم مع أحد من الجيران.. ربما كنت أنا مجرد استثناء.. قال لي صاحب ذات مرة لديك مقدرة للتواصل مع الآخرين بصورة ملفتة حتى مع الشيطان نفسه... أثناء خروجي عند الظهر من البناية وذهابي نحو الحديقة لمحته يتمرن كعادته كان يمشي على أياديه هذه المرة .. وعلى الأرض توجد شنطة ملابس كبيرة الحجم .. بعد أن حييته قلت له ما هذه الشنطة هل أنت مسافر.. ضحك وقال لي لا إنني ذاهب إلي السجن مباشرة اليوم.. اعتبرت الأمر مزحة في البداية و ضحكت.. قلت له البلد كلها بل العالم كله مسجون الآن ... قال لي معك حق بالفعل لكنني مسجون مرتين فقد مللت من البيت والحياة.. السجن أرحم لي من كل هذا العبث والملل.. قلت له لديك أسرة رائعة لماذا تتركهم خلفك وتدخل السجن بارادتك .. قال لي هم أحد الأسباب...سوف تفتقدهم وتفتقد كلبك المدلل الذي تتمرن معه صباح ومساء .. ضحك و قال لي لا تحاول أن تقنعني بالتراجع لقد اتخذت قراري .. قلت له ثم ماذا بعد السجن.. ؟ قال لي بابتسامة سوف أدخل في نوبة زهايمر أبدية .. وقبل أن أرد له و أكمل حديثي معه لمحته قفز بخفة ديك نحو جارنا الذي يسكن في الطابق الأرضي وهو من أصول لاتينية وقال لي على عجل سوف أعود بعد لحظات.. لكن تلك اللحظات التي قالها لم يعود بعدها.. سمعت بعد قليل صوت صراخ وشجار عنيف.. ذهبت إلى الناحية الأخرى وجدت الجار ينزف دماء غزيرة على الأرض... أمسكت استيفن من نصفه بقوة و قلت له هل تريد قتله ابتعد عنه الآن يكفي هذا ماذا أصابك يا رجل ؟ ... فهمت من بعض الحضور بعد ذلك أن بينهم خلاف سابق منذ مدة طويلة.. انتظر استيفن عودة ذلك الجار من الإجازة ووجدها فرصة اليوم حتى يعود للسجن لأسباب لا يعلمها إلا هو .. لم تمضي دقائق معدودة حتى وصلت سيارات الشرطة طوقت المكان وحضرت عربة الإسعاف حملوا الشخص المصاب للمستشفى.. وحمل استيفن شنطته في ظهره وقال لي لقد تحقق حلمي الآن أراك بعد ستة أشهر من الآن ... قلت لنفسي لم أرى إنسان يكره نفسه والحياة العادية لهذا الحد ... السجن مجرد نزهة يدخله لأكثر مرة في العام...
اقترب مني بعدها أحد أفراد الشرطة الذي كنت اعرف والده وهو من أصول هندية.. أخذ اقوالي قلت له في نهاية الحديث أسمح لي أن أقول لك انني اعرف طباعه فهو بحاجة لطبيب نفسي ورعاية أكثر من السجن... قال لي معك حق من سجله السابق يبدو أنه يحتاج رعاية نفسية سوف نهتم بالأمر ... ودعني بعد أن طلبت منه أن يبلغ تحياتي لوالده الذي لم أراه لزمن طويل بسبب الوباء و حالة الإغلاق ....

عوض عثمان عوض جبريل



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى