مجدي جعفر - مي يوسف الحاج "بين شقي الرحى"

"بين شقي الرحى " هي المجموعة القصصية الأولى للقاصة مي يوسف الحاج، والعنوان كما يقول السيميائيين هو العتبة الأولى للنص، وعنوان المجموعة دال على المجموعة كلها، وكل قصة أخذت منه بنصيب.
وهذا العنوان الدال يشير من البداية إلى الصراع وقوته في القصة التي تحمل هذا الإسم، وينسحب هذا الصراع على كل قصص المجموعة، والصراع في هذه القصص بين أفكار وإرادات، متكافئة أحيانا، وغير متكافئة في أحيان أخر، صراع بين قوى الخير وقوى الشر، بين أفكار قديمة بالية ومتوارثة، وأفكار تقدمية، صراع بين العلم والجهل، بين الحقيقة والخرافة، بين الماضي والحاضر، والصراع في جُل القصص يعوق خُطا التقدم نحو المستقبل، وأمام هذا الصراع القوي والعنيف، ينسحق الإنسان، وتبدو هزائمه كثيرة، وانتصاراته قليلة، وهو بين شقي الرحى دائما !
وتأتي قصة " الشجرة المرصودة " لتؤكد لنا أننا أمام قاصة موهوبة، ومقتدرة، وقادرة على تقديم نموذج / مثال للقصة القصيرة المتماسكة البناء، والمحكمة النسج، قدمت لنا القاصة عالم غرائبي عجائبي من خلال توظيف الأسطورة، فعالم الأساطير الذي قدمته القاصة زاد القصة ثراءا وجعلها أكثر تألقا وتوهجا.
انفتحت الكاتبة على قارتنا السمراء، التي تعشق الأساطير، وتؤمن بالخرافات، وامتاحت من هذا العالم الثر، وقدمت لنا نصا جديدا ومبهرا، والصراع في القصة قائم بين العلم والخرافة، واستخدمت القاصة " المفارقة التصويرية " كوسيلة فنية لتبرز التناقض الحاد بين طرفين متقابلين، وتُبنى المفارقة في قصة " الشجرة المرصودة " من خلال نص محكم، ويتولى السرد أو الهوامش التي تستخدمها القاصة بذكاء ومهارة في إبراز المفارقة التي تريد أن تحدثها، فالمفروض أن " أجاك " الشاب الافريقي المتعلم والمثقف أن يتمرد على الخرافات والأساطير التي تؤمن بها قبيلته، ولكنه بدلا من محاربة الجهل والخرافة، نجده أكثر اقتناعا وإيمانا بها، فقبيلته التي تعيش على أطراف الغابة تؤمن بأن من يقطع شجرة أو حتى غصن من شجرة، يتحول إلى شجرة مرصودة، لأن هذه الأشجار مقدسة وتباركها الألهة، ومن يقترب منها بسوء تحل عليه اللعنة !
وحتى لا يتحول من اقترف جرم قطع شجرة إلى شجرة مرصودة لابد من أداء رقصات معينة، وطقوس خاصة، ومحاربة أشباح لاوجود لها إلا في أخيلتهم .
القصة فنيا قائمة على الوصف والحوار، الوصف الدقيق لهذا العالم الغرائبي، والحوار الاستفهامي أحيانا من صديق " أجاك " والاستنكاري أحيانا أخرى. وهذا الحوار يقوم بدور فاعل في بناء القصة، فهو يحرك الحدث، ويدفعه إلى الأمام، والحوار على سرعته وقصره، كاشفا عن بواطن الشخصية، وناقلا أمينا لأساليب تفكيرها، وكاشفا بجانب الوصف أيضا، عن الأجواء الأسطورية التي تعيش فيها هذه القبيلة المنعزلة.
والجمل رغم عدم وجود علامات ترقيم، قصيرة وسريعة ومتلاحقة، سرعة وتلاحق الأحداث، وسرعة الرقصات نفسها، الرقصات الافريقية التي تعتمد على حركة الجسد كله، بل تشعر بأن الطبيعة والكون كله يتحرك مع رقصات " أجاك "، وكأن القاصة مصممة رقصات بارعة، وانظر إلى النهاية والتي تنتصر فيها للخرافة : ( وعند هبوب أول نسمة هواء شتوية، وسماع صرخة مدوية، شقت سكون الليل الكالح، وجدت نفسي أنا وصديقي " أجاك " نقفز فزعا كقردين غاضبين، نتمايل برقصات مجنونة حول نار مضرمة يسافر دخانها إلى عنان السماء مصدرين همهمات غير مفهومة، وخشخشة قلائد وسلاسل ملونة تتوسطها قلادة عاجية منحوتة على شكل جمجمة مهشمة الأسنان ).
ومن القصص الجياد في هذه المجموعة : قصص الحرب، وخاصة القصص التي تُساق على لسان الطفل، وهناك مفهوم شائع عن أدب الحرب، وهو الأدب الذي يصور المعارك، بينما نرى أن أدب الحرب هو الذي يصور أي ملمح من ملامح الحياة متأثرا بجناية الحرب، وجاءت قصة " استسلام " نموذجا لهذا التصور، تصور جناية الحرب على أهل قرية أُضطروا للتهجير من قريتهم من جراء الحرب الضروس المشتعلة على أرض بلادهم، ويقيموا في مخيم على الحدود لدولة مجاورة، ولا يسلم المخيم من الإغارة والقصف بين حين وآخر مخلفا قتلى وجرحى، وأحداث القصة تُساق على لسان طفلة، هذه الطفلة تتمنى أن يحملها والدها، ويقفزها لأعلى، كما تفعل أمها، ولكنه لم يفعل، ولن يفعل، لأننا نكتشف أنه يعاني من آثار شظية أصابته، وتركته عاجزا، وهنا نستشف جناية الحرب على رب الأسرة، من خلال فعل الحرب، بعيدا عن الإنشاء الأجوف، والصراخ والزعيق الذي يصيب الفن في مقتل. وتبدأ القصة باحتضان الأم لطفلتها عند القصف وهي تهدهدها، وتغني لها : ياربي سلم .. ياربي سلم، والقصف يصبح مفردة من مفردات حياة هؤلاء اليومية، ولا يمنعهم من ممارسة حياتهم كما لا يمنع الأطفال من ممارسة لهوهم ولعبهم، فالطفلة رغم القصف تصر على الخروج للعب مع أقرانها، يارا وقيس، وتروح تبحث عنهم تحت نيران القصف ليمارسوا لعبتهم المفضلة، والغريبة في نفس الوقت، ولكنها تناسب أجواء الحرب، ومأخوذة من هذه الأجواء، واللعبة هي " لعبة الموت "، حيث يمثل أحد الأطفال دور الميت، ويقوم أقرانه بحمله، والسير به عبر دروب المخيم، ليودع أهله وأحبابه، غير أن قيس كان يرفض دائما أن يقوم بأداء هذا الدور، لأنه كما يرد على لسانه ببراءة وعفوية : لا أريد أن أموت .
وتضع الكاتبة الطفلة في مواجهة حقيقية مع الموت، الموت الحقيقي، لا الموت الذي يمثلونه، ويتفجر وعيها به : " اصطدمت في رحلة بحثي عن أصدقائي ( يارا وقيس ) بشيء لم أتبينه في بادئ الأمر بسبب الدخان الكثيف الذي بدأ يتلاشى شيئا فشيئا، انحنيت عليه، وأمعنت النظر قيه. أخيرا وجدت قيس وقلت له : -يقطع حريشك، شو تعمل، حدي بينام هون ؟!
لأول مرة لم يجاوبني قيس، أو حتى ينظر إليّ، سمعت دوي انفجار آخر، وحاولت إيقاظه، وهزه بشكل عنيف إلا أنه لم يستجب لي، أردت أن أشده بعيدا عن هذا المكان وأمسك يديه لابعاده إلا أنني فوجئت بفقدانه للجزء الأسفل من جسده و .. "
وقصة " حجارة من سجيل " تعبر عن هموم أهلنا في فلسطين في الداخل وفي الخارج، ووفقت الكاتبة فنيا في توظيف أشعار شاعر المقاومة الكبير محمود درويش وأغنية مارسيل خليفة ( أحن لخبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي .. )، وأجواء الأغنية الحزينة ساهمت في تقديم وتعميق الأجواء النفسية للبطل، وأغنت الكاتبة عن سرد هذه الأجواء بالنثر، فساهم الشعر في الاختزال والتكثيف.، والاقتباس القرآني المباشر" حجارة من سجيل " يعلو بالقضية الفلسطينية، وبدلا من أن تصبح قضية الفلسطينيين وحدهم أو العرب وحدهم، تصبح قضية كل المسلمين، والاقتباس القرآني يضفي عليها القداسة.
وتبدو الكاتبة ملتزمة بقضايا الأمة، والهموم القومية، والتي تضاءلت في السنوات الأخيرة أمام هموم الذات.
ومن المحاور المهمة في هذه المجموعة البديعة محور المرأة، وتهتم القاصة اهتماما كبيرا بالمرأة، فهي محور معظم قصصها، ولها دور البطولة، وتقوم بدور بنائي في موضوعية القصة وفنيتها.
ففي قصة " دمية للانتقام " تقدم نموذجان مختلفان للمرأة في نظرتهما إلى الرجل وإلى الحب وإلى الحياة، وإذا كانت المرأة في هذه القصة بطلا، فإنها بطلا أيضا في قصة " حظر تجول " وحاولت الكاتبة في هذه القصة أن تقدم لنا نصين متوازيين في نص واحد، لتنسج لنا نصا مركبا، تسرد في النص الأول علاقة الحب الجميلة بين فتاة وابن عمها، وفي النص الثاني وإن بدا في الخلفية – تنتقد بقسوة بعض الظواهر الاجتماعية من أحقاد ونزاعات وخلافات حول ماديات وأشياء تبدو تافهة في عيون المحبين، ولكن هذه الظواهر الاجتماعية تترك أثرها السيء في النفوس والقلوب.
وبداية القصة آسرة وأخاذة :" تناهى إلى سمعه صوت دقات كعب حذائها الأحمر "، " دخلت تتهادى برشاقة في ثوبها الأسود الطويل يسبقها عبق عطرها الربيعي الاخاذ "، هكذا تقدم لنا الكاتبة بطلتها في ثلاث صور، استخدمت فيها أهم ثلاثة حواس، وهي : الحاسة السمعية في " صوت دقات كعب حذائها "، والحاسة البصرية في " تتهادى برشاقة في ثوبها الأسود الطويل "، والحاسة الشمية في " عبق عطرها الربيعي الآخاذ " وهذه الصور الجزئية الثلاث تشكل لنا صورة كلية للفتاة مها بطلة النص، وقد وزعت الكاتبة صفات بطلتها على مدى الصفحات ولم تقدمها دفعة واحدة، " خدها كالمرمر البراق " و " عينيها كحيلتين " و .. و .. وفي رسم الكاتبة لشخصية مها تستخدم أسلوب التجسيم، وكأنها وهي سودانية الأصل تعي انجازات الفن المصري الحديث في التصوير والنحت، فهي تنحت شخصياتها في وجدان المتلقي، حتى ليقيم لنفسه تمثالا لهذه الشخصية، وما أظن أن صورة مها ستفارق خيال القارئ.
وتستعير الكاتبة من فن المذكرات " البوح " لتقدم لنا أكثر من قصة بطلتها المرأة أيضا، منها قصتي " رسالة لم تفتح بعد " و " معا نستطيع " وفيهما تقدم نموذجا رائعا للمرأة المعطاءة بلا حدود، وبلا مقابل، والمقاومة أيضا، تقاوم نوازع النفس، ورغباتها، وتقاوم هوى القلب وميله، تقاوم ضغوط الحياة، ومشاقها. والكاتبة كما تبدو من نصوصها كاتبة أخلاقية، تقف الموقف الأخلاقي في قصصها، تنتصر للفضيلة، حتى لو كانت بطلتها مأزومة، وربما لو تخففت قليلا من الالتزام الخُلقي لحلت بعض مشاكل البطلة !!
وفنيا قد أخذت الكاتبة في قصتها " رسالة لم تفتح بعد " من السينما أسلوب الارتداد أو " الفلاش باك " كوسيلة فنية، كما أخذت في قصتها " معا نستطيع " من السينما أيضا " المونتاج السينمائي " كوسيلة فنية استخدمت فيه أسلوب الصدمات، حيث قدمت مجموعة من الصدمات، صدمة تلو صدمة، تلك الصدمات جعلت البطلة تفقد توازنها النفسي.
وتتوالى القصص التي فيها المرأة بطلا، وتعلن الكاتبة دون مواربة انحيازها للمرأة، وتنتقد بشدة المجتمع الذكوري، الذي يحرم المرأة من أبسط حقوقها : في الحب، وفي الزواج، وفي الميراث، وفي التنقل، وفي .. وفي ..، ميراث ضخم من العادات والتقاليد، ساهم في سلب المرأة من حقوقها، كإنسان، لها قلب ينبض بين جنبيها، ونفس تواقة إلى التحرر من ربقة هذه العادات والتقاليد، وهي دائما بين شقي الرحى !
ومن اللافت أن أحداث معظم القصص كانت تدور في مكان عابر ( ترانزيت )، فقصة " بضع خطوات " تجري أحداثها في ( الأوتوبيس )، وقصة " حدث في عربة المترو تجري أحداثها في ( المترو )، وقصة " آثار خنجر ذهبي " تجري أحداثها فوق متن ( سفينة )، وقصة " سيصلون سعيرا " تجري أحداثها في ( طائرة )، وقصة " عقدة الستارة " تجري أحداثها في ( مدرج )، وقصة " معا نستطيع " تجري أحداثها في ( منوّر البناية ).
و في مقاربتي النقدية هذه أرجو أن أكون قد نثرت ولو بعض قطرات من الضوءعلى عالم مي يوسف الحاج القصصي، الذي يحتاج إلى قراءات وقراءات ليبوح ببعض أسراره، شأنه شأن كل فن جيد، لايهب نفسه للمتلقي من القراءة الأولى.
( ورقة نقدية ألقيت بقصر ثقافة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية لمناقشة المجموعة القصصية " بين شقي الرحى " للكاتبة مي يوسف الحاج قبل أن يدركها الموت، رحمها الله رحمة واسعة، وأسكنها الفردوس الأعلى، وجعل قبرها روضة من رياض الجنة ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى