عمار حميد مهدي - التعرّف الى شجرة

تدفع بنا الحياة في ضغوطاتها الى انشغالات عديدة وفي مجالات مختلفة واكثر هذه المجالات تقع في فضاء المدن , مبتعدة بنا عن الجوهر الاصلي لمكنونات ما يحيطنا وتضيق بنا الرؤية فتقتصر على اشياء محددة لا تتعدى في الحقيقة نطاق المنزل والعمل ، ضمن مجالهما المتنوع طبعا وايضا داخل فضاء المدن بالتأكيد.
اتجول في الدروب وهاجس التأمل في ماهيّة الحياة وأوجهها يسبح في بحر افكاري مثل حوت كبير غامض يظهر على السطح لفترة قصيرة ليعود فيغوص في الاعماق واحاول البحث عنه من جديد ، حتى نجحت في اصطياده او ربما كان يحدق بي عندما استوقفتني شجرة ضخمة تمتد بفروعها الكبيرة في كل الاتجاهات ، تقدمت نحوها غير عابئ بالسيارات والمارّة الذين يظهرون كإشارات عابرة على افق افكاري البعيد وقفت امامها كأنني ارى شجرة لأول مرة ومددت يداي الى جذعها متأملا تلك الفروع المتعرجة واللحاء الذي يشبه جلد شيخ عجوز , وقفت انظر وسؤال كبير ظهر في عقلي كعنوان مهم في صحيفة ، منذ متى لم ألمس شجرة؟ ثم تبعته اسئلة اخرى ، كم مضى من العمر لم اتسلق شجرة واجلس على فروعها متأملا العالم من هناك ، او مبعدا اوراقها هناك من الأعلى لأعثر على عش طائر ضم بيوضه في دِعةٍ وأمان ، كيف يكون صوت الريح وهي تهب بين اغصان الشجرة وهل افتقد ذاك الشعور والاحساس الذي هجرته وربما احد عناصره المهمة الاطمئنان؟
قررت ان أخوض هذه التجربة الغريبة لمرات عديدة واسميتها تجربة (التعرف الى شجرة) وفي كل مرة اضع يدي على جذع شجرة كبيرة ما اعثر عليها في طريقي وانظر الى الاعلى يأتيني نفس الشعور بأنني كنت مبتعدا جدا عن حقائق كبيرة في وجودنا لفترة طويلة وان الاحساس بأننا مبتعدين عن اشياء هي في الحقيقة امام انظارنا ولكنها بعيدة عن عقولنا هو احساس طاغٍ جدا.
هل انا الوحيد الذي قفزت الى رأسه هذه الأفكار وتعرّف الى "شجرة" ام ان هناك غيري ربما يشاركني نفس ما اشعر به؟ توسعت في التجربة على نطاق اصدقاء لي في العمل وكانت شجرة (السيسبان) الكبيرة القريبة منّا بمثابة آلة او مقياس الاختبار في تجربتي الغريبة هذه وكنت استدرجهم اليها دون ان اعطي مقدمات عن ما سوف اطلبه منهم فقط وبشكل مفاجئ اخبر ذلك الصديق الذي اصحبه بأن يمسك جذع الشجرة بكلتا يديه ويتأمل في اغصانها الكبيرة وأسأله كم مضى عليك من الزمن لم تمسك فيها يداك جذع شجرة؟
كانت النتائج صادمة ، كنت ارى الغرابة والدهشة على وجوههم والتوسع الكبير الذي يظهر في حدقات عيونهم وهم يجيبونني ان الامر غريب فعلا وانه قد مضى زمن طويل على ذلك ، احدهم قال لي انه قد مضى على ذلك الشعور ما يزيد عن خمسة وعشرين عاما !، لقد اعطتني تلك التجربة مدلولا عميقا بأننا انفصلنا عن ذاتنا الحقيقية ، تلك الذات التي ربما ذهبت مع الطفولة لتعود بشكل مفاجئ من خلال تصرّف غريب ربما ولكنه يعمل كمنبه بأننا في حاجة للعودة الى التعرف على العالم وموجوداته الجميلة من جديد حيث عاصرنا ذلك في فترات من طفولتنا في الماضي وانقطع عنّا بعد ذلك.
بقيت لدي تجربة ان اتسلق شجرة والاصغاء الى صوت الرياح من هناك وفي الحقيقة لم أجرّب بعد ان اتسلق شجرة من جديد فقد فعلت ذلك منذ زمن بعيد يعود لأيام الطفولة، اخشى ان تحملني الاحلام بعيدا وانا اشاهد العالم من خلال فروع الشجرة في الاعلى وأمارس متعة اكتشاف عش طائر يحوي بيضه وزغب ريشه هناك ، عندها سيناديني احدهم في الاسفل : انت ايها المجنون الحالم ، ماذا تفعل هناك في الاعلى ، هيا انزل وتعايش مع الواقع ، هل سأفعل ، ربما لا ... فأنا لا احب ذلك.
عمار حميد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى