د. جميل حمداوي - قصيدة النثر أو شعر الانكسار؟

إلى الأستاذ محمد بهجاجي مقال حول عبد الله شريق




ظهرت في المغرب مؤخرا مجموعة من الكتب و الدراسات تتخذ قصيدة النثر موضوعا لها. ومن أهم هذه الدراسات:

الشعري و النثري لرشيد يحياوي-1-

ب- شيخوخة الخليل، بحثا عن شكل لقصيدة النثر العربية لمحمد الصالحي.-2-

ج- القصيدة الرؤيا: دراسة في التنظير الشعري لحسن مخافي.-3-

د- في شعرية قصيدة النثر لعبد الله شريق.-4-

وفي هذه الدراسة، سنركز على المحاولة التي ألفها الأستاذ عبد الله شريق، وهي دراسة مكثفة في ستين صفحة تقريبا. وتتضمن جوانب نظرية و تطبيقية علاوة على بعض التوصيات و المقترحات. وتستند هذه الدراسة إلى خمسة فصول على النحو التالي:

الحداثة و التراث في الشعر العربي المعاصر؛

إشكالية قصيدة النثر العربية؛

تحولات الشكل و التجربة في الشعر المغربي المعاصر؛

تجربة قصيدة النثر في المغرب: التصور النظري و الإنجاز النصي؛

قصيدة النثر وإشكالية الإيقاع.

و تمتح مرجعية عبد الله شريق في هذه الدراسة من كتابات الشكلانيين الروس ومن رواد الشعرية الغربية أمثال: هنري ميشونيك، وجون كوهن، و جاكبسون، وجان مولينو، وطامين، و الانفتاح على رولان بارت، وروني ويليك، وأوسطين وارين.أما على المستوى العربي، فينهل من كتابات أدونيس ومحمد بنيس و كمال أبو ديب و شكري عياد و يمنى العيد و محمد مفتاح ومحمد العمري.

ويلاحظ على هذه المرجعية التنوع والثراء المعرفي و التوفيق بين الحداثة العربية و الغربية، والانفتاح على التراث الشعري العربي الأصيل. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى سعة ثقافة عبد الله شريق و تمكنه من أدوات الشعر ومفاهيم الشعرية الإجرائية.

و ينطلق عبد الله شريق على المستوى النظري من تقديم نمذجة تصنيفية لإبدالات الشعر المغربي الحديث و المعاصر و تجاربه حاصرا إياها في:

1- التجربة الكلاسيكية

2- التجربة الرومانسية

3- التجربة الواقعية

4- التجربة الإسلامية

5- التجربة الحداثية

وقد استخلص الباحث هذا التقسيم من خلال قراءته للشعر العربي بصفة عامة، والمغربي بصفة خاصة. و يضيف كذلك تقسيما للتجربة الشعرية المرتبطة بالشكل إلى ثلاثة أنماط:

1/ التجربة الشعرية العامة المرتبطة بحركة شعرية أو جيل معين من الشعراء في مرحلة تاريخية محددة.

2/ التجربة الشعرية الفردية الخاصة بشاعر معين.

3/ التجربة الشعرية النصية المرتبطة بنص شعري معين أو بمجموعة من النصوص.

وبعد ذلك، يرى الدارس أن الشكل الجديد أو شكل الشعر الحر يضم مجموعة من التجارب الشعرية، كالتجارب الواقعية ذات الأبعاد الاجتماعية و السياسية التي تسترشد بالواقعية الاشتراكية، وتجارب يتداخل فيها الوجدان الفردي مع الوجدان الجماعي، وتجارب صوفية ووجودية، وتجارب ذات أبعاد إسلامية.

ولقد تناول عبد الله شريق إشكالية الحداثة و التراث في الشعر العربي المعاصر، والمغربي خصوصا، مبينا أن الشعر المعاصر اتخذ طابعا حداثيا من سماته: الغموض والرمزية والتشكيل البصري.

و يلاحظ أن هناك كسادا شعريا بسبب غياب القارئ و تمييع الحداثة، والتخلي عن توظيف التراث الإيجابي توظيفا إبداعيا فنيا يخدم العمل الأدبي ويحقق الحداثة والعولمة الحقيقية. وقد ذكر مجموعة من الأوهام الأدونيسية التي ميعت الحداثة، وسجلت انفصال الشاعر عن تراثه؛ كوهم الزمنية والاختلاف عن القديم و المماثلة والتشكيل النثري و الاستحداث المضموني.

هذا، ويسجل الدارس ثلاثة مواقف من توظيف التراث في الشعر:

موقف تقليدي محافظ يمثله التيار التراثي الذي يرتكن إلى الاجترار وتقديس الماضي.

موقف حداثوي ضعيف أو قليل التعامل مع التراث وانفتاحه على الحداثة الغربية باعتبارها مصدر الإبداع و التجديد و الفرادة والتميز.

موقف حداثي يتعامل مع التراث برؤية فنية إبداعية، وكثير من تجارب الشعر المغربي المعاصر على الخصوص تندرج ضمن الموقف الأخير.

ويحدد الباحث كذلك طبيعة التعامل مع التراث في هذا الشعر المعاصر، فيقرر أن هناك ثلاث طرائق في التوظيف:

طريقة ديكورية بسيطة للرموز التراثية.

طريقة جزئية لبعض الرموز التراثية.

طريقة كلية لبعض الرموز التراثية.

وبعد هذا التصور النظري العام حول طبيعة الشعر المغربي والعربي: تصنيفا ونمذجة لتجاربه و تعامله مع التراث، ينتقل الباحث إلى قصيدة النثر لدراستها أجناسيا و نظريا و تطبيقيا.

يرفض عبد الله شريق مصطلح« قصيدة النثر» وكل المفاهيم التي تمت بصلة إليها؛ لأن هذا المفهوم يجمع بين جنسين متناقضين، كل واحد له ثوابته و قواعده. بينما قصيدة النثر هي إبدال من إبدالات الشعر العربي الحديث و أحد أشكاله الجديدة؛ لذلك يختار مصطلح «التجربة الشعرية الجديدة»، بدلا من( القصيدة النثرية) التي هي ترجمة حرفية ل«poème «en prose، عنوان كتاب سوزان برنار Susan Bernard-5- الصادر سنة 1959. وقد عملت مجلة «شعر» اللبنانية على إشاعة هذا المصطلح في الساحة العربية الأدبية والنقدية. وقد سبب هذا المفهوم بلبلةأجناسية وتلفيقا مما جعل الدكتور عز الدين المناصرة يكتب دراسة بعنوان: قصيدة النثر جنس كتابي خنثى-6-، أي يجمع بين مقومات الشعر والنثر.

أما عبد الله شريق فينطلق من داخل جنس الشعر ليعتبر المنتوج الجديد تنوعا من تنويعات الشعر و إبدالاته قائلا: إن« القارئ المتتبع سوف يلاحظ أن النماذج الجيدة في قصيدة النثر تتوفر على هذه الخصائص [الشعرية مثل:التشكيل اللغوي، والتشكيل الإيقاعي، والرؤيا الشعرية]، أما النماذج الضعيفة في مستواها الفني والإبداعي فهي أقرب إلى النثر العادي من الشعر علما بأن الجنس الأدبي، ونحن هنا بصدد الشعر، يخضع للتحديد و التحول الداخلي و ليس ذا طبيعة، مع محافظته طبعا على هويته الأساسية و عناصره الجوهرية المميزة له كنوع أدبي».-7-

و يذهب الباحث إلى أن قصيدة النثر ظهرت في العالم العربي« منذ أواخر الخمسينيات مع الماغوط وأنسي الحاج و يوسف الخال وغيرهم، تطويرا وتحويلا لتجربة أدباء المهجر. أما في المغرب فلم يتبلور[ هذا الشكل الجديد] إلا مع أواخر السبعينيات على الرغم من المحاولات المحدودة التي ظهرت من قبل»-8-.

و إذا كان كثير من المبدعين و النقاد يرفضون هذا المولود الجديد الذي يسمى (قصيدة النثر) بسبب إهماله للإيقاع الخارجي-9-، فإن عبد الله شريق يعترف بشعريته إذا كانت النصوص جيدة و التجارب الإبداعية صادقة ذات رؤيا إنسانية وفلسفة جادة، ولا تنفصل عن تراثها بشكل من الأشكال، وترتكز، بالتالي، على التشكيل الإيقاعي؛ لأنه دال جوهري عند هنري ميشونيك، بينما الوزن الخارجي ليس ضروريا مادامت هناك دوال إيقاعية أخرى تساهم في إثراء الإيقاع الداخلي للقصيدة كالتكرار الصوتي، و التوازي بكل أنماطه، والتجانس الإيقاعي، والترديد الموسيقي، والتشكيل الهندسي لفضاء النص.

وعلى مستوى التطبيق، اختار عبد الله شريق متنا شعريا مغربيا يشكل ما يسمى ب( قصيدة النثر) أو( التجربة الشعرية الجديدة).وقد اعتمد على نصوص مجموعة من الشعراء المغاربة أمثال: محمد بوجبيري، وحسن نجمي، ووفاء العمراني، وإدريس علوش، وعز الدين حمروش، وحسن الوزاني، وعبد السلام موساوي، وإدريس عيسى، ومحمد عبد الغني، والزهرة المنصوري، وأحمد هاشم الريسوني، وأحمد محمد حافظ ،ومحمد حجي، ووداد بنموسى، وجمال موساوي...

و استخلص الباحث من خلال قراءته لهذه النصوص الشعرية مجموعة من الملاحظات و الاستنتاجات قد تساهم في تجنيس قصيدة النثر وتقعيدها، وتتمظهر في انطباعات تقويمية و تصورات نظرية و منهجية يراد منها توجيه دفة هذه التجربة الشعرية الجديدة و تأطيرها تأطيرا إيجابيا.

و هكذا يصل الدارس إلى أن الشعر المغربي المعاصر«عرف نفس التحولات الكبرى التي عرفها الشعر العربي بالمشرق في الأشكال والتجارب العامة، مع اختلافات جزئية نسبية، و هو في الوقت الراهن يتنازعه شكلان حداثيان عامان هما: شكل الشعر التفعيلي أو الحر، و شكل الكتابة الجديدة أو قصيدة النثر. وأحيانا تتداخل مميزات هذين الشكلين في بعض النصوص. أما شكل القصيدة التقليدية فقد أصبح حضوره ضعيفا ومحدودا.»-10-

فعلى مستوى البناء النصي الهيكلي ثمة ثلاثة أنواع:

نصوص قصيرة مقتصدة على شكل ومضات أو مشاهد وصور تلتقط حالات و لحظات محددة بإيجاز وكثافة.

نصوص قصيرة أو متوسطة الطول ذات بناء شبه دائري يقوم على التوازي التركيبي و الدلالي.

نصوص طويلة نسبية متعددة المقاطع و ذات طبيعة مركبة ومتنامية في بنائها يتقاطع فيها الغنائي مع السردي أو الدرامي، أو يهيمن أحدها عليها.

و إذا انتقلنا إلى الإيقاع، فهناك كذلك ثلاثة أشكال من النصوص الشعرية:

1- نصوص لا تهتم كثيرا بالإيقاع إلا ما جاء عفويا، وتعنى أكثر بشعرية الصور و التركيب و الدلالة.

2- نصوص توظف التكرار و التوازي.

3- نصوص يتقاطع فيها أحيانا إيقاع التفعيلة مع إيقاع التكرار و التوازي من غير خضوع للتقنينات العروضية الصارمة.

أما على مستوى اللغة و التركيب، فيلاحظ أن النصوص الشعرية النثرية المغربية توظف إما لغة الانزياح والخرق والرمز، و إما لغة الحديث اليومي، وإما تستعمل أسلوب السرد والحوار.

و ينتج عن هذا تعدد للرؤى الشعرية العامة إذ تصدر بعض النصوص الشعرية الجديدة عن رؤية ذاتية، أو رؤيا يتشابك فيها الوجدان الفردي بالوجدان الجماعي، و تنفتح على آفاق اجتماعية ووطنية و إنسانية، وهناك نصوص تهيمن عليها ظلال الرؤيا الصوفية اجترارا و تناصا وامتصاصا، كما توجد ملامح الرؤيا الوجودية والسريالية في نصوص أخرى.

ومن ثم، فقصيدة النثر في المغرب- يقول الدارس- اتخذت أشكالا« ورؤى متباينة، ونهلت من منابع متعددة، فهي تجربة تتقاطع فيها النصوص الطويلة و القصيرة، البسيطة و المركبة، ويتداخل فيها الغنائي و السردي، الدرامي و التشكيلي، الزمني واللازمني، ويتشابك فيها الذاتي والإنساني، اليومي و الواقعي، الصوفي والمأساوي، الفوضى و النظام، الوحدة والتشظي، الانسجام واللانسجام... وهي ذات مستويات شعرية متفاوتة، فيها النثري البسيط والشعري المتألق، و فيها السطحي و العميق، والمقلد، وفيها السطحي والعميق، و المقلد المكرر و المبدع الخلاق»-11-

وعلى مستوى الاقتراحات، يوصي عبد الله شريق الشعراء المعاصرين أوشعراء التجربة الشعرية الجديدة ألا يتخلوا عن التراث، وأن يوظفوه توظيفا إبداعيا جيدا، بطريقة يتطلبها السياق والمقال و الرؤيا الشعرية قصد خلق حداثة متميزة. ويدعو كذلك إلى عقد مؤتمر عربي أدبي حول قصيدة النثر تحت إشراف اتحاد الأدباء العرب أو اتحاد كتاب المغرب أوبيت الشعر في المغرب( يرأسه محمد بنيس زعيم القصيدة النثرية بالمغرب وتلميذ أدونيس)، أو أية مؤسسة ثقافية عربية أخرى، بحضور الشعراء و النقاد لإيجاد مصطلح بديل ل«قصيدة النثر». وقد سمعنا فعلا حسن نجمي رئيس اتحاد كتاب المغرب يقترح في برنامج الاتحاد لهذه السنة(2003- 2004) عقد مؤتمر عربي لقصيدة النثر. و هذا المؤتمر ليس فقط لتحديد المصطلح كما يقول الدارس، بل أيضا في- رأيي- و هو الأهم لوضع معايير تجنيسية لهذه القصيدة الجديدة و تقنينها؛ وإلا سيتعذر علينا و على النقاد والمبدعين أن يميزوا بين الشاعر و المتشاعر والشعرور و الشويعر.وقد لاحظنا في هذا العقد الأخير زخما من النصوص الشعرية تدعي أنها تنتمي إلى قصيدة النثر ،وهي لا علاقة لها بالشعر أصلا ولا بالقصيدة النثرية أيضا. فلا يعني أن نوظف الانزياح والاستعارات والغموض والإبهام لندعي بأننا شعراء، فكل الناس يوظفون هذه الخصائص في كلامهم وليسوا شعراء؛ لأنهم يحيون بها في حياتهم.

ويقترح الباحث كذلك اقتراحا آخر ويشدد عليه أيما تشديد ألا وهو ضرورة حرص شعراء التجربة الشعرية الجديدة على التشكيل الإيقاعي الذي يختلف اختلافا كثيرا عن قواعد الوزن الخليلي و بنوده في القافية والروي.

ومن خلال قراءتي المتواضعة لهذه الدراسة المفيدة والمركزة، أرى أنها دراسة نظرية و تطبيقية و توجيهية تقوم على النقد الأجناسي أو شعرية « قصيدة النثر». بيد أن هناك بعض الملاحظات الإضافية على هذه الدراسة التي لا تنقص من قيمتها، بل تعمق النقاش في ما تطرحه من آراء و مفاهيم.

بادئ ذي بدء، يلاحظ في البداية التداخل في فصول الكتاب و تكرار في الأفكار والمعلومات؛ وهذا راجع إلى أن الكتاب عبارة عن مقالات منفصلة قيلت أو أعدت لتقال في مهرجانات و ندوات خاصة بالشعر المغربي المعاصر. ويلاحظ أيضا أن الدارس لم يحدد قواعد التجربة الشعرية الجديدة و معاييرها التجنيسية بدقة وضبط واضح مادام يبحث في شعرية قصيدة النثر، كما أن أدوات التشكيل الإيقاعي في القصيدة الجديدة كالتكرار و التوازي...محدودة جدا، بينما هناك أنماط إيقاعية ودوال موسيقية كثيرة يمكن استمدادها من التراث البلاغي و الشعري القديم أومن خطاب الصور البلاغية الغربية. «La rhétorique»

ولم يحدد لنا الدارس كذلك الاستحداث المضموني في هذه النصوص الشعرية أوما تميزت به القصيدة النثرية على مستوى المواضيع والتيمات و الأبنية بالمقارنة مع القصيدة التفعيلية المغربية أو العربية بصفة عامة. ولم يبين لنا السياق التاريخي والسوسيولوجي الذي أفرز هذا الخطاب الشعري الجديد في المغرب و دلالات انكساره في علاقته بالواقع، علما أن ما ذكره الباحث من حيثيات سياقية خارجية تنطبق كذلك على الشعر التفعيلي. وما ينبغي أن يثار هنا كذلك، هل شبع القارئ المغربي من نصوص شعر التفعيلة؟ََ‼وهل كانت هناك نماذج جيدة ارتاح لها المتلقي؟‼ وعلى ماذا يعبر هذا الكساد في الدواوين الشعرية وانقطاع القراء عن الإقبال على دواوين الشعرية المغربية؟‼ وهل وصلنا إلى مرحلة قصيدة النثر واللاعقلانية، ونحن لم ندخل بعد إلى مرحلة العقل والنظام و التقنين و شفافية الديمقراطية؟‼ هل يعقل أن نقفز إلى اللاعقل ونحن لم نجرب العقل بعد أن تخبطنا في «البيان» خبط عشواء؟‼

وإذا انتقلنا إلى المصطلح الذي يرتضيه الأستاذ عبد الله شريق«التجربة الشعرية الجديدة»، فنجده غير واضح؛ لأن المعيار الزمني هنا غير محدد بدقة لوجود تداخل في الأجيال و قفز على النصوص؛ إذ هناك من يكتب شعر التفعيلة ومازال الشعراء يكتبونها، وفي نفس الوقت هناك من يكتب الشعر المنثور، ويمكن في أية لحظة أن تفاجئنا تجربة شعرية جديدة، فيصبح هذا المعطى لا يعبر عن هذا الجديد. لذلك أسمي شخصيا هذه التجربة الشعرية الجديدة إما بالشعر الحر، و إما بشعر الانكسار.وماكان يسمى بالشعر الحر سيسمى بشعر التفعيلة؛ لأن ما كتبه السياب و نازك الملائكة ينبني على احترام التفعيلات العروضية، وهنا أوافق تسمية جبرا إبراهيم جبرا الذي يقول:«الشعر الحر، ترجمة حرفية لمصطلح غربي هو (free verse) بالإنجليزية، (vers libre) بالفرنسية. وقد أطلقوه على شعر خال من الوزن والقافية كليهما. إنه الشعر الذي كتبه والت وايتمان، وتلاه فيه شعراء كثيرون في أدب أمم كثيرة. فكتاب الشعر الحر بين الشعراء العرب اليوم، هم أمثال محمد الماغوط و توفيق صايغ وكاتب هذه الكلمات. في حين أن قصيدة النثر هي القصيدة التي يكون قوامها نثرا متواصلا في فقرات كفقرات أي نثر عادي»-12-

وهذا المفهوم نجده كذلك عند سركون بولص الذي يعد من أبرز رواد قصيدة النثر في الشعر العربي منذ الستينيات من القرن الماضي:« نحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطئ وفي الشعر العربي عندما نقول قصيدة النثر نتحدث عن قصيدة مقطعة، وهي مجرد تسمية خاطئة. وأنا أسمي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحر كما كان يكتبه إيليوت وأودن وكما يكتبه شعراء كثيرون في العالم الآن، وإذا كنت تسميها قصيدة النثر فأنت تبدي جهلك؛ لأن قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير و رامبو ومالارميه وتعرف ب(Prose Poem)أي قصيدة غير مقطعة».-13-

إذاً، فالشعر الجديد ينطبق عليه مصطلح الشعر الحر؛ لأنه يتحرر من الوزن والإيقاعات العروضية المعروفة، أي- باختصار-إن قصيدة النثر قتلت الخليل وأعلنت شيخوخته على حد عنوان كتاب محمد الصالحي.-14-

و أفضل مصطلحا آخر أكثر تعبيرا و دقة ألا وهو " شعر الانكسار"؛ لأن القصيدة الجديدة كسرت كل شيء، وخرجت عن كل معايير الكتابة الشعرية القديمة وطرائق شعر التفعيلة وأوغلت في الانزياح و التمرد والخرق والفوضى على كل الأصعدة والنواحي الموضوعية والفنية والتشكيلية.

