قصة قصيرة - جعفر الديري:
دعاه زملاء العمل لسهرة في المتنزّه المعروف، وكان الرجل أرملا منذ أعوام ثلاثة.
كان قد تقدّم في السن، ومع ما ألقت الشدائد عليه من آثار، بدى أكبر من سنّه بكثير، خصوصا مع كرشه المستدير البارز لكل من يراه، وذلك البياض البغيض في عينه اليمنى. لقد بدى لنفسه وهو يطالع شكله في المرآة وكأنه ابن ستين وليس رجلا بالكاد يقترب من الأربعين!.
ابتسم ساخرا، ثم شبك ذراعيه حول صدره، وألقى بجسمه الضخم على الكرسي، وأسند خدّيه إلى كفيه الكبيرين الصلبين الذين يحفظان تاريخا طويلا من المشقّة والجري وراء لقمة العيش؛ إنتهى عند وزارة خدمية.
وراحت عيناه تتأملان في الغرفة النظيفة الواسعة، حتى حطّتا على الصورة الوحيدة المعلّقة. أخذ بتأملها وفمه لا يفتر عن ذكر الله تعالى، سائلا إياه المغفرة والرحمة لها، وإن كان مؤمنا في قرارة نفسه أنها في الجنة؛ المرأة التي صبرت على ما أصابها، وتحمّلت عجزه وشدة العمليات؛ سيكون الله تعالى أرأف بها، وهو الذي وعد المتقين بالمغفرة والرحمة. لكنه وهو الوحيد في هذا العالم يحتاج إلى الرحمة أكثر منها، إذ ليس أحد من أصدقاء الأمس يسأل عنه، ليس سوى زملاء العمل.
تطلّع في جهاز الآيفون، فوجد أن الساعة لا تزال السادسة، بينما الموعد في الثامنة، والمتنزّه قريب من شقته، يمكن الذهاب إليه مشيا على القدمين. ضبط المنبه على السابعة والثلث، وقام متثاقلا ونزع الجاكتة، ثم ألقى بجسمه على الفراش، وراحت عيناه تتأمّلان في السقف حتى غفت عيناه.
استيقظ لكن ليس على صوت المنبه، بل على صراخ زوجة جاره، لقد عادت من السفر وعاد معها الإزعاج، ويجب عليه مجددا أن يتحمّل صوتها المنكر!.
تطلع في جهاز الآيفون، فوجد الساعة لا تتعدّى السابعة، قام من فراشه، وصنع لنفسه كوبا من الشاي الساخن، وجلس قرب الطاولة، وأخذ في قراءة الكتاب، حتى سمع صوت المنبّه. ارتدى الجاكتّة وتعطّر وفتح باب الشقة، حين وجد جاره أمامه.
سارع إلى إغلاق الباب، حامدا الله تعالى أن الجار كان موليا إياه ظهره؛ كان أشبه بقطّ كلّما دفعته عنك، تزلّف إليك! سيصمّ أذنه بحديثه عن زوجته ومشاكلها، وسيقول له إصبر إن الله مع الصابرين، وسيبكي ويبثّ شكواه، حتى يخنقه بحديثه المعاد، وسيقول له إن الرجل القوي لا يبكي، وسيحاول الإفلات منه، وسيمسك بذراعه متوسّلا إياه أن يستمع له، وسيضطر إلى نزع يده بقوّة معتذرا له بأمر يشغله!.
وابتسم ساخرا، لكن من نفسه هذه المرّة، إنّ من يراه في هذه الحال، يحسبه مدينا بالمال، يحاول الفرار من مدينه، وليس من جار ثقيل الظل.
أخذ بانتظار ذهاب الجار، حتى إذا اطمئن فتح باب الشقة، ونزل من على السلم، إلى الشارع العام.
كانت السماء صافية والهواء عليل، وطقس مثل هذا طالما أطرب نفسه، فإن العزلة التي اختارها منذ وفاة زوجته منحته الكثير، لا شك أنها أخذت منه مباهج كثيرة، لكنها أيضا جنّبته كثيرا من الآلام، وإذ كان مخلوقا طيب القلب، شديد الحساسية انساق إلى العزلة عن قناعة.
تذكّر حينها السنة الصعبة التي مرضت فيها زوحته وفقد فيها عمله، لقد طرق أبوابهم واحدا واحدا، فلم يجد أحدا منهم يتقدّم لنجدته!. وشعر بمرارة في حلقة، حتّى أنه بصق على الأرض لشدّة تأثره، لكن مرآى طفلة صغيرة تقترب ويدها في يد أمّها، غيّر مزاجه، فبادلها الابتسام.
كان قد وصل إلى الخيمة المشار إليها، ومدّ يده ليفتح بابها، حين غزا وجهه العبوس كأشدّ ما يكون. ترك يده تسقط بلا مبالاة، وقفل راجعا وهو يردّد: فما نفع خلاّن في السرّاء لا تجدهم في الضرّاء!..
دعاه زملاء العمل لسهرة في المتنزّه المعروف، وكان الرجل أرملا منذ أعوام ثلاثة.
كان قد تقدّم في السن، ومع ما ألقت الشدائد عليه من آثار، بدى أكبر من سنّه بكثير، خصوصا مع كرشه المستدير البارز لكل من يراه، وذلك البياض البغيض في عينه اليمنى. لقد بدى لنفسه وهو يطالع شكله في المرآة وكأنه ابن ستين وليس رجلا بالكاد يقترب من الأربعين!.
ابتسم ساخرا، ثم شبك ذراعيه حول صدره، وألقى بجسمه الضخم على الكرسي، وأسند خدّيه إلى كفيه الكبيرين الصلبين الذين يحفظان تاريخا طويلا من المشقّة والجري وراء لقمة العيش؛ إنتهى عند وزارة خدمية.
وراحت عيناه تتأملان في الغرفة النظيفة الواسعة، حتى حطّتا على الصورة الوحيدة المعلّقة. أخذ بتأملها وفمه لا يفتر عن ذكر الله تعالى، سائلا إياه المغفرة والرحمة لها، وإن كان مؤمنا في قرارة نفسه أنها في الجنة؛ المرأة التي صبرت على ما أصابها، وتحمّلت عجزه وشدة العمليات؛ سيكون الله تعالى أرأف بها، وهو الذي وعد المتقين بالمغفرة والرحمة. لكنه وهو الوحيد في هذا العالم يحتاج إلى الرحمة أكثر منها، إذ ليس أحد من أصدقاء الأمس يسأل عنه، ليس سوى زملاء العمل.
تطلّع في جهاز الآيفون، فوجد أن الساعة لا تزال السادسة، بينما الموعد في الثامنة، والمتنزّه قريب من شقته، يمكن الذهاب إليه مشيا على القدمين. ضبط المنبه على السابعة والثلث، وقام متثاقلا ونزع الجاكتة، ثم ألقى بجسمه على الفراش، وراحت عيناه تتأمّلان في السقف حتى غفت عيناه.
استيقظ لكن ليس على صوت المنبه، بل على صراخ زوجة جاره، لقد عادت من السفر وعاد معها الإزعاج، ويجب عليه مجددا أن يتحمّل صوتها المنكر!.
تطلع في جهاز الآيفون، فوجد الساعة لا تتعدّى السابعة، قام من فراشه، وصنع لنفسه كوبا من الشاي الساخن، وجلس قرب الطاولة، وأخذ في قراءة الكتاب، حتى سمع صوت المنبّه. ارتدى الجاكتّة وتعطّر وفتح باب الشقة، حين وجد جاره أمامه.
سارع إلى إغلاق الباب، حامدا الله تعالى أن الجار كان موليا إياه ظهره؛ كان أشبه بقطّ كلّما دفعته عنك، تزلّف إليك! سيصمّ أذنه بحديثه عن زوجته ومشاكلها، وسيقول له إصبر إن الله مع الصابرين، وسيبكي ويبثّ شكواه، حتى يخنقه بحديثه المعاد، وسيقول له إن الرجل القوي لا يبكي، وسيحاول الإفلات منه، وسيمسك بذراعه متوسّلا إياه أن يستمع له، وسيضطر إلى نزع يده بقوّة معتذرا له بأمر يشغله!.
وابتسم ساخرا، لكن من نفسه هذه المرّة، إنّ من يراه في هذه الحال، يحسبه مدينا بالمال، يحاول الفرار من مدينه، وليس من جار ثقيل الظل.
أخذ بانتظار ذهاب الجار، حتى إذا اطمئن فتح باب الشقة، ونزل من على السلم، إلى الشارع العام.
كانت السماء صافية والهواء عليل، وطقس مثل هذا طالما أطرب نفسه، فإن العزلة التي اختارها منذ وفاة زوجته منحته الكثير، لا شك أنها أخذت منه مباهج كثيرة، لكنها أيضا جنّبته كثيرا من الآلام، وإذ كان مخلوقا طيب القلب، شديد الحساسية انساق إلى العزلة عن قناعة.
تذكّر حينها السنة الصعبة التي مرضت فيها زوحته وفقد فيها عمله، لقد طرق أبوابهم واحدا واحدا، فلم يجد أحدا منهم يتقدّم لنجدته!. وشعر بمرارة في حلقة، حتّى أنه بصق على الأرض لشدّة تأثره، لكن مرآى طفلة صغيرة تقترب ويدها في يد أمّها، غيّر مزاجه، فبادلها الابتسام.
كان قد وصل إلى الخيمة المشار إليها، ومدّ يده ليفتح بابها، حين غزا وجهه العبوس كأشدّ ما يكون. ترك يده تسقط بلا مبالاة، وقفل راجعا وهو يردّد: فما نفع خلاّن في السرّاء لا تجدهم في الضرّاء!..