تماضر الطاهر - لالوبة (ود تميم)

(وكأن الحياة تضاعف من آلام البعض، فتجعلهم يشعرون باوجاع الاشجار)
——

مقولة سمعتها في صغري، و نمت حولها الكثير من المشاعر المطمئنة، " امدرمان محروسة بي أهل الله"، وكانت التجارب العصيبة التي مرت وتمر بها هذه المدينة، خير دليل على صحتها.
ومع مرور سنوات العمر، ازدادت ثقتي وقناعتي ، بأن الحراسة ليست هي فقط مهمتهم التي اوجدهم الله لإنجازها على ارضه بتلك الإحداثيات الدقيقة، فادوارهم تشابه في تنوعها بعض صفات الجلال والجمال التي تفضل الله بها على خلقه، عندما نفخ في أجسادهم الطينية من روحه، إلا انهم يمتازون ببعض الخصوصية وسبق الاصطفاء.
ولعل انتثارهم على أرضها يفسر طيبة إنسانها ومحبته لها، وذوقه وآدابه وفنونه، وكثافة الإلهام وخفة الروح والسماحة والتسامح، والبساطة والتواضع والذكاء والزهد، بغض النظر عن دينه وعرقه ومكانته الاجتماعية.
اعتدت على الخروج وحدي لزيارة أهل الله في أمدرمان كلما وجدت إلى ذلك سبيلا، لكن خروجي ذلك اليوم إلى حي "بيت المال" في ذلك النهار، كان برفقة صديقتي"مي هاشم" و بعض الإخوان.
اشتدت رغبتنا في زيارته بعد استماعنا لقصيدته (يا عِمادي) ذات ليلة، وبدانا نخطط للسفر إلى منطقة "الحوش" بالجزيرة ، حيث يوجد ضريح والده المادح المخضرم الشيخ احمد ود تميم، ومسيده، ظناً منا انه دفن بجواره.
وكم كانت سعادتنا عارمة، عندما علمنا أن الشيخ محمد احمد ود تميم (الإبن)، له ضريح معلوم يزار ، في امدرمان بحي بيت المال.
وصلنا إلى ضريحه بسهولة، فجميع سكان بيت المال يعرفون ضريحه، لكن الحزن الغامر حل محل سعادتي، بمجرد رؤيتي لمكان موحش تسكنه الكلاب الضالة، وقبر الشيخ الجليل تكسوه خرق بالية ،ولا اثر للحياة سوى في شجرة "اللالوب" العتيقة التي تظلله ، وتلتصق به التصاق من يلوذ برفيقه ليمنحه الأمان.
جلسنا على تلك الارض حول الضريح، بعد ان قمنا بتنظيفها -بقدر الإمكان- من فضلات الكلاب وما تكدس في جنباتها من الاكياس والأوراق وغيرها مما خف حمله على الهواء.
وعندما بدأ إخوتنا في إنشاد قصائده، حضر شاب نحيل من المنزل الغربي الملاصق للضريح، عبر حائط مهدم بينه وبين منزلهم، وقام بواجب ضيافتنا، و كذلك إفادتنا ببعض المعلومات بذوق ولطف.
اشتهر الشيخ محمد احمد " ود تميم" بلقب (الإبن الآية)، إذ عانى والده راوي المديح الشهير الشيخ أحمد ود تميم من وفاة ابناءه ، فسأل الله في إحدى قصائده أن يعطيه إبناً آية في العلم والصلاح، ولعل الله استجاب لدعائه، فقد كان الشيخ محمد احمد ود تميم، مثالاً للعالم العابد المادح الزاهد،
بايع المهدي ورافقه سنين عددا، وقد نظم في مدحه عدد من القصائد، ثم تفرغ لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه ومدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى ان المهدي اطلق عليه لقب "باشة المداح".
أخبرنا الشاب المهذب ان جميع المنازل المحيطتة و المجاورة للضريح، بنيت على أرض " ود تميم" ، في تلك المساحة التى كانت تضم مسكنه وخلوته، وحكى لنا عن اختفاء "الدرويشة" التي كانت تسكن في ما تبقى من تلك المساحة، وكيف كانت تقوم بنظافة المكان و ري الشجرة وإكرام ضيوفه.
وعند مغادرتنا دعونا للشيخ المادح بالرحمة والمغفرة، وسالنا الله ببركته، وشكرنا ذلك الشاب على حسن استقباله، ووعدناه بالعودة قريباً لتلك البقعة الطيبة.
توقفت قبل خروجي بشكل لا إرادي لتأمل تلك الشجرة، وشعرت بالبرد والدوار عند ملامستي لجزعها، وبعد وصولي إلى المنزل احسست انها قد انبتت بداخلي غصن حنين يمتد ويتجدد إلى يومنا هذا.
عدت بعد فترة قصيرة فوجدت المكان قد تغير تماماً، حيث بدأ أحدهم بتشييد غرفة حول الضريح، وتغيير حالة المكان من النقيض إلى النقيض.
أحسست بالسعادة وانا انظر إلى الطلاء الاخضر و السيراميك والثريات المضيئة والمروحة والمزهريات، فقد بدأ المكان بوضعه الجديد يأخذ شكلاً اكثر احتراماً لمكانة الشيخ.
فرح أصدقائي بالتغيير الذي حل بالمكان، وتواعدنا على زيارته بعد عدة ايام، إلا ان انقباضاً في صدري، حثني على زيارته دون تخطيط مسبق.
وعند وقوفي على بابه، وجدت الشجرة العتيقة وقد اجتثت من ملاذها ورميت بمحاذاة الحائط الخارجي، وتناثرت اوراقها داخل وخارج المكان.، فجلست بقربها وبكيت، ثم حملت قطعة دائرية نشرت من قاعدتها بعناية، وجمعت ما استطعت من اوراقها وأغصانها، لكنها اختفت جميعها ما عدا ذلك الجزء المستدير، الذي أفتخر بوجوده في غرفتي، كمعلم وعلامة تشهد و تحكي قصة الوفاء والرفقة، وتحمل في اجزاءها الكثير مما تمنيت معرفته عن الإبن الآية، وحياته حتى وفاته، وقصة الكرامة التي صاحبت دفنه في تلك البقعة بالذات، والكثير من الأسئلة التي لم يعد لجيرانه الذين توسعوا في ارضه إجابات عنها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى