رسالة من صاحب العصور محمود محمد شاكر إلى صاحب الرسالة

أخي الأستاذ الزيات:

السلام عليك ورحمة الله، وبعد فإني أحمد الله إليك وأستعينه وأسأله لك التوفيق والسَّداد. أبيت أيها الرجل إلاّ كرماً من جميع نواحيك، فما كدت تستقبل العام السابع من عمر «الرسالة» حتى عُدْتَ عليّ بفضل من ثنائك وحسن ظنك، فذكرت «العصور» ثم أثنيت فأغنيت.

لقد وافتني كلمتك، وأنا بعد أنفض عن يديّ غبار «العصور» وأتخفف من أثقالها التي حملتها راضياً غير كاره، لأنقلب إلى هذه الغرف العزيزة التي نشأت في حجور الشيوخ من سكانها أستخبرهم علم ما أجهل، وأستنبئهم أخبار ما مضى، لأستوحِيَ الظن فيما يستقبل، وأجدد بعاديِّ[1] قوتهم قوة النفس التي لا تهدأ ولا تنام.

لا بد من كلمة – أيها الشيخ الجليل – وقد كان الصمت أولى بي وأحبّ إليّ. لا بدّ من كلمة أعتذر بها للذين استقبلوني بفرحة المحبّ أمتع باللقاء على غير ميعاد. فأنت تعلم أني اليوم عزمت على إصدار «العصور» لم أكن قد أعددت لها من مال إلا ما ادخرته في نفسي من جهد أعوام طالت في معاناة العلم والأدب، وبقية من خلق ضننت بها أن تذيع في أطرافها ونواحيها مهزعات العصر الحديث التي صرّفت الأخلاق في وجوه الغي والضلال، وأطلقت دنيات الغرائز من عقال الشرائع، وأرسلتها ترعى حمى أبى الله ورسوله أن يكون مرعى لمن آمن بالله واليوم الآخر.

ولكن لا بد من مال مسكوك معترف به، مصدّق على الاعتراف به من «محافظ البنك الأهلي»، وإن قليل ما عندي من هذا المال لا يغني غناءه في عمل أوله استهلاك بغير نتاج وأنت أخبر بهذا الأمر. فلم يبق إلا الصديق الذي يعين على نوائب الحق. . . فبدأنا إصدار (العصور) يعولها الجد من قبلي، والعون من قبل الأصدقاء الكتاب من أصحاب مذهبنا، والمدد من (جيب) الصديق الذي أبدى بشاشته، واستظهرها بعاجل البر، وسرنا على اسم الله. فما كان إلا كلا ولا حتى قلت كما قال الأول:

سعتْ نُوَب الأيام بيني وبينهُ = فأقلعن مِنَّا عن ظلوم وصارخ
فإني وإعدادي لدهري «محمداً» = كملتمس إطفاء نار بنافخ

وأبيتْ أن أخفض عن نفسي أو أرُدّ غلواءَها، فرددتُ المالَ إلى صاحبه غير منقوص ولا مهتضم. وقلتُ إن أمراً قضاهُ الله لا بُدّ له من تمامٍ وأجلٍ، وما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكنْ. وخيرُ الأمر أن ألجأ إلى الله ثم أستعين بما عندي على قضاء الحق الذي يقتضيه ما أقررت به على نفسي، وما أقررتها عليه في كلمة العدد الأول من «العصور». فلم أبخل ولم أتراجع، وأقدمتُ على إصدار العدد الثاني مستبشراً مؤملاً راجياً معتمداً على ثقتي بالله، ثم ثقتي بحسن التقدير الذي لقيته. فلم يلبث أن لقيَ العدد الثاني من «العصور» حفاوة الناس في كثير من بلاد العربية؛ ولكن هذه الحفاوة المستبينة في بيع مجلة – تكاليفها أكثر من دخلها بهذا البيع – لا يمكن أن تكونَ هي الرُّقية التي تجذب إلى رقاب المال من كهوف «البنك» فأجويها وأروضها وأتصرَّف فيها تصرُّف الناس فيما هُمْ به «ناس»!!

وقلت: عسى أن يقضي الله لأمر ضاق بالفرج، وتوجهت بقلبي إلى الله، وبوجهي إلى من أتوسم فيه سمة «الخزانة» المعدة لاحتجان المال. ولكني وجدت القفل بعد القفل على الخزانة، وافتقدت المفتاح الذي يتسنى له كل مغلق. إن هذا المفتاح ليس عندي، ولستُ أملكه، وما احسبني أرتضي – بعد أن جرَّبتُ – أن أملكه أو أَحوزه. إنه لا يملكه إلا من قدّم رهينةً، والخُلُق لا يُعترف به في باب الرَّهائن، ولستُ أملكُ غيره؛ فلا رهينةَ، أي لا قَرْضَ ولا معونة. وإنه لا يملك المفتاح بعدُ إلا اللصُّ الذي يلين له ما أعضل من قُفْل غُلِق وأنا بحمد الله لم أُخْلَق على طبيعة السارق بل سُوِّيتُ على هيأة المسروق، كلّ من شاء أن يأكلني أكلني؛ قد رضيتُ أن أحوطَ جوهري بالعَرَضِ المُضيَّع.

ومع ذلك فقد أعددت العدد الثالث للطَّبْع، وتصرَّفتُ في وجوه التدبير، ثم وُفّقت إلى من أرضى عنه ويرضى عني. . . ولكن أبى خُلُق الدُّنيا معي أن يتم جميل تستودعينه، أو معروف ترّببه عندي. فرجعت عَودي على بدئي راضياً عن الله شاكراً لله واثقاً بالله، أستعينه وأستحفظه، واشكره ولا أكفره.

لا أقول الله يظلمني = كيف أشكو غير مُتَّهم

وأنا لا أزال أقول: يَصنَعُ الله، يَصنَعُ الله، إن لله تدبيراً يصرّفنا به كيف شاء إلى مواقع علمه ومنازل حكمته. وأنا مذ كنت، كنت مطية القدر حيثما وجّهني استقبلت المضيقَ والطريقَ بنَفس مسلمةٍ وجهَها لله، بأن الزمّامَ في يد الله.

فإن تسأليني، كيف أنتَ! فإنني = صبورٌ على ريبِ الزمانِ صليبٌ
يعزُّ عليَّ أن تُرى بي كآبةٌ = فيشمتَ عادٍ أو يُساَء حبيبُ

وعلى ذلك فأنا منتظرٌ، و «العصور» إلى جانبي تنتظِر! وشكر الله لك، وجزاكَ خَيْراً من صديق.



***






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرسالة، السنة السابعة (العدد 287)، 1939، ص: 67.
[1]– العادِيّ: نسبة إلى قوم عاد، والعرب تنسب إليهم كل ما هو قوي وعظيم وقديم.
[2]– الإسلاف: الإقراض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر.




- الرسالة يناير - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى