-- تعريف ومفهوم النظرية:
النظرية هي نوع من التفسير لشرح كيفية حدوث ظاهرة طبيعية بشرط تحقق حدوث هذه الظاهرة وعدم وجود نزاع في حدوثها، فالنظرية تشرح آلية حدوث الظواهر وتكون بشكل عام عرضة للصواب والخطأ،ويدعم التماسك المنطقي والرياضي والتجربة النظرية، ويتزايد التأكد من صحة النظرية عندما تقدم تنبؤات بشأن ظواهر غير مثبتة ثم يثبت صحتها بعد ذلك، وبشكل عام يقصد بكلمة نظرية ( رأي ) أو (فرضية ) في هذا المجال لا يتوجب أن تكون النظرية مبنية على حقائق، أما الاستخدام العلمي فيشير إلى أن النظرية هي نموذج مقترح لشرح ظاهرة أو ظواهر معينة بإمكانها التنبؤ بأحداث مستقبلية ويمكن نقدها، وهناك عدد من التعريفات التي تناولت مصطلح ( النظرية) مشيرة إلى أنها فرض أو مجموعة فروض مرت بمرحلة التحقيق عن طريق التجريب ويمكن تطبيقها على عدد من الظواهر المتصلة. ولها القدرة على وصف و تفسير الأحداث والتنبؤ بها واستبصار المعرفة الجديدة المحتملة، ومن بين تعريفات النظرية أنها:
مجموعة من الفروض التي يمكن أن يشتق منها باستخدام المنطق الرياضي مجموعة من القوانين التطبيقية.
مجموعة من المعتقدات التي يقبلها الفرد كموجهات في طريقة حياته.
مجموعة من الفروض التي يمكن منها التوصل إلى مبادئ تفسير طبيعة الإدارة.
مجموعة من الفروض التي يمكن أن يستخلص منها قوانين ومبادئ تجريبية قابلة للاختيار.
تأتي أهمية النظرية من أنه يمكننا قراءتها وفهمها وتحليلها ونقدها وقبولها أو رفضها وتطويرها ولأنها تمثل أحد الوسائل المعرفية، وهي أساس الانطلاق عند القيام بعمليات التفسير والتحليل والنقد.
نظريات الترجمة قديما.. شيشرو والجاحظ
لقد تركزت نظريات الترجمة منذ عهد شيشرو Cicero حتى بدايات القرن العشرين حول التساؤل عن الترجمة الحرفية (كلمة بكلمة)Word for Word أو حرة (معنى بمعنى)Sense for Sense واسهم في طرح هذه الآراء الاهتمام بترجمة نصوص الكتاب المقدس والمؤلفات الدينية، ومع مطلع الخمسينات وبداية ظهور العلوم اللسانية ظهرت نظريات جديدة وطرحت مفاهيم ومصطلحات مثل مفهومي المعنى و التكافؤ Meaning & Equivalence و الأثر المكافئ equivalent effect و التكافؤ الشكلي و التكافؤ الديناميكي Formal Equivalence and Dynamic Equivalence. ثم أتبع ذلك نظريات الترجمة الوظيفية و التواصلية التي اهتمت بوظيفة اللغة و نوع النص و الجنس ورافق هذه النظريات مفاهيم ومصطلحات جديدة مثل اللسانيات الوظيفية النظمية Systemic functional linguistics لتتطور هذه النظريات حتى تصل إلى نظريات توطين الترجمة domesticating و تغريب الترجمة foreignising ونظريات الترجمة الفلسفية الهرمنيوطيقية، و قبل الحديث عن النظريات التي تناولت الترجمة وفسرتها علينا أن نتذكر المقصود بالنظرية ومفهومها:
بينما نجد أن التنظير للترجمة قد جاء في مرحلة متأخرة من القرن العشرين إلا أن الحقيقة تثبت أن العرب كان لهم السبق حتى في هذا المجال وكانوا أول من وضع أطراً نظرية للترجمة، ولعل خير مثال على ذلك هو ما أسهم به الجاحظ والذي من خلال إسهاماته تلك يمكننا أن نشير إلى قدم علم الترجمة ونظرياته إلا أن اكتشاف هذه النظريات لم يتم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتتحدد نظرية الترجمة عند الجاحظ فيما أورده بقوله:
"وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر.....وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم ، التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم، وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها، فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر، من البُنيان والشعر.ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ، على خصائِص معانيه، وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته، وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها، ويؤدِّيَ الأمانة فيها، ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ، وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصدقها، إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها، واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها، وتأويلاتِ مخارجِها ، ومثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه، فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق، وابن ناعمة، وابن قُرَّة، وابن فِهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفَّع، مثلَ أرِسطاطاليس? ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون؟، ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة، في وزْن علمه في نفسِ المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية، ومتى وجدناه أيضاً قد تكلّم بلسانين، علمنا أنَّه قد أدخلَ الضيمَ عليهما، لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها، وتعترضُ عليها، وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوَّةٌ واحدة، فَإنْ تكلّمَ بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات، وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجِم، وأجدرَ أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء. هذا قولُنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دينٍ وإخبار عن اللّه عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه ممَّا لا يجوز عليه، حتىَّ يريد أنْ يتكلَّم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد، ويتكلَّمَ في وجِوه الإخبار واحتمالاته للوُجوه، ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على اللّه تعالى، ممَّا لا يجوز، وبما يجوزُ على الناس مما لا يجوز، وحتَّى يعلمَ مستقرَّ العامِّ والخاصّ، والمقابلاتِ التي تَلقَى الأخبارَ العامِّيةَ المخرَج فيجعلَها خاصيَّة، وحتى يعرفَ من الخبر ما يخصُّه الخبر الذي هو أثر، ممََّا يخصُّه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصُّه العقل مما تخصُّه العادة أو الحال الرادَّةُ له عن العموم، وحتَّى يعرفَ ما يكونُ من الخبر صِدقاً أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمَّى بصدقٍ ولا كذب؛ وحتَّى يعرفَ اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أيِّ معنًى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المُحالِ من الصحيح، وأيّ شيءٍ تأويلُ المحال؛ وهل يسمَّى المحال كذباً أم لا يجوز ذلك، وأيّ القولين أفحشُ: المُحال أم الكذب، وفي أيِّ موضع يكون المحالُ أفْظَع، والكذب أشنع؛ وحتَّى يعرف المثلَ والبديع، والوحي والكناية، وفصْل ما بين الخطَلِ والهَذْر، والمقصورِ والمبسوط والاختصار، وحتَّى يعرف أبنيةَ الكلام، وعاداتِ القوم، وأسبابَ تفاهمهِم، والذي ذكرنا قليلٌ من كثير، ومتى لم يعرفْ ذلك المترجم أخطأَ في تأويل كلامِ الدين، والخطأُ في الدين أضرُّ من الخطأَ في الرياضة والصناعة، والفلسفةِ والكَيْمِياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم....وإذا كان المترجِم الذي قد تَرجَم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدْرِ نقصانه من الكمال، وما عِلْمُ المترجِم بالدليل عن شبه الدليل? وما علْمه بالأخبار النجوميّة? وما علمه بالحدود الخفيّة? وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب? وما علمُه ببعض الخطرفة لبعض المقدَّمات؟ وقد علمنا أنَّ المقدَّمات لا بدَّ أنْ تكون اضطراريّة، ولا بدَّ أن تكون مرتَّبةً، وكالخيط الممدود، وابنُ البِطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفاً منزَّلاً، ومرتَّباً مفصَّلاً، من معلِّمٍ رفيقٍ، ومن حاذقٍ طَبٍّ فكيف بكتابٍ قد تداولتْه اللغاتُ واختلافُ الأقلام، وأجناسُ خطوطِ المِلل والأمم?! ولو كان الحاذقُ بلسان اليونانيِّين يرمي إلى الحاذق بلسان العربيّة، ثم كان العربيُّ مقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ، لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يَجِد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربيّة بُدّاً من الاغتفار والتجاوز، ثمّ يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين، وذلك أن نسختَه لا يَعدَمها الخطأ، ثمَّ ينسخُ له من تلك النسخة مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثمّ لا ينقص منه؛ ثم يعارِض بذلك مَن يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي لا يجدُه في نسخته".
ومن خلال ما أورده الجاحظ يمكننا أن نلخص نظريته في النقاط التالية:
الشعر غير قابل للترجمة حتى لا يتأثر نظمه وحسنه.
يمكن ترجمة النثر بأنواعه دون ضمان لجودة الترجمة.
الترجمة من لغة غير لغة النص الأصلي يؤثر على المعنى وجودة الترجمة
لا يمكن للمترجم أن يعبر عن محتوى النص بصورة تامة التطابق مع ما قصده صاحب النص إلا إذا كان دارساً للعلم الذي يتضمنه النص
على المترجم أن يعرف مصطلحات وصيغ الكتابة في العلم الذي يترجم.
ينبغي أن يكون المترجم أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها.
تنتج أخطاء الترجمة نتيجة لعدم المعرفة الكافية بعلم أو مجال النص.
على من يترجم الكتب الدينية أن يكون من أهل الدين الذي يترجم فيه ولديه فقه به وعلم بألفاظ علوم هذا الدين ومتقن لاستخدام الكلمات ومدركاً لمعانيها والفارق بينها
اللسانيات ونظريات الترجمة:
إن الترجمة ظاهرة فريدة ومعقدة، وهذا ما دفع الكثير من الباحثين والمنظرين إلى تناولها وفق أسس العلوم المختلفة وتبعاً للمناهج المختلفة، وقد مرت عملية التنظير للترجمة بمراحل ثلاث رئيسية هي:
مرحلة ما قبل اللسانيات: ويشار بها إلى النظريات التي ظهرت قبل القرن العشرين وكانت هذه النظريات تطرح نظريات فلسفية تتناول تجارب المترجمين بهدف التعريف بالترجمة وفتح آفاق لدراستها. تمتد من ظهور علم اللسانيات حتى بدايات السبعينات من القرن الماضي وتمتاز هذه المرحلة بالتناول العلمي التحليلي للترجمة بوصفها ظاهرة يمكن تناولها بصورة علمية وفق علم اللسانيات وأسسه.
مرحلة اللسانيات: والتي ظهرت مع مطلع القرن العشرين وامتدت حتى الستينات منه متضمنة نظريات تقوم على التحليل العلمي لظاهرة الترجمة وفق قواعد اللسانيات، وفي هذه المرحلة تركز تناول الترجمة على أسس لغوية وفلسفية وشهدت اجتهادات استنتاجية أوردها المترجمون أنفسهم نتيجة لخبراتهم وتعاملهم مع النصوص التي ترجموها وتمتد هذه الفترة من بدايات طرح قضية الترجمة وحتى بدايات القرن العشرين وظهور الأسس المؤطرة لعلم اللسانيات
مرحلة ما بعد اللسانيات: والتي تبدا من سبعينات القرن العشرين حتى وقتنا هذا وقد ظهرت خلالها نظريات تمزج بين النظريات السابقة وتطرح نظريات للعلاقة بين الترجمة واللسانيات، وهي المرحلة التي تلت مرحلة اللسانيات مباشرة في سبعينات القرن العشرين وظهرت خلالها اجتهادات وطروحات حاولت أن تمزج أو تقارب أو تقارن بين التوجهات المختلفة التي شهدتها المرحلتين السابقتين وظهرت نظريات جديدة لتأطير ظاهرة الترجمة من بينها النظرية النصية ونظرية التواصل والنظرية التقاربية.
ساهمت اللسانيات في مساهمات هامة في صياغة نظريات الترجمة، يعود الفضل إلى اللسانيات في ظهور التعريفات الأولى الموضحة لعمليات الترجمة بينما لم تتجه أي علوم أو درسات سابقة لعلم اللسانيات لتناول موضوع الترجمة وقضاياها وكان المطروح بعض نصائح وتوجيهات مثل شيشرون Cicéron الذي نصح بالاهتمام بترجمة المعنى وليس الكلمات أو درايدن Dryden الذي تحدث عن الترجمة الأنيقة القائمة على أن لا يقوم المترجم بترجمة الكلمة بكلمة، وقد أشار رومان ياكوبسونRoman Jakobson : " أن التكافؤ في الاختلاف هو المسألة الأساسية في اللغة وموضوع اللسانيات الوحيد" فأصبحت الترجمة مجالا يتعلق باللسانيات العامة. ثم أصدر كاتفورد Catford كتابه نظرية لسانية في الترجمة A Linguistic Theory of Translation موضحاً أن الترجمة مسألة تتعلق باللغة، واللسانيات تدرس اللغة، وبالتالي فإن الترجمة موضوع من موضوعات اللسانيات.
وتبعاً لذلك وضع مؤلفه تحت عنوان: دراسة في اللسانيات التطبيقية An Essay in Applied Linguistics عام 1964، وتم التعامل مع الترجمة بوصفها علم يخضع لقواعد علوم اللسانيات، بينما كان التعامل مع الترجمة لا يزال في طور التنظير حتى أعوام قليلة قبل أن يطرح كاتفورد ونيدا مؤلفيهما عام 1964، لكن خضوع الترجمة المطلق لعلم اللسانيات لم يلق الترحيب بين المنخرطين في دراسات الترجمة وتطبيقاتها، فأصدر ادمون كيري Edmond Caryكتابه (كيف ينبغي أن نترجم؟) عام 1958 موضحاً أن" الترجمة الأدبية ليست عملية لسانية. إنها عملية أدبية". وأيده في ذلك فيني وداربلنت J.-P. Vinay et J. Darbelnet في كتابهما الأسلوبية المقارنة للفرنسية والإنجليزية حيث أوردا "أننا غالبا ما نقرأ لمترجمين مجربين أن الترجمة فن. إن هذه العبارة التي تنطوي على جزء من الحقيقة، تهدف مع ذلك إلى تحديد طبيعة موضوعنا تحديدا تعسفيا. فالترجمة في الواقع نسق دقيق، له تقنياته ومشكلاته الخاصة"، ويؤكد جورج شتاينرGeorges Steiner في كتابه (بعد بابل Après Babel) عام 1975، أن الترجمة (لاسيما ترجمة النصوص الأدبية) لا تختزل إلى البعد اللساني فقط.
كما أن هناك من حاول أن يمزج بين النظريات المتعددة التي وصفت الترجمة مثل جورج مونان Georges Mouninحيث تحدث في كتابه (المشكلات النظرية في الترجمة) 1963 موضحاً أن" الترجمة تبقى فنا كالطب. ولكنه فن يقوم على علم"، ويرجع تاريخ أول المصنفات التجريبية إلى عام 1944 حيث وضع ألفرد مالبلان Alfred Malblanc كتابه (الأسلوبية المقارنة للفرنسية والألمانية)، ويفترض لهنري ميشونيك Henri Meschonnic في كتابه (من أجل الشعرية) بوجود شعرية للترجم وأشار إلى أن: " نظرية الترجمة ليست إذاً لسانيات تطبيقية. إنها حقل جديد في نظرية الأدب وممارسته. وتقوم أهميتها المعرفية على مساهمتها في ممارسة نظرية للاتحاد بين دال ومدلول خاص بالممارسة الاجتماعية التي تمثلها الكتابة". لقد تناول هنري ميشونيك التمييز بين "أهل المصدر" و"أهل الهدف " لنكر أي تمييز بين اللغة المصدر واللغة الهدف واشار إلى أن: " الترجمة لا تعرَّف بأنها انتقال من نص الانطلاق إلى أدب الهدف أو بالعكس انتقال قارئ الهدف إلى نص الانطلاق وإنما بأنها عمل في اللغة، وإزاحة، وقد أدت الطروحات الكلاسيكية التي تناولت قضية الترجمة وطرحت أطر نظرية بشئنها إلى إثارة ثنائيات تقليدية مثل: المصدر والهدف، و الحرفية والجوهر، والشكل والمضمون، والأسلوب والمعنى، والأصل والترجمة، والمؤلف والمترجم.
النظريات الحديثة للترجمة:
تنطلق نظريات الترجمة من تصنيف اللغات التي تتم بها الترجمة إلى صنفين أساسيين هما: لغة المصدر (SL) (ٍSource Language) وهي اللغة التي يتم النقل منها إلى اللغة الأخرى والتي يطلق عليها لغة الهدف (TL) (Target Language) وفي بعض الأحيان تستبدل كلمة اللغة بكلمة النص فيصبح لدينا النص الأصلي الهدف (ST) (Source Text) و النص الهدف (TT) (Target Text) ... ورغم بداهة هذا التقسيم إلا أنه لم ينجو من أن يكون موضع خلاف بين الباحثين في نظريات الترجمة، ففي عام 1818 ميز فريدريك شلاير ماشر Friedrich Schleiermacher بين المنهجيتين التاليتين: " إما أن يدع المترجم الكاتب وشأنه ما أمكن ويجعل القارئ يتوجه للقائه، وإما أن يدع القارئ وشأنه ما أمكن ويجعله يتوجه للقائه" وعلى أساس ذلك يتحدد وصف اللغة إذا كانت لغة مصدر أو هدف، ثم اقترح ويلهلم فون هامبولت Wilhelem von Humboldt التمييز الرئيس التالي:"طالما أننا لا نشعر بالغرابة وإنما بالغريب، فإن الترجمة قد حققت هدفها السامي، ولكن حيثما تظهر الغرابة لذاتها، لا بل وتبهم حتى الغريب، فإن المترجم يوحي بأنه ليس على مستوى النص الأصل". إن ما بين أيادينا الآن من نظريات إنما تتم صياغتها وفق الأسس اللسانية أو المحتوى المعرفي وظهرت مناهج عديدة تناولت الفوارق والمقاربات بين هذين الجانبين ومن ذلك المنهج اللغوي، والعلمي والنصي والثقافي والنفسي والنقدي، ورغم اختلافات المنظرين الذين تناولوا نظرية الترجمة وفق رؤاهم وآرائهم إلا أن هناك ثمة اتفاق على أن أي نظرية للترجمة تتناول طرق تغير النص الأصلي وما يتضمنه من خصائص دلالية واسلوبية، وتحديد الهدف من الترجمة ووسائل الإفهام المحققة لحدوث التواصل وأن هذه التساؤلات تتم في إطار كلي للعبارة وليس اللفظ المفرد.
النظرية اللغوية:
"النص الذي يترجم يتكون من الكلمات, وأن هذه الكلمات هي المادة الموضوعية الوحيدة التي تتوفر بين يدي المترجم الذي يقوم عمله على ترجمة هذه الكلمات "، وترى النظرية اللغوية أن النص وحدة ذات بعد واحد يتكون من مجموعة كلمات وفق تراكيب معينة فتتكون الجمل". لقد أوضح فيدروف أن عملية الترجمة عملية لغوية في أساسها وأن تنظير الترجمة لابد وأن يتم وفق أسس علم اللسانيات، ودعا كل من فيني وداربلنيه إلى إدراج الترجمة في ضمن مواضيع علم اللسانيات, واقترحا سبع طرق للترجمة وهي الاقتراض ، والنسخ, والترجمة الحرفية, والتحوير, والتكييف, والتعادل, والملاءمة أو التصرف وبنيا نظرياتهما على التعامل في مستوى ما بعد الترجمة، في حين أن مونان يري أن "الترجمة احتكاك بين اللغات ولكنها حالة قصوى من الاحتكاك يقاوم فيها المتكلم ثنائي اللغة كل انحراف عن المعيار اللغوي, وكل تداخل بين اللغتين اللتين يتناوبهما", وأوصى بأن تتم دراسة قضايا الترجمة وفق علوم اللسانيات المعاصرة
أما كاتفورد فإنه يضع الترجمة في مستويين هما: المستوى اللغوي والمستوى التعبيري مشيراً إلى أن المستوى اللغوي يتناول المعنى في جميع مكونات النص وهذا يشمل الصوت والحرف والكلمة والجملة عبارة، وخلص إلى أن الترجمة تقع بين حدين اساسيين أدناهما ما يتعلق بالسمة وأعلاهما المعنى، وتحدث عن مفهومي التكافؤ والتناظر اللازمين لبلوغ أعلى درجات كمال الترجمة. يقول كاتفورد: " إنه من الضروري لنظرية الترجمة أن تستند إلى نظرية في المعنى. ومن دون نظرية كهذه تظل عدة مظاهر محددة وهامة في عملية الترجمة غير قابلة للمناقشة". لقد دافع بيتر نيومارك Peter Newmark عن النظرية اللغوية في كتابه: (كتاب في الترجمة A Textbook of Translation , ) موضحاً :"إننا نترجم الكلمات لأن ليس هناك شيئ آخر نترجمه, لا يوجد على الصفحات سوى الكلمات, فقط لاغير")، واقترح بعض معايير تحليل النص مثل نية النص , ونية المترجم, ونية القارئ وجو النص, وأسلوب الكتابة، ليقترح طريقتين أساسيتين للترجمة هما: الترجمة الدلالية مشيراً إلى أن دور المترجم هو إعادة تقديم المعنى الذي تضمنه السياق وفق حدود النحو والدلالة للغة الهدف ، الترجمة الاتصالية دور المترجم هو إحداث تأثير لدى المتلقي بلغة الهدف يماثل التأثير الحادث للمتلقي في لغة المصدر
تقوم النظرية اللغوية للترجمة على فرضية أن النص المترجم يتكون من كلمات وأنها الكلمة هي المادة الموضوعية المتاحة للمترجم، وأن المترجم يتعامل مع اللغة وفق علوم اللسانيات.وأصحاب النظرية اللغوية للترجمة يرون أن الترجمة عملية لغوية، لذا فلابد من ضمها إلى علوم اللسانيات، وقد رأى بعضهم أنه يمكن إضفاء نوع من الاستقلالية على الترجمة بأن اشاروا إلى أنها فن مستقل مبني على علم هو علم اللسانيات، وهناك من أشار إلى أن الترجمة ترتبط بنظرية المعنى وأن هناك مستويين من الترجمة يقوم الأول على إيجاد المكافئ اللغوي المناظر للوحدة اللغوية في نص اللغة المصدر، أما الثاني فيقوم على المعنى الذي سعى صاحب النص إلى توصيله من خلال المستوى اللغوي الذي استخدمه. كذلك فقد أوضح أتباع النظرية اللغوية ضرورة إيجاد النص المكافئ وليس النص المطابق إذا أنه لا مجال إلى تطابق تام بين اللغات المختلفة، وتسعى النظريات اللغوية حول الترجمة إلى الربط بين اللغة والفكرة والمعنى والخلفيات الثقافية، وأشارت هذه النظريات إلى أن دور المترجم هو محاولة إحداث تأثير لدى المتلقي بلغة الهدف يطابق نفس التأثير الذي أحدثه النص لدى متلقيه بلغة الأصل، وأن يسعى وفق قواعد وحدود اللغة الهدف إلى تقديم نفس المعنى المقصود في اللغة المصدر.
النظرية التفسيرية:
ترى هذه النظرية أن الترجمة مرحلة من مراحل التواصل بين مؤلف النص في اللغة المصدر والمتلقي باللغة الهدف، وأن الترجمة ذاتها تتألف من ثلاث عناصر فهم المعنى، تحديد اللفظ، وإعادة التعبير، ورأى أتباع هذه النظرية أن المترجم يقوم أولاً بتفسير كلمات النص في لغة المصدر ليفهم معانيها ودلالاتها ثم يقوم بإعادة صياغة ما فهمه من النص الأصلي وينقله إلى اللغة الهدف شريطة أن يحدث نفس التأثير لدى المتلقي، لذا فإن المعنى هو جوهر عملية الترجمة وأن النص عبارة عن وحدة ذات أبعاد ثلاثية هي البعد اللغوي والبعد الفكري والبعد التأثيري، لذا فإن الترجمة لا تسعى إلى المطابقة التركيبية وإنما إلى المطابقة التأثيرية، وأنه نظراً لانعدام المطابقة اللغوية والثقافية فإن عمل المترجم يتطلب نوعاً من التكييف الثقافي في اللغة الهدف بما يكفل إحداث نفس الأثر الذي أحدثه النص في اللغة المصدر.
يرى الكثيرون الترجمة واحدة من صور التفسير وإن كانت بلغة غير لغة النص المفَسَر، ولنبدأ ببيان ما أوردته معاجم اللغة في معنى كلمتي "تفسير" و "فسر"، فقد ورد بلسان العرب أن الفَسْرُ: البيان. فَسَر الشيءَ يفسِرُه، بالكَسر، وتَفْسُرُه، بالضم، فَسْراً وفَسَّرَهُ: أَبانه، والتَّفْسيرُ مثله ابن الأَعرابي: التَّفْسيرُ والتأْويل والمعنى واحد، وقوله عز وجل: وأَحْسَنَ تَفْسيراً؛ الفَسْرُ: كشف المُغَطّى، والتَّفْسير كَشف المُراد عن اللفظ المُشْكل، والتأْويل: ردّ أَحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر، واسْتَفْسَرْتُه كذا أَي سأَلته أَن يُفَسِّره لي. أما الصحاح فقد أورد: الفَسْرُ: البيانُ، وقد فَسَرْتُ الشيءَ أفْسِرُهُ فَسْراً، والتَفْسير مثله، واسْتَفْسَرْتُهُ كذا، أي سألته أن يُفَسِّرَهُ لي، فالتفسـير لُغَـةً: هو البَيَانُ والكَشْفُ. فَسَّرَ الشيء إذا وَضَّحَـه وبَيَّنَه، فيقال فسرت اللفظ فسرا من باب ضرب ونصر، وفسرته تفسيرا شدد للكثرة إذا كشفت مغلقه.
ووفقاً للنظرية التفسيرية فإن الترجمة عبارة عن سلسلة متصلة من حلقات التواصل تنشيء نوعا من العلاقة بين المؤلف الأصلي باللغة المصدر والمتلقي باللغة الهدف، و أوضحت ماريان لوديرير Marianne Lederer: " أن الترجمة التفسيرية تتم عبر ثلاثة مراحل تسلسل بصورة اتفاقية وقد تتداخل أو تتابع فيما بينها وهذا يتم عبر فهم المعنى وتجريد اللفظ وإعادة التعبير موضحة أن التجريد هنا يشبه الترجمة الحرفية كلمة بكلمة، و ترى النظرية التفسيرية أن النص وحدة مفتوحة ذات أبعاد ثلاثة: البعد الأفقي متمثلاً في النظرية اللغوية, والبعد العمودي المتمثل في الأسلوب والترابط والبعد العرضي المتمثل في نوع النص وعلاقة النص بنصوص أخرى، و ذكر ديبوغراند ودريسلر (De Beaugrande and Dressler) بعض الخصائص التي تتعلق بالنص وأثارا قضية التناص Intertextuality حيث عرفاه بأنه: الظاهر النصية التي يعتمد فيها فهم النص وإدراك معناه على فهم المتلقي لبعض النصوص الأخرى.
النظرية الأسلوبية:
جاء ظهور هذا المصطلح مع بدايات القرن العشرين بعد مجئ العالم اللغوي السويسري (دي سوسير Ferdinand de Saussure) مؤسس المدرسة البنيوية وقد وضع أسساً لعلم الأسلوبية وفق العلاقة بين اللغة والكلام، وركز على المنظور الإجتماعي للغة مشيراً إلى أنها نظام إجتماعي يضم علاقات وروابط متعددة، وفاصلاً العلاقة بين صوت اللفظ ومعناه مشيراً إلى أن المعنى يتكون في الذهن، وقام تلميذه (شارل بالي Charles Bally) وهو أيضاً لغوي سويسري درس اللغتين اليونانية والسنكريتية وتعمق في دراسات النحو المقارن واللسانيات العامة وقد قام بالتعاون مع أحد زملائه بجمع محاضرات أستاذه في كتاب تحت عنوان منهج في اللسانيات العامة» ثم أضاف إليه ملاحظاته. وقام بنشر كتب أسماه ( في الأسلوبية) عام 1902 متضمناً أفكاره حول الأسلوبية والتي ربطها بالنظريات الفلسفية الوجودية والتعبيرية، ولكنه استبعد أن يكون علم الأسلوبية قاصراً على دراسة اللغة الأدبية أو ذات الأغراض الإمتاعية والجمالية. وقد أوضح (بالي) أن دور الأسلوبية هو دراسة القيمة العاطفية للحدث اللغوي الذي يتكون منه نظام التغيير اللغوي، وهذا النظام قد يضم قيماً لا واعية غير خاضعة للوعي والإدراك، وأن التعبير عن الشعور الواحد قد يتخذ صوراً لغوية متعددة. ومثال ذلك التعبير عن الاستحان.. فنقول: أحسنت، أو أجدت، أو رائع، أو ما أجمل، أو أنت حسن أو أنت فنان .... وهكذا
كما أنه عندما نريد التعبير عن الأسف فنقول: آسف، أو عذراً، أو سامحني، أو عفواً، أرجو المعذرة ... وهكذا فهذه التعبيرات تسمي ( متغيرات Variables) حيث تعبر في مجملها عن نفس الفكرة والحدث والشعور، ومن بعد (شارل بالي Charles Bally) جاء آخرون مثل (جول ماروزو Jules Marouzeou) و ( مارسيل كراسو Marcel Gressot) من المدرسة اللغوية الفرنسية وقد ركز كلاهما على تطبيق المنهج الوصفي في الدراسات الأسلوبية، وقد عارضهما الألماني (ليوسبيتزر Leo Spitzer ) وحاول أن يؤطر لنظرية (الأسلوبية السيكولوجية) مطبقاً المنهج الإنطباعي والذاتية مؤكداً على فكرة أن الإبداع هو عبقرية فردية وأنه لا يمكن دراسة الأسلوب بعيداً عن دراسة علم النفس. وقد أوضح أن إشكالية الأسلوبية إنما تكمن في موضعية اللسانيات ونسبية الاستقراء وقلة المستخلصات، وركز على أن هذا النوع من الدراسات لا يجب أن يقتصر على اللغة المنطوقة فحسب.
ثم جاء من بعد هؤلاء ( رينييه ويلك Rene Wellek) و (أوستن وارين Austin Warren) ليربطا بين الأسلوبية ومناهج البحث المعاصرة ليلحق بهما ( رومان جاكبسون Roman Osipovich Jakobson) ليطبق النهج الوظيفي الذي استخدمه ( بالي) وأشار أن وظيفة اللغة هي النقل والتواصلن وأوضح أن عملية التواصل هذه تتألف من ستة مكونات هي: المرسل، المتلقي، القناة، الرسالة، المرجح، المصطلح ، كما اشار إلى أن وظائف اللغة الشعرية هي:
(الوظيفة التعبيرية او الانفعالية، والوظيفة الندائية او الايعازية، والوظيفة المرجعية، الوظيفة الشاعرية، والوظيفة بعد اللغوية) كما أن الأسلوبية إمتزجت بالنظريات اللسانية وخرج منها ما عرف بالنظرية الشعرية (Poetic Theory ) أو ما تعرف بالنظرية الإنشائية، و تهتم السيمياء بالبحث عن المهنى من خلال البنية والشكل والدلالة، ولا تركز إهتمامها على النص أو صاحبه وإنما كل إهتمامها منصب على توضيح كيفية خلق النص لتأثيره. لذا فإنها تعمد إلى تفكيك النص وإعادة تركيبه لتحديد النسق البنيوي له من خلال عمليات التحليل.
النظرية الدلالية:
استمرت الدراسات الأسلوبية في التطور وتداخلت مع الفنون الأدبية خاصة النقد الأدبي بل وتولد منها علوم أخرى مثل علم العلامات اللسانية SEMIOLOGY أو (السيميائية)، ظهر مصطلح (السيمياء) ضمن المؤلفات العربية القديمة مثل كتابات جابر بن حيان ، الذي استطاع أن يحول نظرته الفلسفية لعلوم الكيمياء في مضمون ما أسماه (السيمياء)، لذا فقد ارتبط مفهوم هذا العلم بالسحر في تلك الفترة، حيث عرفها البعض بأنها اسم لما هو غير حقيقي من السحر، بل وأشاروا إلى أنه علم تسخير الجنة .كذلك فقد جاء هذا المصطلح في كتابات بن سينا وابن خلدون الذي أفرد فصلا في مقدمته لعلم أسرار الحروف ويقول عنه : " المسمى بالسيمياء نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من غلاة المتصوفة ،فاستعمل استعمال في الخاص وظهر عند غلاة المتصوفة عند جنوحهم إلى كشف حجاب الحس ،وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر وتدوين الكتب والاصطلاحات ومزاعمهم في تنزيل الوجود عن الواحد ...فحدث بذلك علم أسرار الحروف وهو من تفاريع السيمياء لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله ،وتعدد ت فيه تآليف البوني وابن العربي ،ومن فروع السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة بارتباطات بين الكلمات حرفية يوهمون أنها أصل في المعرفة والحلاج، قد ألف الجاحظ بحثاً جاداً حول السيمياء"، ويعرف علم السيمياء أو السيميولوجي بأنه العلم الذي يدرس العلامة ومنظوماتها والخصائص التي تمتاز بها علاقة العلامة بمدلولاتها) وهذا هو ما يجعلها تتقاطع مع العديد من العلوم. لكن في عصرنا الحالي ظهر جدل كثير حول هذا المفهوم وذلك لتعدد الآراء والنظريات وبلغ الأمر حد أن العلماء يجدون صعوبة في تحديد هوية هذا النوع من المعرفة، وبالرغم من ذلك فقد وضعوا له بعض تعريفات لعل أكثرها شيوعاً هو أنها العلم الذي يهتم بدراسة أنظمة العلامات : اللغات ، وأنظمة والإشارات والتعليمات، وبالتالي فإن اللغة تندرج تحت مفهوم هذا العلم، لذا أوضح اللغوي السويسري (دي سوسير Ferdinand de Saussure) أنها العلم الذي يدرس حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية ونستطيع –إذن –أن نتصور علما يدرس حياة الرموز والدلالات المتداولة في الوسط المجتمعي ،وهذا العلم يشكل جزء من علم النفس العام .ونطلق عليه مصطلح علم الدلالة )السيميولوجيا) وهو علم يفيدنا موضوعه الجهة التي تقتنص بها الدلالات والمعاني .وما دام هذا العلم لم يوجد بعد فلا نستطيع أن نتنبأ بمصيره ،غير أننا نصرح بأن له الحق في الوجود . وقد تحدد موضوعه بصفة قبلية .وليس علم اللسان إلا جزء من هذا العلم العام وسيبين لنا هذا العلم ما هو مضمون الإشارات ،وأي قوانين تتحكم فيها .
اهتمت نظريات الترجمة التي انطلقت من علم الدلالة بتحليل العلاقة بين الكلمة والشيء المفهوم أي بين الدال والمدلول والدليل، وبالنسبة لعملية الترجمة فإن دور المترجم يتخطى البحث عن معان الكلمات المنفردة بل التعامل مع نص مكون من عدد من الكلمات في لغة المصدر ليتم نقل المعنى باستخدام كلمات أخرى بلغة الهدف، والمعنى لا يرتبط بعدد الكلمات، فدلالات الكلمات ومعانيها تتأثر بعوامل كثيرة مرتبطة بثقافة كل لغة
النظرية الوظيفية:
تقوم معظم نظريات الترجمة الحديثة على التعامل مع الترجمة ضمن نطاق علم اللغة أو علم الاتصال، فاللغويون يعتبرون الترجمة فرعاً من فروع علم اللغة التطبيقي، وبالتالي فإن التعامل مع الترجمة من هذا المنطلق يقودنا إلى تطبيق النظريات اللغوية المختلفة التي تتناول الظواهر اللغوية وتوصيفاتها... لكن معظم النظريات الشائعة والمطبقة في ميدان الترجمة تقوم على دراسة الترجمة انطلاقاً من مبحثين أساسيين هما نظرية الاتصال وعلم الدلالة، فجميع نظريات الترجمة تتفق في وصف الترجمة على أنها أحد أوجه الاتصال اللغوي، وهي بذلك تشتمل على المرسل والمتلقي والرسالة والسياق والوسط والمؤثرات الداخلية والخارجية فجميع هذه العوامل تؤثر في وتتأثر بعملية الاتصال، و و"الترجمات الوظائفية (Instrumental Translations). وفيها يركز المترجم على الوظيفة التواصلية بين صاحب النص في اللغة المصدر و المتلقي في اللغة الهدف، وهنا يكون الاهتمام منصباً على الوظيفة التي يؤديها النص لذلك يشيع هذا النوع من الترجمات في الوثائق الرسمية والقانونية
النظرية الغائية:
وضع هانس فيرمير (Hans J. Vermeer) النظرية الغائية(Skopos Theory)أو نظرية الهدف في الترجمة، وهي نظرية تمكن المترجمين من تنفيذ ترجمات وفقاً للغرض من النص الهدف، وتوضح هذه النظرية أن الغاية النهائية من الترجمة هي التي تحدد للمترجم الاستراتيجية التي سيقوم باتباعها في ترجمته، وينبغي على صاحب النص المطلوب ترجمته تحديد غايته من الترجمة حتى يمكن للمترجم تحديد الاستراتيجية المطلوبة، وفي حالة إذا لم يقم صاحب النص بتحديد تلك الغاية فإنه يتعين على المترجم أن يضع نفسه في موضع صاحب النص ويتخيل الغايات المحتملة ويفاضل بينها ثم يبدأ في تكوين استراتيجيته، وتميز النظرية الغائية أيضًا بين نوعين من الترجمات: "الترجمات الوثائقية" (Documentary Translation) حيث يركز المترجم على القيمة التواصلية للنص ورد فعل المتلقي ويراعي ثقافة النص وبنيته وعناصره اللغة فتعبر الترجمة تعبيراً دقيقاً عن محتوى النص الأصلي، ويشيع تطبيق ذلك عند معالجة النصوص الأدبية، أما النوع الثاني فهو "الترجمة الوظائفية" (Instrumental Translation) فيركز على الوظيفة التي يقوم بها النص الأصلي ويكثر تطبيقها مع النصوص القانونية والرسمية والإدارية
النظرية النصية:
تعتمد هذه النظرية على علم اللغة النصي متمثلة مناهج تحليل الخطاب والمنهج السيميائي، ولتطبيق المبادئ النظرية لهذه العلوم، على متعلم الترجمة أن يدرك مفاهيم البنيـــة والترابط والاتساق والالتحام النسيجي للنص، وقد ميز اللساني الفرنسي (إيملييه بينفنستييه Emile Benveniste) بين الجملة والنص، واعتبر أن تحليل النصوص لا يجري إلا في شكل ملفوظ أي ضمن وضعية اتصال خاصة. أما «هاليدي وحسن» فيعتبران تميز النص بالترابط والاتساق ولحمة النسيج اللغوي في مستوى استعمال الروابط بين الجمل ولكل نوع من النصوص معايير دراسة كالمعايير اللغوية الداخلية، وهي لفظية ودلالية ونحوية وأسلوبية. والمعايير الخارجية عن اللغة كالإيحاءات الشعورية. إن عملية تحليل النصوص تقود لا محالة إلى تفكيك الصعوبات اللغوية في مستوى الشكل والمضمون.
النظرية التكافئية:
يميز يوجين نايداEugene E. Nida في كتابه نحو علم للترجمة Toward a Science of Translation بين نوعين من التكافؤ: التكافؤ الشكلي الذي يقوم على نقل شكل النص الأصل نقلا آليا، والتكافؤ الديناميكي الذي يحول "النص الأصل" بحيث يحدث التأثير نفسه في "اللغة الهدف"، و"التكافؤ الدينامكي" مفهوم خاص بنايدا، وليس له معنى إلا عندما يتم ربطه بنظريته الخاصة بالترجمة. وبالمقابل، يمثل تكافؤ التأثير مفهوما أساسيا يتجاوز الخلاف بين أهل الهدف وأهل المصدر : ينبغي وضع تكافؤ التأثير في إطار أشمل، مبتدئين بانعكاساته لسانية الطابع.
النظرية التداولية:
تقوم النظرية التداولية في جوهرها على رفض ثنائية اللغة/ الكلام التي نادى بها دوسوسير F.de. Sussure القائلة بأن (اللغة) وحدها وليس (الكلام) هي الجديرة بالدراسة العلمية، فالنظرية التداولية، وتتناول العلاقات القائمة بين اللغة ومتداوليها وتدرس تحليل عمليات الكلام ووصف وظائف الأقوال اللغوية وخصائصها لدى التواصل اللغوي، وتهتم هذه النظرية بالتمييز بين ثلاثة أنواع من أفعال اللغة: فعل الإنجاز المتصل بقيمة اللفظ ذاته، و فعل التأثير بالقول الذي يستهدف غايات محددة، مصرح بها أو غير مصرح وينتج عن استخدام اللفظ الفعلي، و فعل القول الناتج عن تركيب الصوت أو العلامات الخطية لوحدات تركيبية مزودة بمعنى ما وملائمة للسياق.
النظرية التأويلية:
ترتبط نظرية التأويل بالترجمة الشفهية، ولم تظهر هذه النظرية إلا في نهاية سبعينيات القرن الماضي لتتخذ بعد ذلك ما عرف باسم (نظرية المعنى)، وأن الترجمة تعتمد على التقابل بين اللغات من خلال عناصر لغوية لا تتأثر بسياق النص مثل أسماء العلم، والأرقام، والمصطلحات التقنية، والبحث عن التعادل بين المدلولات اللغوية لأجزاء النص، واهتمت هذه النظرية بالبحث في العلاقات بين الفكر واللغة، وعلاقة المعنى بالعلامات اللغوية، ثم تطور تطبيق هذه النظرية ليشمل أيضاً الترجمة التحريرية، والنظرية التأويلية تتعامل مع المعنى المستخلص من النص ويمكن للمترجم أن يدركه وتناقش طرق تأويل النصوص، وتخلص هذه النظرية إلى أن مهمة المترجم هي نقل معنى النص وفق ما يدركه المترجم لا كما عناه المؤلف، حيث تدعو النظرية إلى تحرير المعنى من ألفاظه الأصلية الأصيلة وإيجاد معادلات جديدة، وتنظر النظرية التأويلية إلى اللغات بوصفها مجرد ناقل للمعنى .. ووفق النظرية التأويلية فإن عملية الترجمة تتم عبر ثلاث مراحل أساسية هي:
- الفهم: من خلال تأويل النص في اللغة الأصل لإدراك المعنى المراد تبليغه في اللغة الهدف.
- الانسلاخ اللغوي: من خلال تحرير المعنى من البنيات اللغوية للنص الأصلي حتى لا تتداخل مع بنيويات اللغة الهدف.
- إعادة التعبير: وتهدف إلى إعادة صياغة نفس المعنى المعبر عنه بلغة الأصل مع التركيز على خصوصيات اللغة الهدف.
وتصنف هذه النظرية سياقات النص إلى ثلاثة أنواع:
- السياق اللغوي: ويهتم بدلالة الكلمة أو الجملة وعلاقة دلالات الكلمات والجمل المحيطة
- السياق المعرفي: ويهتم بالأفكار التي تصل إلى ذهن المتلقي أثناء عملية قراءة النص
- السياق غير اللغوي: يهتم بالعناصر غير اللغوية المصاحبة لعملية انتاج النص (بيئة انتاج النص).
وتضع هذه النظرية محددات للفقد الذي يتم أثناء عملية الترجمة على المستويات المختلفة كالمستوى الدلالي و التركيبي و الأسلوبي والثقافي والجمالي.
هناك نظريات أخرى مزجت بين النظريات السابقة أو نبعت منها، ومن بين نظريات الترجمة ما يرى أن وجود المترجم ضمن النص المترجم يتحدد وفق عوامل ثلاث هي: موقفه الترجمي، أي الطريقة التي يتصور بها النشاط الترجمي، ومشروعه الترجمي الذي يحدد الطريقة التي يترجم بها، وسعة أفق المترجم وانفتاح عقله، ومن نظريات الترجمة أيضاً ما أكد على انعدام حدوث التطابق بين النص المصدر والنص الهدف وذلك على المستوى اللغوي والدلالي.
منقول للفائدة
النظرية هي نوع من التفسير لشرح كيفية حدوث ظاهرة طبيعية بشرط تحقق حدوث هذه الظاهرة وعدم وجود نزاع في حدوثها، فالنظرية تشرح آلية حدوث الظواهر وتكون بشكل عام عرضة للصواب والخطأ،ويدعم التماسك المنطقي والرياضي والتجربة النظرية، ويتزايد التأكد من صحة النظرية عندما تقدم تنبؤات بشأن ظواهر غير مثبتة ثم يثبت صحتها بعد ذلك، وبشكل عام يقصد بكلمة نظرية ( رأي ) أو (فرضية ) في هذا المجال لا يتوجب أن تكون النظرية مبنية على حقائق، أما الاستخدام العلمي فيشير إلى أن النظرية هي نموذج مقترح لشرح ظاهرة أو ظواهر معينة بإمكانها التنبؤ بأحداث مستقبلية ويمكن نقدها، وهناك عدد من التعريفات التي تناولت مصطلح ( النظرية) مشيرة إلى أنها فرض أو مجموعة فروض مرت بمرحلة التحقيق عن طريق التجريب ويمكن تطبيقها على عدد من الظواهر المتصلة. ولها القدرة على وصف و تفسير الأحداث والتنبؤ بها واستبصار المعرفة الجديدة المحتملة، ومن بين تعريفات النظرية أنها:
مجموعة من الفروض التي يمكن أن يشتق منها باستخدام المنطق الرياضي مجموعة من القوانين التطبيقية.
مجموعة من المعتقدات التي يقبلها الفرد كموجهات في طريقة حياته.
مجموعة من الفروض التي يمكن منها التوصل إلى مبادئ تفسير طبيعة الإدارة.
مجموعة من الفروض التي يمكن أن يستخلص منها قوانين ومبادئ تجريبية قابلة للاختيار.
تأتي أهمية النظرية من أنه يمكننا قراءتها وفهمها وتحليلها ونقدها وقبولها أو رفضها وتطويرها ولأنها تمثل أحد الوسائل المعرفية، وهي أساس الانطلاق عند القيام بعمليات التفسير والتحليل والنقد.
نظريات الترجمة قديما.. شيشرو والجاحظ
لقد تركزت نظريات الترجمة منذ عهد شيشرو Cicero حتى بدايات القرن العشرين حول التساؤل عن الترجمة الحرفية (كلمة بكلمة)Word for Word أو حرة (معنى بمعنى)Sense for Sense واسهم في طرح هذه الآراء الاهتمام بترجمة نصوص الكتاب المقدس والمؤلفات الدينية، ومع مطلع الخمسينات وبداية ظهور العلوم اللسانية ظهرت نظريات جديدة وطرحت مفاهيم ومصطلحات مثل مفهومي المعنى و التكافؤ Meaning & Equivalence و الأثر المكافئ equivalent effect و التكافؤ الشكلي و التكافؤ الديناميكي Formal Equivalence and Dynamic Equivalence. ثم أتبع ذلك نظريات الترجمة الوظيفية و التواصلية التي اهتمت بوظيفة اللغة و نوع النص و الجنس ورافق هذه النظريات مفاهيم ومصطلحات جديدة مثل اللسانيات الوظيفية النظمية Systemic functional linguistics لتتطور هذه النظريات حتى تصل إلى نظريات توطين الترجمة domesticating و تغريب الترجمة foreignising ونظريات الترجمة الفلسفية الهرمنيوطيقية، و قبل الحديث عن النظريات التي تناولت الترجمة وفسرتها علينا أن نتذكر المقصود بالنظرية ومفهومها:
بينما نجد أن التنظير للترجمة قد جاء في مرحلة متأخرة من القرن العشرين إلا أن الحقيقة تثبت أن العرب كان لهم السبق حتى في هذا المجال وكانوا أول من وضع أطراً نظرية للترجمة، ولعل خير مثال على ذلك هو ما أسهم به الجاحظ والذي من خلال إسهاماته تلك يمكننا أن نشير إلى قدم علم الترجمة ونظرياته إلا أن اكتشاف هذه النظريات لم يتم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتتحدد نظرية الترجمة عند الجاحظ فيما أورده بقوله:
"وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر.....وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم ، التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم، وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها، فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر، من البُنيان والشعر.ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ، على خصائِص معانيه، وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته، وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها، ويؤدِّيَ الأمانة فيها، ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ، وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصدقها، إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها، واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها، وتأويلاتِ مخارجِها ، ومثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه، فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق، وابن ناعمة، وابن قُرَّة، وابن فِهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفَّع، مثلَ أرِسطاطاليس? ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون؟، ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة، في وزْن علمه في نفسِ المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية، ومتى وجدناه أيضاً قد تكلّم بلسانين، علمنا أنَّه قد أدخلَ الضيمَ عليهما، لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها، وتعترضُ عليها، وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوَّةٌ واحدة، فَإنْ تكلّمَ بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات، وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجِم، وأجدرَ أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء. هذا قولُنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دينٍ وإخبار عن اللّه عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه ممَّا لا يجوز عليه، حتىَّ يريد أنْ يتكلَّم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد، ويتكلَّمَ في وجِوه الإخبار واحتمالاته للوُجوه، ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على اللّه تعالى، ممَّا لا يجوز، وبما يجوزُ على الناس مما لا يجوز، وحتَّى يعلمَ مستقرَّ العامِّ والخاصّ، والمقابلاتِ التي تَلقَى الأخبارَ العامِّيةَ المخرَج فيجعلَها خاصيَّة، وحتى يعرفَ من الخبر ما يخصُّه الخبر الذي هو أثر، ممََّا يخصُّه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصُّه العقل مما تخصُّه العادة أو الحال الرادَّةُ له عن العموم، وحتَّى يعرفَ ما يكونُ من الخبر صِدقاً أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمَّى بصدقٍ ولا كذب؛ وحتَّى يعرفَ اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أيِّ معنًى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المُحالِ من الصحيح، وأيّ شيءٍ تأويلُ المحال؛ وهل يسمَّى المحال كذباً أم لا يجوز ذلك، وأيّ القولين أفحشُ: المُحال أم الكذب، وفي أيِّ موضع يكون المحالُ أفْظَع، والكذب أشنع؛ وحتَّى يعرف المثلَ والبديع، والوحي والكناية، وفصْل ما بين الخطَلِ والهَذْر، والمقصورِ والمبسوط والاختصار، وحتَّى يعرف أبنيةَ الكلام، وعاداتِ القوم، وأسبابَ تفاهمهِم، والذي ذكرنا قليلٌ من كثير، ومتى لم يعرفْ ذلك المترجم أخطأَ في تأويل كلامِ الدين، والخطأُ في الدين أضرُّ من الخطأَ في الرياضة والصناعة، والفلسفةِ والكَيْمِياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم....وإذا كان المترجِم الذي قد تَرجَم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدْرِ نقصانه من الكمال، وما عِلْمُ المترجِم بالدليل عن شبه الدليل? وما علْمه بالأخبار النجوميّة? وما علمه بالحدود الخفيّة? وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب? وما علمُه ببعض الخطرفة لبعض المقدَّمات؟ وقد علمنا أنَّ المقدَّمات لا بدَّ أنْ تكون اضطراريّة، ولا بدَّ أن تكون مرتَّبةً، وكالخيط الممدود، وابنُ البِطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفاً منزَّلاً، ومرتَّباً مفصَّلاً، من معلِّمٍ رفيقٍ، ومن حاذقٍ طَبٍّ فكيف بكتابٍ قد تداولتْه اللغاتُ واختلافُ الأقلام، وأجناسُ خطوطِ المِلل والأمم?! ولو كان الحاذقُ بلسان اليونانيِّين يرمي إلى الحاذق بلسان العربيّة، ثم كان العربيُّ مقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ، لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يَجِد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربيّة بُدّاً من الاغتفار والتجاوز، ثمّ يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين، وذلك أن نسختَه لا يَعدَمها الخطأ، ثمَّ ينسخُ له من تلك النسخة مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثمّ لا ينقص منه؛ ثم يعارِض بذلك مَن يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي لا يجدُه في نسخته".
ومن خلال ما أورده الجاحظ يمكننا أن نلخص نظريته في النقاط التالية:
الشعر غير قابل للترجمة حتى لا يتأثر نظمه وحسنه.
يمكن ترجمة النثر بأنواعه دون ضمان لجودة الترجمة.
الترجمة من لغة غير لغة النص الأصلي يؤثر على المعنى وجودة الترجمة
لا يمكن للمترجم أن يعبر عن محتوى النص بصورة تامة التطابق مع ما قصده صاحب النص إلا إذا كان دارساً للعلم الذي يتضمنه النص
على المترجم أن يعرف مصطلحات وصيغ الكتابة في العلم الذي يترجم.
ينبغي أن يكون المترجم أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها.
تنتج أخطاء الترجمة نتيجة لعدم المعرفة الكافية بعلم أو مجال النص.
على من يترجم الكتب الدينية أن يكون من أهل الدين الذي يترجم فيه ولديه فقه به وعلم بألفاظ علوم هذا الدين ومتقن لاستخدام الكلمات ومدركاً لمعانيها والفارق بينها
اللسانيات ونظريات الترجمة:
إن الترجمة ظاهرة فريدة ومعقدة، وهذا ما دفع الكثير من الباحثين والمنظرين إلى تناولها وفق أسس العلوم المختلفة وتبعاً للمناهج المختلفة، وقد مرت عملية التنظير للترجمة بمراحل ثلاث رئيسية هي:
مرحلة ما قبل اللسانيات: ويشار بها إلى النظريات التي ظهرت قبل القرن العشرين وكانت هذه النظريات تطرح نظريات فلسفية تتناول تجارب المترجمين بهدف التعريف بالترجمة وفتح آفاق لدراستها. تمتد من ظهور علم اللسانيات حتى بدايات السبعينات من القرن الماضي وتمتاز هذه المرحلة بالتناول العلمي التحليلي للترجمة بوصفها ظاهرة يمكن تناولها بصورة علمية وفق علم اللسانيات وأسسه.
مرحلة اللسانيات: والتي ظهرت مع مطلع القرن العشرين وامتدت حتى الستينات منه متضمنة نظريات تقوم على التحليل العلمي لظاهرة الترجمة وفق قواعد اللسانيات، وفي هذه المرحلة تركز تناول الترجمة على أسس لغوية وفلسفية وشهدت اجتهادات استنتاجية أوردها المترجمون أنفسهم نتيجة لخبراتهم وتعاملهم مع النصوص التي ترجموها وتمتد هذه الفترة من بدايات طرح قضية الترجمة وحتى بدايات القرن العشرين وظهور الأسس المؤطرة لعلم اللسانيات
مرحلة ما بعد اللسانيات: والتي تبدا من سبعينات القرن العشرين حتى وقتنا هذا وقد ظهرت خلالها نظريات تمزج بين النظريات السابقة وتطرح نظريات للعلاقة بين الترجمة واللسانيات، وهي المرحلة التي تلت مرحلة اللسانيات مباشرة في سبعينات القرن العشرين وظهرت خلالها اجتهادات وطروحات حاولت أن تمزج أو تقارب أو تقارن بين التوجهات المختلفة التي شهدتها المرحلتين السابقتين وظهرت نظريات جديدة لتأطير ظاهرة الترجمة من بينها النظرية النصية ونظرية التواصل والنظرية التقاربية.
ساهمت اللسانيات في مساهمات هامة في صياغة نظريات الترجمة، يعود الفضل إلى اللسانيات في ظهور التعريفات الأولى الموضحة لعمليات الترجمة بينما لم تتجه أي علوم أو درسات سابقة لعلم اللسانيات لتناول موضوع الترجمة وقضاياها وكان المطروح بعض نصائح وتوجيهات مثل شيشرون Cicéron الذي نصح بالاهتمام بترجمة المعنى وليس الكلمات أو درايدن Dryden الذي تحدث عن الترجمة الأنيقة القائمة على أن لا يقوم المترجم بترجمة الكلمة بكلمة، وقد أشار رومان ياكوبسونRoman Jakobson : " أن التكافؤ في الاختلاف هو المسألة الأساسية في اللغة وموضوع اللسانيات الوحيد" فأصبحت الترجمة مجالا يتعلق باللسانيات العامة. ثم أصدر كاتفورد Catford كتابه نظرية لسانية في الترجمة A Linguistic Theory of Translation موضحاً أن الترجمة مسألة تتعلق باللغة، واللسانيات تدرس اللغة، وبالتالي فإن الترجمة موضوع من موضوعات اللسانيات.
وتبعاً لذلك وضع مؤلفه تحت عنوان: دراسة في اللسانيات التطبيقية An Essay in Applied Linguistics عام 1964، وتم التعامل مع الترجمة بوصفها علم يخضع لقواعد علوم اللسانيات، بينما كان التعامل مع الترجمة لا يزال في طور التنظير حتى أعوام قليلة قبل أن يطرح كاتفورد ونيدا مؤلفيهما عام 1964، لكن خضوع الترجمة المطلق لعلم اللسانيات لم يلق الترحيب بين المنخرطين في دراسات الترجمة وتطبيقاتها، فأصدر ادمون كيري Edmond Caryكتابه (كيف ينبغي أن نترجم؟) عام 1958 موضحاً أن" الترجمة الأدبية ليست عملية لسانية. إنها عملية أدبية". وأيده في ذلك فيني وداربلنت J.-P. Vinay et J. Darbelnet في كتابهما الأسلوبية المقارنة للفرنسية والإنجليزية حيث أوردا "أننا غالبا ما نقرأ لمترجمين مجربين أن الترجمة فن. إن هذه العبارة التي تنطوي على جزء من الحقيقة، تهدف مع ذلك إلى تحديد طبيعة موضوعنا تحديدا تعسفيا. فالترجمة في الواقع نسق دقيق، له تقنياته ومشكلاته الخاصة"، ويؤكد جورج شتاينرGeorges Steiner في كتابه (بعد بابل Après Babel) عام 1975، أن الترجمة (لاسيما ترجمة النصوص الأدبية) لا تختزل إلى البعد اللساني فقط.
كما أن هناك من حاول أن يمزج بين النظريات المتعددة التي وصفت الترجمة مثل جورج مونان Georges Mouninحيث تحدث في كتابه (المشكلات النظرية في الترجمة) 1963 موضحاً أن" الترجمة تبقى فنا كالطب. ولكنه فن يقوم على علم"، ويرجع تاريخ أول المصنفات التجريبية إلى عام 1944 حيث وضع ألفرد مالبلان Alfred Malblanc كتابه (الأسلوبية المقارنة للفرنسية والألمانية)، ويفترض لهنري ميشونيك Henri Meschonnic في كتابه (من أجل الشعرية) بوجود شعرية للترجم وأشار إلى أن: " نظرية الترجمة ليست إذاً لسانيات تطبيقية. إنها حقل جديد في نظرية الأدب وممارسته. وتقوم أهميتها المعرفية على مساهمتها في ممارسة نظرية للاتحاد بين دال ومدلول خاص بالممارسة الاجتماعية التي تمثلها الكتابة". لقد تناول هنري ميشونيك التمييز بين "أهل المصدر" و"أهل الهدف " لنكر أي تمييز بين اللغة المصدر واللغة الهدف واشار إلى أن: " الترجمة لا تعرَّف بأنها انتقال من نص الانطلاق إلى أدب الهدف أو بالعكس انتقال قارئ الهدف إلى نص الانطلاق وإنما بأنها عمل في اللغة، وإزاحة، وقد أدت الطروحات الكلاسيكية التي تناولت قضية الترجمة وطرحت أطر نظرية بشئنها إلى إثارة ثنائيات تقليدية مثل: المصدر والهدف، و الحرفية والجوهر، والشكل والمضمون، والأسلوب والمعنى، والأصل والترجمة، والمؤلف والمترجم.
النظريات الحديثة للترجمة:
تنطلق نظريات الترجمة من تصنيف اللغات التي تتم بها الترجمة إلى صنفين أساسيين هما: لغة المصدر (SL) (ٍSource Language) وهي اللغة التي يتم النقل منها إلى اللغة الأخرى والتي يطلق عليها لغة الهدف (TL) (Target Language) وفي بعض الأحيان تستبدل كلمة اللغة بكلمة النص فيصبح لدينا النص الأصلي الهدف (ST) (Source Text) و النص الهدف (TT) (Target Text) ... ورغم بداهة هذا التقسيم إلا أنه لم ينجو من أن يكون موضع خلاف بين الباحثين في نظريات الترجمة، ففي عام 1818 ميز فريدريك شلاير ماشر Friedrich Schleiermacher بين المنهجيتين التاليتين: " إما أن يدع المترجم الكاتب وشأنه ما أمكن ويجعل القارئ يتوجه للقائه، وإما أن يدع القارئ وشأنه ما أمكن ويجعله يتوجه للقائه" وعلى أساس ذلك يتحدد وصف اللغة إذا كانت لغة مصدر أو هدف، ثم اقترح ويلهلم فون هامبولت Wilhelem von Humboldt التمييز الرئيس التالي:"طالما أننا لا نشعر بالغرابة وإنما بالغريب، فإن الترجمة قد حققت هدفها السامي، ولكن حيثما تظهر الغرابة لذاتها، لا بل وتبهم حتى الغريب، فإن المترجم يوحي بأنه ليس على مستوى النص الأصل". إن ما بين أيادينا الآن من نظريات إنما تتم صياغتها وفق الأسس اللسانية أو المحتوى المعرفي وظهرت مناهج عديدة تناولت الفوارق والمقاربات بين هذين الجانبين ومن ذلك المنهج اللغوي، والعلمي والنصي والثقافي والنفسي والنقدي، ورغم اختلافات المنظرين الذين تناولوا نظرية الترجمة وفق رؤاهم وآرائهم إلا أن هناك ثمة اتفاق على أن أي نظرية للترجمة تتناول طرق تغير النص الأصلي وما يتضمنه من خصائص دلالية واسلوبية، وتحديد الهدف من الترجمة ووسائل الإفهام المحققة لحدوث التواصل وأن هذه التساؤلات تتم في إطار كلي للعبارة وليس اللفظ المفرد.
النظرية اللغوية:
"النص الذي يترجم يتكون من الكلمات, وأن هذه الكلمات هي المادة الموضوعية الوحيدة التي تتوفر بين يدي المترجم الذي يقوم عمله على ترجمة هذه الكلمات "، وترى النظرية اللغوية أن النص وحدة ذات بعد واحد يتكون من مجموعة كلمات وفق تراكيب معينة فتتكون الجمل". لقد أوضح فيدروف أن عملية الترجمة عملية لغوية في أساسها وأن تنظير الترجمة لابد وأن يتم وفق أسس علم اللسانيات، ودعا كل من فيني وداربلنيه إلى إدراج الترجمة في ضمن مواضيع علم اللسانيات, واقترحا سبع طرق للترجمة وهي الاقتراض ، والنسخ, والترجمة الحرفية, والتحوير, والتكييف, والتعادل, والملاءمة أو التصرف وبنيا نظرياتهما على التعامل في مستوى ما بعد الترجمة، في حين أن مونان يري أن "الترجمة احتكاك بين اللغات ولكنها حالة قصوى من الاحتكاك يقاوم فيها المتكلم ثنائي اللغة كل انحراف عن المعيار اللغوي, وكل تداخل بين اللغتين اللتين يتناوبهما", وأوصى بأن تتم دراسة قضايا الترجمة وفق علوم اللسانيات المعاصرة
أما كاتفورد فإنه يضع الترجمة في مستويين هما: المستوى اللغوي والمستوى التعبيري مشيراً إلى أن المستوى اللغوي يتناول المعنى في جميع مكونات النص وهذا يشمل الصوت والحرف والكلمة والجملة عبارة، وخلص إلى أن الترجمة تقع بين حدين اساسيين أدناهما ما يتعلق بالسمة وأعلاهما المعنى، وتحدث عن مفهومي التكافؤ والتناظر اللازمين لبلوغ أعلى درجات كمال الترجمة. يقول كاتفورد: " إنه من الضروري لنظرية الترجمة أن تستند إلى نظرية في المعنى. ومن دون نظرية كهذه تظل عدة مظاهر محددة وهامة في عملية الترجمة غير قابلة للمناقشة". لقد دافع بيتر نيومارك Peter Newmark عن النظرية اللغوية في كتابه: (كتاب في الترجمة A Textbook of Translation , ) موضحاً :"إننا نترجم الكلمات لأن ليس هناك شيئ آخر نترجمه, لا يوجد على الصفحات سوى الكلمات, فقط لاغير")، واقترح بعض معايير تحليل النص مثل نية النص , ونية المترجم, ونية القارئ وجو النص, وأسلوب الكتابة، ليقترح طريقتين أساسيتين للترجمة هما: الترجمة الدلالية مشيراً إلى أن دور المترجم هو إعادة تقديم المعنى الذي تضمنه السياق وفق حدود النحو والدلالة للغة الهدف ، الترجمة الاتصالية دور المترجم هو إحداث تأثير لدى المتلقي بلغة الهدف يماثل التأثير الحادث للمتلقي في لغة المصدر
تقوم النظرية اللغوية للترجمة على فرضية أن النص المترجم يتكون من كلمات وأنها الكلمة هي المادة الموضوعية المتاحة للمترجم، وأن المترجم يتعامل مع اللغة وفق علوم اللسانيات.وأصحاب النظرية اللغوية للترجمة يرون أن الترجمة عملية لغوية، لذا فلابد من ضمها إلى علوم اللسانيات، وقد رأى بعضهم أنه يمكن إضفاء نوع من الاستقلالية على الترجمة بأن اشاروا إلى أنها فن مستقل مبني على علم هو علم اللسانيات، وهناك من أشار إلى أن الترجمة ترتبط بنظرية المعنى وأن هناك مستويين من الترجمة يقوم الأول على إيجاد المكافئ اللغوي المناظر للوحدة اللغوية في نص اللغة المصدر، أما الثاني فيقوم على المعنى الذي سعى صاحب النص إلى توصيله من خلال المستوى اللغوي الذي استخدمه. كذلك فقد أوضح أتباع النظرية اللغوية ضرورة إيجاد النص المكافئ وليس النص المطابق إذا أنه لا مجال إلى تطابق تام بين اللغات المختلفة، وتسعى النظريات اللغوية حول الترجمة إلى الربط بين اللغة والفكرة والمعنى والخلفيات الثقافية، وأشارت هذه النظريات إلى أن دور المترجم هو محاولة إحداث تأثير لدى المتلقي بلغة الهدف يطابق نفس التأثير الذي أحدثه النص لدى متلقيه بلغة الأصل، وأن يسعى وفق قواعد وحدود اللغة الهدف إلى تقديم نفس المعنى المقصود في اللغة المصدر.
النظرية التفسيرية:
ترى هذه النظرية أن الترجمة مرحلة من مراحل التواصل بين مؤلف النص في اللغة المصدر والمتلقي باللغة الهدف، وأن الترجمة ذاتها تتألف من ثلاث عناصر فهم المعنى، تحديد اللفظ، وإعادة التعبير، ورأى أتباع هذه النظرية أن المترجم يقوم أولاً بتفسير كلمات النص في لغة المصدر ليفهم معانيها ودلالاتها ثم يقوم بإعادة صياغة ما فهمه من النص الأصلي وينقله إلى اللغة الهدف شريطة أن يحدث نفس التأثير لدى المتلقي، لذا فإن المعنى هو جوهر عملية الترجمة وأن النص عبارة عن وحدة ذات أبعاد ثلاثية هي البعد اللغوي والبعد الفكري والبعد التأثيري، لذا فإن الترجمة لا تسعى إلى المطابقة التركيبية وإنما إلى المطابقة التأثيرية، وأنه نظراً لانعدام المطابقة اللغوية والثقافية فإن عمل المترجم يتطلب نوعاً من التكييف الثقافي في اللغة الهدف بما يكفل إحداث نفس الأثر الذي أحدثه النص في اللغة المصدر.
يرى الكثيرون الترجمة واحدة من صور التفسير وإن كانت بلغة غير لغة النص المفَسَر، ولنبدأ ببيان ما أوردته معاجم اللغة في معنى كلمتي "تفسير" و "فسر"، فقد ورد بلسان العرب أن الفَسْرُ: البيان. فَسَر الشيءَ يفسِرُه، بالكَسر، وتَفْسُرُه، بالضم، فَسْراً وفَسَّرَهُ: أَبانه، والتَّفْسيرُ مثله ابن الأَعرابي: التَّفْسيرُ والتأْويل والمعنى واحد، وقوله عز وجل: وأَحْسَنَ تَفْسيراً؛ الفَسْرُ: كشف المُغَطّى، والتَّفْسير كَشف المُراد عن اللفظ المُشْكل، والتأْويل: ردّ أَحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر، واسْتَفْسَرْتُه كذا أَي سأَلته أَن يُفَسِّره لي. أما الصحاح فقد أورد: الفَسْرُ: البيانُ، وقد فَسَرْتُ الشيءَ أفْسِرُهُ فَسْراً، والتَفْسير مثله، واسْتَفْسَرْتُهُ كذا، أي سألته أن يُفَسِّرَهُ لي، فالتفسـير لُغَـةً: هو البَيَانُ والكَشْفُ. فَسَّرَ الشيء إذا وَضَّحَـه وبَيَّنَه، فيقال فسرت اللفظ فسرا من باب ضرب ونصر، وفسرته تفسيرا شدد للكثرة إذا كشفت مغلقه.
ووفقاً للنظرية التفسيرية فإن الترجمة عبارة عن سلسلة متصلة من حلقات التواصل تنشيء نوعا من العلاقة بين المؤلف الأصلي باللغة المصدر والمتلقي باللغة الهدف، و أوضحت ماريان لوديرير Marianne Lederer: " أن الترجمة التفسيرية تتم عبر ثلاثة مراحل تسلسل بصورة اتفاقية وقد تتداخل أو تتابع فيما بينها وهذا يتم عبر فهم المعنى وتجريد اللفظ وإعادة التعبير موضحة أن التجريد هنا يشبه الترجمة الحرفية كلمة بكلمة، و ترى النظرية التفسيرية أن النص وحدة مفتوحة ذات أبعاد ثلاثة: البعد الأفقي متمثلاً في النظرية اللغوية, والبعد العمودي المتمثل في الأسلوب والترابط والبعد العرضي المتمثل في نوع النص وعلاقة النص بنصوص أخرى، و ذكر ديبوغراند ودريسلر (De Beaugrande and Dressler) بعض الخصائص التي تتعلق بالنص وأثارا قضية التناص Intertextuality حيث عرفاه بأنه: الظاهر النصية التي يعتمد فيها فهم النص وإدراك معناه على فهم المتلقي لبعض النصوص الأخرى.
النظرية الأسلوبية:
جاء ظهور هذا المصطلح مع بدايات القرن العشرين بعد مجئ العالم اللغوي السويسري (دي سوسير Ferdinand de Saussure) مؤسس المدرسة البنيوية وقد وضع أسساً لعلم الأسلوبية وفق العلاقة بين اللغة والكلام، وركز على المنظور الإجتماعي للغة مشيراً إلى أنها نظام إجتماعي يضم علاقات وروابط متعددة، وفاصلاً العلاقة بين صوت اللفظ ومعناه مشيراً إلى أن المعنى يتكون في الذهن، وقام تلميذه (شارل بالي Charles Bally) وهو أيضاً لغوي سويسري درس اللغتين اليونانية والسنكريتية وتعمق في دراسات النحو المقارن واللسانيات العامة وقد قام بالتعاون مع أحد زملائه بجمع محاضرات أستاذه في كتاب تحت عنوان منهج في اللسانيات العامة» ثم أضاف إليه ملاحظاته. وقام بنشر كتب أسماه ( في الأسلوبية) عام 1902 متضمناً أفكاره حول الأسلوبية والتي ربطها بالنظريات الفلسفية الوجودية والتعبيرية، ولكنه استبعد أن يكون علم الأسلوبية قاصراً على دراسة اللغة الأدبية أو ذات الأغراض الإمتاعية والجمالية. وقد أوضح (بالي) أن دور الأسلوبية هو دراسة القيمة العاطفية للحدث اللغوي الذي يتكون منه نظام التغيير اللغوي، وهذا النظام قد يضم قيماً لا واعية غير خاضعة للوعي والإدراك، وأن التعبير عن الشعور الواحد قد يتخذ صوراً لغوية متعددة. ومثال ذلك التعبير عن الاستحان.. فنقول: أحسنت، أو أجدت، أو رائع، أو ما أجمل، أو أنت حسن أو أنت فنان .... وهكذا
كما أنه عندما نريد التعبير عن الأسف فنقول: آسف، أو عذراً، أو سامحني، أو عفواً، أرجو المعذرة ... وهكذا فهذه التعبيرات تسمي ( متغيرات Variables) حيث تعبر في مجملها عن نفس الفكرة والحدث والشعور، ومن بعد (شارل بالي Charles Bally) جاء آخرون مثل (جول ماروزو Jules Marouzeou) و ( مارسيل كراسو Marcel Gressot) من المدرسة اللغوية الفرنسية وقد ركز كلاهما على تطبيق المنهج الوصفي في الدراسات الأسلوبية، وقد عارضهما الألماني (ليوسبيتزر Leo Spitzer ) وحاول أن يؤطر لنظرية (الأسلوبية السيكولوجية) مطبقاً المنهج الإنطباعي والذاتية مؤكداً على فكرة أن الإبداع هو عبقرية فردية وأنه لا يمكن دراسة الأسلوب بعيداً عن دراسة علم النفس. وقد أوضح أن إشكالية الأسلوبية إنما تكمن في موضعية اللسانيات ونسبية الاستقراء وقلة المستخلصات، وركز على أن هذا النوع من الدراسات لا يجب أن يقتصر على اللغة المنطوقة فحسب.
ثم جاء من بعد هؤلاء ( رينييه ويلك Rene Wellek) و (أوستن وارين Austin Warren) ليربطا بين الأسلوبية ومناهج البحث المعاصرة ليلحق بهما ( رومان جاكبسون Roman Osipovich Jakobson) ليطبق النهج الوظيفي الذي استخدمه ( بالي) وأشار أن وظيفة اللغة هي النقل والتواصلن وأوضح أن عملية التواصل هذه تتألف من ستة مكونات هي: المرسل، المتلقي، القناة، الرسالة، المرجح، المصطلح ، كما اشار إلى أن وظائف اللغة الشعرية هي:
(الوظيفة التعبيرية او الانفعالية، والوظيفة الندائية او الايعازية، والوظيفة المرجعية، الوظيفة الشاعرية، والوظيفة بعد اللغوية) كما أن الأسلوبية إمتزجت بالنظريات اللسانية وخرج منها ما عرف بالنظرية الشعرية (Poetic Theory ) أو ما تعرف بالنظرية الإنشائية، و تهتم السيمياء بالبحث عن المهنى من خلال البنية والشكل والدلالة، ولا تركز إهتمامها على النص أو صاحبه وإنما كل إهتمامها منصب على توضيح كيفية خلق النص لتأثيره. لذا فإنها تعمد إلى تفكيك النص وإعادة تركيبه لتحديد النسق البنيوي له من خلال عمليات التحليل.
النظرية الدلالية:
استمرت الدراسات الأسلوبية في التطور وتداخلت مع الفنون الأدبية خاصة النقد الأدبي بل وتولد منها علوم أخرى مثل علم العلامات اللسانية SEMIOLOGY أو (السيميائية)، ظهر مصطلح (السيمياء) ضمن المؤلفات العربية القديمة مثل كتابات جابر بن حيان ، الذي استطاع أن يحول نظرته الفلسفية لعلوم الكيمياء في مضمون ما أسماه (السيمياء)، لذا فقد ارتبط مفهوم هذا العلم بالسحر في تلك الفترة، حيث عرفها البعض بأنها اسم لما هو غير حقيقي من السحر، بل وأشاروا إلى أنه علم تسخير الجنة .كذلك فقد جاء هذا المصطلح في كتابات بن سينا وابن خلدون الذي أفرد فصلا في مقدمته لعلم أسرار الحروف ويقول عنه : " المسمى بالسيمياء نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من غلاة المتصوفة ،فاستعمل استعمال في الخاص وظهر عند غلاة المتصوفة عند جنوحهم إلى كشف حجاب الحس ،وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر وتدوين الكتب والاصطلاحات ومزاعمهم في تنزيل الوجود عن الواحد ...فحدث بذلك علم أسرار الحروف وهو من تفاريع السيمياء لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله ،وتعدد ت فيه تآليف البوني وابن العربي ،ومن فروع السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة بارتباطات بين الكلمات حرفية يوهمون أنها أصل في المعرفة والحلاج، قد ألف الجاحظ بحثاً جاداً حول السيمياء"، ويعرف علم السيمياء أو السيميولوجي بأنه العلم الذي يدرس العلامة ومنظوماتها والخصائص التي تمتاز بها علاقة العلامة بمدلولاتها) وهذا هو ما يجعلها تتقاطع مع العديد من العلوم. لكن في عصرنا الحالي ظهر جدل كثير حول هذا المفهوم وذلك لتعدد الآراء والنظريات وبلغ الأمر حد أن العلماء يجدون صعوبة في تحديد هوية هذا النوع من المعرفة، وبالرغم من ذلك فقد وضعوا له بعض تعريفات لعل أكثرها شيوعاً هو أنها العلم الذي يهتم بدراسة أنظمة العلامات : اللغات ، وأنظمة والإشارات والتعليمات، وبالتالي فإن اللغة تندرج تحت مفهوم هذا العلم، لذا أوضح اللغوي السويسري (دي سوسير Ferdinand de Saussure) أنها العلم الذي يدرس حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية ونستطيع –إذن –أن نتصور علما يدرس حياة الرموز والدلالات المتداولة في الوسط المجتمعي ،وهذا العلم يشكل جزء من علم النفس العام .ونطلق عليه مصطلح علم الدلالة )السيميولوجيا) وهو علم يفيدنا موضوعه الجهة التي تقتنص بها الدلالات والمعاني .وما دام هذا العلم لم يوجد بعد فلا نستطيع أن نتنبأ بمصيره ،غير أننا نصرح بأن له الحق في الوجود . وقد تحدد موضوعه بصفة قبلية .وليس علم اللسان إلا جزء من هذا العلم العام وسيبين لنا هذا العلم ما هو مضمون الإشارات ،وأي قوانين تتحكم فيها .
اهتمت نظريات الترجمة التي انطلقت من علم الدلالة بتحليل العلاقة بين الكلمة والشيء المفهوم أي بين الدال والمدلول والدليل، وبالنسبة لعملية الترجمة فإن دور المترجم يتخطى البحث عن معان الكلمات المنفردة بل التعامل مع نص مكون من عدد من الكلمات في لغة المصدر ليتم نقل المعنى باستخدام كلمات أخرى بلغة الهدف، والمعنى لا يرتبط بعدد الكلمات، فدلالات الكلمات ومعانيها تتأثر بعوامل كثيرة مرتبطة بثقافة كل لغة
النظرية الوظيفية:
تقوم معظم نظريات الترجمة الحديثة على التعامل مع الترجمة ضمن نطاق علم اللغة أو علم الاتصال، فاللغويون يعتبرون الترجمة فرعاً من فروع علم اللغة التطبيقي، وبالتالي فإن التعامل مع الترجمة من هذا المنطلق يقودنا إلى تطبيق النظريات اللغوية المختلفة التي تتناول الظواهر اللغوية وتوصيفاتها... لكن معظم النظريات الشائعة والمطبقة في ميدان الترجمة تقوم على دراسة الترجمة انطلاقاً من مبحثين أساسيين هما نظرية الاتصال وعلم الدلالة، فجميع نظريات الترجمة تتفق في وصف الترجمة على أنها أحد أوجه الاتصال اللغوي، وهي بذلك تشتمل على المرسل والمتلقي والرسالة والسياق والوسط والمؤثرات الداخلية والخارجية فجميع هذه العوامل تؤثر في وتتأثر بعملية الاتصال، و و"الترجمات الوظائفية (Instrumental Translations). وفيها يركز المترجم على الوظيفة التواصلية بين صاحب النص في اللغة المصدر و المتلقي في اللغة الهدف، وهنا يكون الاهتمام منصباً على الوظيفة التي يؤديها النص لذلك يشيع هذا النوع من الترجمات في الوثائق الرسمية والقانونية
النظرية الغائية:
وضع هانس فيرمير (Hans J. Vermeer) النظرية الغائية(Skopos Theory)أو نظرية الهدف في الترجمة، وهي نظرية تمكن المترجمين من تنفيذ ترجمات وفقاً للغرض من النص الهدف، وتوضح هذه النظرية أن الغاية النهائية من الترجمة هي التي تحدد للمترجم الاستراتيجية التي سيقوم باتباعها في ترجمته، وينبغي على صاحب النص المطلوب ترجمته تحديد غايته من الترجمة حتى يمكن للمترجم تحديد الاستراتيجية المطلوبة، وفي حالة إذا لم يقم صاحب النص بتحديد تلك الغاية فإنه يتعين على المترجم أن يضع نفسه في موضع صاحب النص ويتخيل الغايات المحتملة ويفاضل بينها ثم يبدأ في تكوين استراتيجيته، وتميز النظرية الغائية أيضًا بين نوعين من الترجمات: "الترجمات الوثائقية" (Documentary Translation) حيث يركز المترجم على القيمة التواصلية للنص ورد فعل المتلقي ويراعي ثقافة النص وبنيته وعناصره اللغة فتعبر الترجمة تعبيراً دقيقاً عن محتوى النص الأصلي، ويشيع تطبيق ذلك عند معالجة النصوص الأدبية، أما النوع الثاني فهو "الترجمة الوظائفية" (Instrumental Translation) فيركز على الوظيفة التي يقوم بها النص الأصلي ويكثر تطبيقها مع النصوص القانونية والرسمية والإدارية
النظرية النصية:
تعتمد هذه النظرية على علم اللغة النصي متمثلة مناهج تحليل الخطاب والمنهج السيميائي، ولتطبيق المبادئ النظرية لهذه العلوم، على متعلم الترجمة أن يدرك مفاهيم البنيـــة والترابط والاتساق والالتحام النسيجي للنص، وقد ميز اللساني الفرنسي (إيملييه بينفنستييه Emile Benveniste) بين الجملة والنص، واعتبر أن تحليل النصوص لا يجري إلا في شكل ملفوظ أي ضمن وضعية اتصال خاصة. أما «هاليدي وحسن» فيعتبران تميز النص بالترابط والاتساق ولحمة النسيج اللغوي في مستوى استعمال الروابط بين الجمل ولكل نوع من النصوص معايير دراسة كالمعايير اللغوية الداخلية، وهي لفظية ودلالية ونحوية وأسلوبية. والمعايير الخارجية عن اللغة كالإيحاءات الشعورية. إن عملية تحليل النصوص تقود لا محالة إلى تفكيك الصعوبات اللغوية في مستوى الشكل والمضمون.
النظرية التكافئية:
يميز يوجين نايداEugene E. Nida في كتابه نحو علم للترجمة Toward a Science of Translation بين نوعين من التكافؤ: التكافؤ الشكلي الذي يقوم على نقل شكل النص الأصل نقلا آليا، والتكافؤ الديناميكي الذي يحول "النص الأصل" بحيث يحدث التأثير نفسه في "اللغة الهدف"، و"التكافؤ الدينامكي" مفهوم خاص بنايدا، وليس له معنى إلا عندما يتم ربطه بنظريته الخاصة بالترجمة. وبالمقابل، يمثل تكافؤ التأثير مفهوما أساسيا يتجاوز الخلاف بين أهل الهدف وأهل المصدر : ينبغي وضع تكافؤ التأثير في إطار أشمل، مبتدئين بانعكاساته لسانية الطابع.
النظرية التداولية:
تقوم النظرية التداولية في جوهرها على رفض ثنائية اللغة/ الكلام التي نادى بها دوسوسير F.de. Sussure القائلة بأن (اللغة) وحدها وليس (الكلام) هي الجديرة بالدراسة العلمية، فالنظرية التداولية، وتتناول العلاقات القائمة بين اللغة ومتداوليها وتدرس تحليل عمليات الكلام ووصف وظائف الأقوال اللغوية وخصائصها لدى التواصل اللغوي، وتهتم هذه النظرية بالتمييز بين ثلاثة أنواع من أفعال اللغة: فعل الإنجاز المتصل بقيمة اللفظ ذاته، و فعل التأثير بالقول الذي يستهدف غايات محددة، مصرح بها أو غير مصرح وينتج عن استخدام اللفظ الفعلي، و فعل القول الناتج عن تركيب الصوت أو العلامات الخطية لوحدات تركيبية مزودة بمعنى ما وملائمة للسياق.
النظرية التأويلية:
ترتبط نظرية التأويل بالترجمة الشفهية، ولم تظهر هذه النظرية إلا في نهاية سبعينيات القرن الماضي لتتخذ بعد ذلك ما عرف باسم (نظرية المعنى)، وأن الترجمة تعتمد على التقابل بين اللغات من خلال عناصر لغوية لا تتأثر بسياق النص مثل أسماء العلم، والأرقام، والمصطلحات التقنية، والبحث عن التعادل بين المدلولات اللغوية لأجزاء النص، واهتمت هذه النظرية بالبحث في العلاقات بين الفكر واللغة، وعلاقة المعنى بالعلامات اللغوية، ثم تطور تطبيق هذه النظرية ليشمل أيضاً الترجمة التحريرية، والنظرية التأويلية تتعامل مع المعنى المستخلص من النص ويمكن للمترجم أن يدركه وتناقش طرق تأويل النصوص، وتخلص هذه النظرية إلى أن مهمة المترجم هي نقل معنى النص وفق ما يدركه المترجم لا كما عناه المؤلف، حيث تدعو النظرية إلى تحرير المعنى من ألفاظه الأصلية الأصيلة وإيجاد معادلات جديدة، وتنظر النظرية التأويلية إلى اللغات بوصفها مجرد ناقل للمعنى .. ووفق النظرية التأويلية فإن عملية الترجمة تتم عبر ثلاث مراحل أساسية هي:
- الفهم: من خلال تأويل النص في اللغة الأصل لإدراك المعنى المراد تبليغه في اللغة الهدف.
- الانسلاخ اللغوي: من خلال تحرير المعنى من البنيات اللغوية للنص الأصلي حتى لا تتداخل مع بنيويات اللغة الهدف.
- إعادة التعبير: وتهدف إلى إعادة صياغة نفس المعنى المعبر عنه بلغة الأصل مع التركيز على خصوصيات اللغة الهدف.
وتصنف هذه النظرية سياقات النص إلى ثلاثة أنواع:
- السياق اللغوي: ويهتم بدلالة الكلمة أو الجملة وعلاقة دلالات الكلمات والجمل المحيطة
- السياق المعرفي: ويهتم بالأفكار التي تصل إلى ذهن المتلقي أثناء عملية قراءة النص
- السياق غير اللغوي: يهتم بالعناصر غير اللغوية المصاحبة لعملية انتاج النص (بيئة انتاج النص).
وتضع هذه النظرية محددات للفقد الذي يتم أثناء عملية الترجمة على المستويات المختلفة كالمستوى الدلالي و التركيبي و الأسلوبي والثقافي والجمالي.
هناك نظريات أخرى مزجت بين النظريات السابقة أو نبعت منها، ومن بين نظريات الترجمة ما يرى أن وجود المترجم ضمن النص المترجم يتحدد وفق عوامل ثلاث هي: موقفه الترجمي، أي الطريقة التي يتصور بها النشاط الترجمي، ومشروعه الترجمي الذي يحدد الطريقة التي يترجم بها، وسعة أفق المترجم وانفتاح عقله، ومن نظريات الترجمة أيضاً ما أكد على انعدام حدوث التطابق بين النص المصدر والنص الهدف وذلك على المستوى اللغوي والدلالي.
منقول للفائدة