كانت القرية تضع ثقلها خلف ذاك التل القديم الذي لم يبرح مكانه منذ أن سكنت في الحياة .
هنا يقطن شاب في أول عمره مع عائلة كبيرة: ( عشرة أخوة وثلاث أخوات والأب والأم والجدة التي جاوزت المئة عام بقليل ) ، ومع هذا فإنها مازالت تحتفظ بذاكرتها كعنفوان شجرة السنديان الراسخة في واجهة البيت ، ولعل الغريب في الأمر أنها لم تطلب المساعدة من أي شخص لتأدية أية حاجة من حاجاتها حتى هذا التاريخ ، التعاريج التي تسكن جسدها هي ذاتها تسكن جسد القرية ، لعلهما كانتا تستمدان القوة من بعضهما البعض .
هذا العام كان مختلفا جدا عن سابقيه ، فقد انتشر الجوع كالذباب بعد أن أقفرت السماء ، وتخلى مختار القرية عن أداء واجباته تجاه السكان بينما أصبح العمل حلما يجتمع عليه الرجال والشباب في سهرات شاحبة .
ولم تكن الشهادة الجامعية التي عاد بها الشاب من قرية مجاورة كافية لتؤنس البطون الخاوية ، لكنها كانت طريقا واعدا لعلاقة متينة بين الشاب والكلب الأبيض الصغير ( نانو ) هكذا كان يناديه دوما ، يترافقان كصديقين حميمين طيلة النهار وقبل أن يتجه الشاب إلى سريره الموحش يربت على رأس نانو ثم يتركه يمضي بقية الليل ليحرس ما تبقى من دجاجات تعد على أصابع اليد .
كل ليلة ذات الحديث حتى تغلغل السأم إلى النفوس فأصبح حديثا ممجوجا لا معنى له ، وكيف لا يكون كذلك ولا بشائر تتبدى في اللوحة الجدارية الصدئة .
ارتفع صوت الجدة العجوز ( مالكم تتحدثون بهمس ، سوف تموتون جميعا ، اذهبوا إلى المختار واشرحوا له بدل أن تنعقوا كالغربان ) ، في ذات اللحظة علا عواء نانو وكأنه يؤيدها فيما تقول .
تجمهر الجميع حول كومة الحطب التي كادت أن تنقرض ، همهمات وهمس وكلام غير مفهوم ، يشعل أحدهم بقايا عقب سيجارة من عود حطب مشتعل ثم ينفث دخانها في سماء الغرفة : ( غدا بعد العصر نجتمع هناك ) أشار بإصبعه إلى ساحة القرية ( إياكم أن تتخلفوا عن الحضور سنذهب إلى المختار ونشرح له وضعنا ) ( وسيكون المعتصم المتحدث باسمنا جميعا ) ، عدل الشاب معتصم جلسته ونظر صوب الباب فإذا بنانو يناظره هو أيضا ويهز رأسه .
لم يتأخر العصر في القدوم رغم المعاناة القيصرية بولادة فجر كل يوم ، الجميع كان هناك أما العجوز المئوية فكانت تراقبهم من سطح البيت وترفع كفيها نحو السماء .
انطلق الموكب المهيب بصمت الوجوه الشاحبة والأفواه المرتعشة والأقدام المتأخرة في المسير وكأنها مكبلة بالسلاسل إلى الأرض الوعرة ، كان المعتصم يتصدرهم وهو يتأبط ( كرتونة بيضاء ) يلفها بشريط مزركش بينما نانو يلاصق ساقيه ويكاد يعثره أثناء سيره .
ظهر المختار من علو أمام منزله المليء بأشجار مختلفة وهو يضع عباءة مذهبة على منكبيه العريضين تاركا شاربيه يتدليان كغصن منفي على فمه الكبير ، أصبح المعتصم والجمع وجها لوجه مع المختار المدجج باللحم : ( أهلا وسهلا بك يا بني ، كنت أنوي زيارتك لأبارك لك بالشهادة الجامعية لكنك سبقتني وأتيت ، ها لقد وفرت علي مشوارا ، شكرا لك ) ... تفاجأ الشاب وظن بأن المختار يرحب به بصيغة الجمع لولا أن نانو ضربه على ساقه بقوة فنظر إليه وإذ به يومئ له للخلف ، فأدار عينيه على عجل إلى الوراء وكاد أن يخر خاشعا لكنه أمسك ببقية قوته وعاد بنظراته صوب المختار الذي أصبح محاطا باثنين من الرجال مع أسلحتهم النفاثة .
( ماذا تريد يا معتصم ، لابد أنك تريد مكافأة أليس كذلك ) ... صمت الشاب وعاود النظر إلى نانو ودمعة باردة تحتبس في مقلتيه : ( لا يا سيدي المختار لا أريد مكافأة بل جئت كي أهديك نسخة من شهادتي وهذا أيضا ... ) ...
( إنه كلب جميل ، شكرا على هذه الهدية الثمينة ) ، ترك المعتصم كلبه وشهادته بين يدي أحد الرجلين ( وداعا نانو ) ثم عاد إلى ساحة القرية .
ثلاثة أيام مرت على ذلك العصر وكان الإخوة العشرة ( تسعة فقط لاغير ) ، بينما هرب نانو من قصر المختار لأمر ما ...
وليد.ع. العايش
٢٩ / ١٢ / ٢٠٢٠ م
هنا يقطن شاب في أول عمره مع عائلة كبيرة: ( عشرة أخوة وثلاث أخوات والأب والأم والجدة التي جاوزت المئة عام بقليل ) ، ومع هذا فإنها مازالت تحتفظ بذاكرتها كعنفوان شجرة السنديان الراسخة في واجهة البيت ، ولعل الغريب في الأمر أنها لم تطلب المساعدة من أي شخص لتأدية أية حاجة من حاجاتها حتى هذا التاريخ ، التعاريج التي تسكن جسدها هي ذاتها تسكن جسد القرية ، لعلهما كانتا تستمدان القوة من بعضهما البعض .
هذا العام كان مختلفا جدا عن سابقيه ، فقد انتشر الجوع كالذباب بعد أن أقفرت السماء ، وتخلى مختار القرية عن أداء واجباته تجاه السكان بينما أصبح العمل حلما يجتمع عليه الرجال والشباب في سهرات شاحبة .
ولم تكن الشهادة الجامعية التي عاد بها الشاب من قرية مجاورة كافية لتؤنس البطون الخاوية ، لكنها كانت طريقا واعدا لعلاقة متينة بين الشاب والكلب الأبيض الصغير ( نانو ) هكذا كان يناديه دوما ، يترافقان كصديقين حميمين طيلة النهار وقبل أن يتجه الشاب إلى سريره الموحش يربت على رأس نانو ثم يتركه يمضي بقية الليل ليحرس ما تبقى من دجاجات تعد على أصابع اليد .
كل ليلة ذات الحديث حتى تغلغل السأم إلى النفوس فأصبح حديثا ممجوجا لا معنى له ، وكيف لا يكون كذلك ولا بشائر تتبدى في اللوحة الجدارية الصدئة .
ارتفع صوت الجدة العجوز ( مالكم تتحدثون بهمس ، سوف تموتون جميعا ، اذهبوا إلى المختار واشرحوا له بدل أن تنعقوا كالغربان ) ، في ذات اللحظة علا عواء نانو وكأنه يؤيدها فيما تقول .
تجمهر الجميع حول كومة الحطب التي كادت أن تنقرض ، همهمات وهمس وكلام غير مفهوم ، يشعل أحدهم بقايا عقب سيجارة من عود حطب مشتعل ثم ينفث دخانها في سماء الغرفة : ( غدا بعد العصر نجتمع هناك ) أشار بإصبعه إلى ساحة القرية ( إياكم أن تتخلفوا عن الحضور سنذهب إلى المختار ونشرح له وضعنا ) ( وسيكون المعتصم المتحدث باسمنا جميعا ) ، عدل الشاب معتصم جلسته ونظر صوب الباب فإذا بنانو يناظره هو أيضا ويهز رأسه .
لم يتأخر العصر في القدوم رغم المعاناة القيصرية بولادة فجر كل يوم ، الجميع كان هناك أما العجوز المئوية فكانت تراقبهم من سطح البيت وترفع كفيها نحو السماء .
انطلق الموكب المهيب بصمت الوجوه الشاحبة والأفواه المرتعشة والأقدام المتأخرة في المسير وكأنها مكبلة بالسلاسل إلى الأرض الوعرة ، كان المعتصم يتصدرهم وهو يتأبط ( كرتونة بيضاء ) يلفها بشريط مزركش بينما نانو يلاصق ساقيه ويكاد يعثره أثناء سيره .
ظهر المختار من علو أمام منزله المليء بأشجار مختلفة وهو يضع عباءة مذهبة على منكبيه العريضين تاركا شاربيه يتدليان كغصن منفي على فمه الكبير ، أصبح المعتصم والجمع وجها لوجه مع المختار المدجج باللحم : ( أهلا وسهلا بك يا بني ، كنت أنوي زيارتك لأبارك لك بالشهادة الجامعية لكنك سبقتني وأتيت ، ها لقد وفرت علي مشوارا ، شكرا لك ) ... تفاجأ الشاب وظن بأن المختار يرحب به بصيغة الجمع لولا أن نانو ضربه على ساقه بقوة فنظر إليه وإذ به يومئ له للخلف ، فأدار عينيه على عجل إلى الوراء وكاد أن يخر خاشعا لكنه أمسك ببقية قوته وعاد بنظراته صوب المختار الذي أصبح محاطا باثنين من الرجال مع أسلحتهم النفاثة .
( ماذا تريد يا معتصم ، لابد أنك تريد مكافأة أليس كذلك ) ... صمت الشاب وعاود النظر إلى نانو ودمعة باردة تحتبس في مقلتيه : ( لا يا سيدي المختار لا أريد مكافأة بل جئت كي أهديك نسخة من شهادتي وهذا أيضا ... ) ...
( إنه كلب جميل ، شكرا على هذه الهدية الثمينة ) ، ترك المعتصم كلبه وشهادته بين يدي أحد الرجلين ( وداعا نانو ) ثم عاد إلى ساحة القرية .
ثلاثة أيام مرت على ذلك العصر وكان الإخوة العشرة ( تسعة فقط لاغير ) ، بينما هرب نانو من قصر المختار لأمر ما ...
وليد.ع. العايش
٢٩ / ١٢ / ٢٠٢٠ م