- جعفر الديري:
"الجسر في غبش الفجر مرتقى الروح. إنه لا يزال يعني لي الكثير، موسيقى صاخبة؛ أحملها في جيبي وأخفيها عن عين المارّة".
- ألا تكفّ عن هرائك هذا؟
- ولماذا يا جميلة الوجه وسليطة اللسان؟
- لأنّك حالم لا تقف على أرض صلبة
- لو انك لمست بيديك جماجم الموتى؛ لما كان مكانك سوى السحاب
- لقد شاهدت من الأهوال ما يروّع أمة بأكملها
تطلعت ناحية اليمين؛ طويل كان. رأيت الجنود وقد شدّوا بالحبال مثل قطيع من الغنم، وجوههم مسودّة وأجسامهم ضعيفة، حتى أيديهم لا طاقة لهم على رفعها.
لقد ترك الحارس الحبل وراح يدخن يقينا منه بضعفهم!. أمّا أنا فكنت هنا على هذا الجسر، أنتظرهم بفارغ الصبر، مؤملاً رؤيتهم في حال أفضل. صدمت حتى شعرت بالغثيان. كانت سحناتهم أشبه بلون الضباب، بحركة عقرب تدوس على رأسه، بنهر مليء بالأوساخ، بسمكة متعفنة في جوف سمكة قرش. احتضنتهم واحداً واحداً، لكن أحداً منهم لم يتعرف علي، رغم أني ناديتهم بأسمائهم.
- ما بك شردت بعيداً؟
- لماذا تتعمّدين العودة بي لتلك الأيام؟
- كان مجرّد سؤال؟
- وماذا أفعل مع عقلك الذي لا يريد أن يفهم؟
- أوووه.. لم يمض على لقائنا سوى شهر واحد ولسانك لا يكف عن سلقي؟
- هذا ما جنته يداك
اذهبي.. لست الأولى ولن تكوني الأخيرة، نسيت أن تعيريني بالدائرة الكبيرة في وجهي وبالعين الحولاء، وبالكف المتصلبة.
لن تعرفيني على حقيقتي؟! لقد حملت ذراع صديقي، عينه الملقاة على الأرض. حصرت بين عمودين! حتى خرجت المشاهد من فتحات وجهي.
تقرئين كتابك وأنت تسرّحين شعرك، تركضين على هذا الجسر وتمرحين، تدعين أنك ذو علاقة طويلة معه، منذ كنت في السابعة، وأنت الآن في السابعة والعشرين، لكنك لا تعلمين ماذا يشكّل لي هذا الجسر؟!. المومس العرجاء كانت تدرك ذلك؛ رأتنا نهرع إليه وفي أفواهنا بقايا إفطار الصباح، حتى إذا وقفنا بانتظار الباص، قالت ساخرة: لن تعودوا إلى بيتوكم!.
كان أسبوعاً لا غير، لكنه كان كافياً لحرقنا. يحيى كان الوحيد الذي سمع كلامها، فترجّل من الباص، سخرنا منه ومن جبنه، تندرنا عليه، وجعلناه أضحوكة. لكنني عدت بكف واحدة وعين لا ترى، ونصف لسان، أما هو فظل في أبهى صورة، ازداد وسامة وجمالاً، وأنجب ابنتين كحبات اللؤلؤ، فيما بقيت أنا لا أحد معي ولا شيء...
إذهبي؛ لست الوحيدة التي لم تعرف معنى السهر، إن قصارى حظك من الدنيا هذا الشعاع، فلا يغرّنك ما في عيني من بريق، إنه يخطف الأبصار لكنه يخطف السعادة أيضاً.
لا تخجلي من نفسك أبداً، كان حلماً وانتهى، تأملي فيّ الآن، سأذكرك ليل نهار باللون الأسود، بالطفل المشنوق ورائحة البارود، بالقارب وقطعة الشوكولا التي امتزجت بقبعة الفتاة اليتيمة.
"الجسر في غبش الفجر مرتقى الروح. إنه لا يزال يعني لي الكثير، موسيقى صاخبة؛ أحملها في جيبي وأخفيها عن عين المارّة".
- ألا تكفّ عن هرائك هذا؟
- ولماذا يا جميلة الوجه وسليطة اللسان؟
- لأنّك حالم لا تقف على أرض صلبة
- لو انك لمست بيديك جماجم الموتى؛ لما كان مكانك سوى السحاب
- لقد شاهدت من الأهوال ما يروّع أمة بأكملها
تطلعت ناحية اليمين؛ طويل كان. رأيت الجنود وقد شدّوا بالحبال مثل قطيع من الغنم، وجوههم مسودّة وأجسامهم ضعيفة، حتى أيديهم لا طاقة لهم على رفعها.
لقد ترك الحارس الحبل وراح يدخن يقينا منه بضعفهم!. أمّا أنا فكنت هنا على هذا الجسر، أنتظرهم بفارغ الصبر، مؤملاً رؤيتهم في حال أفضل. صدمت حتى شعرت بالغثيان. كانت سحناتهم أشبه بلون الضباب، بحركة عقرب تدوس على رأسه، بنهر مليء بالأوساخ، بسمكة متعفنة في جوف سمكة قرش. احتضنتهم واحداً واحداً، لكن أحداً منهم لم يتعرف علي، رغم أني ناديتهم بأسمائهم.
- ما بك شردت بعيداً؟
- لماذا تتعمّدين العودة بي لتلك الأيام؟
- كان مجرّد سؤال؟
- وماذا أفعل مع عقلك الذي لا يريد أن يفهم؟
- أوووه.. لم يمض على لقائنا سوى شهر واحد ولسانك لا يكف عن سلقي؟
- هذا ما جنته يداك
اذهبي.. لست الأولى ولن تكوني الأخيرة، نسيت أن تعيريني بالدائرة الكبيرة في وجهي وبالعين الحولاء، وبالكف المتصلبة.
لن تعرفيني على حقيقتي؟! لقد حملت ذراع صديقي، عينه الملقاة على الأرض. حصرت بين عمودين! حتى خرجت المشاهد من فتحات وجهي.
تقرئين كتابك وأنت تسرّحين شعرك، تركضين على هذا الجسر وتمرحين، تدعين أنك ذو علاقة طويلة معه، منذ كنت في السابعة، وأنت الآن في السابعة والعشرين، لكنك لا تعلمين ماذا يشكّل لي هذا الجسر؟!. المومس العرجاء كانت تدرك ذلك؛ رأتنا نهرع إليه وفي أفواهنا بقايا إفطار الصباح، حتى إذا وقفنا بانتظار الباص، قالت ساخرة: لن تعودوا إلى بيتوكم!.
كان أسبوعاً لا غير، لكنه كان كافياً لحرقنا. يحيى كان الوحيد الذي سمع كلامها، فترجّل من الباص، سخرنا منه ومن جبنه، تندرنا عليه، وجعلناه أضحوكة. لكنني عدت بكف واحدة وعين لا ترى، ونصف لسان، أما هو فظل في أبهى صورة، ازداد وسامة وجمالاً، وأنجب ابنتين كحبات اللؤلؤ، فيما بقيت أنا لا أحد معي ولا شيء...
إذهبي؛ لست الوحيدة التي لم تعرف معنى السهر، إن قصارى حظك من الدنيا هذا الشعاع، فلا يغرّنك ما في عيني من بريق، إنه يخطف الأبصار لكنه يخطف السعادة أيضاً.
لا تخجلي من نفسك أبداً، كان حلماً وانتهى، تأملي فيّ الآن، سأذكرك ليل نهار باللون الأسود، بالطفل المشنوق ورائحة البارود، بالقارب وقطعة الشوكولا التي امتزجت بقبعة الفتاة اليتيمة.