و يذهب عبد الله شريق إلى أن البدايات الأولى لقصيدة النثر ظهرت " في المشرق منذ أواخر الخمسينيات مع الماغوط و أنسي الحاج ويوسف الخال وغيرهم، تطويرا و تحويلا لتجربة أدباء المهجر."-15- لكن أرى أن شعر الانكسار أو قصيدة النثر ظهر أو ظهرت مع بداية الشعر التفعيلي منذ أواخر الأربعينيات؛ بل يمكن أن نجد للشعر المنثور جذورا قديمة وحديثة تعود إلى السرد القديم، و إلى كتابات مصطفى صادق الرافعي خاصة في كتابه" رسائل الأحزان"، وكتابات المهجريين أمثال: جبران خليل جبران وأمين الريحاني و ميخائيل نعيمة...

ويذهب شربل داغر في كتابه" الشعرية العربية الحديثة"إلى أن قصيدة النثر" لم تكن، تاريخيا وإنتاجيا، منفصلة أبدا عن حركة الشعر الحر. فبداياتها ترقى بدورها إلى نهاية الأربعينيات مثل حركة ( الشعر الحر). كما أننا نجد شعراء يكتبونها منذ بداية الخمسينيات. وفي مجلة الآداب تحديدا. إنهم شعراء من سوريا و فلسطين، لا من لبنان فقط: محمد الماغوط، جبرا إبراهيم جبرا، توفيق الصايغ، نقولا قربان، أنسي الحاج..."-16-، بل يرى شربل داغر أن" ديوان سريال للشاعر السوري أورخان ميسر، الذي نشر بعد موته في 1979، عن منشورات اتحاد كتاب العرب بدمشق... يكشف عن وجود قصائد نثرية ترقى إلى نهاية الأربعينيات."-17-

ومن الضروري بعد كل هذا أن نحدد مجموعة من الضوابط والمعاييرالتجنيسية لتحديد شعر الانكسار أو ما يسمى بقصيدة النثر على حد تسمية سوزان برنار، وهي معاييراستنبطناها من الدراسات التي كتبت حول قصيدة النثر أو التجربة الشعرية الجديدة كما يسميها عبد الله شريق.

و إليكم هذه المعايير و الضوابط التي تحدد إلى حد ما شعرية شعر الانكسار:

1- إعلان نية التجنيس أو القصدية في الكتابة،

2- الإيقاع الداخلي أو إيقاع التجربة؛

3- الانسياب أو الجريان المسترسل؛

4- الانكسار و التشويش والتمرد والتمرد على الانتظام؛

5- اللاعقلانية؛

6- بلبلة الأنواع الأدبية؛

7- نثرية اللغة؛

8- تكسير أفق القارئ و تخييب توقعه على مستوى التلقي؛

9- الإكثار من الإبهام والغموض؛

10- التنويع في التشكيل الفضائي و البصري؛

11- الجمع بين الشاعرية و النثرية؛

12- التمادي في الانزياح و الخرق الأسلوبي و البلاغي؛

13-التجريب و التثوير نحو المجانية والفوضى و التبعثر و التمرد؛

14- الوحدة النصية بدل وحدة البيت أو الجملة الشعرية؛

15- التكثيف الإيحائي و التركيب الإشراقي؛

16- تيمات الحداثة( الجنوح نحو الذات والجنون والروح والحرية والثورة على العقل والتقنين و حضارة المدينة...)؛

17- الشعر الرؤيا.

و خلاصة القول: يبقى عمل عبد الله شريق في هذه الدراسة القيمة عملا مثمرا ومفيدا لا يستهان به. ولايمكن لأي باحث إذا كان يدرس القصيدة النثرية القفز عليه لما يطرحه من أدوات و مفاهيم في مقاربة القصيدة النثرية: فهما وتفسيرا، أوتفكيكا و تركيبا. ولايمكن كذلك الاستغناء عن هذا العمل لما يزخر به من توجيهات ومقترحات هامة و مقاربات نظرية و تطبيقية و أجناسية ناجعة و فعالة ، ولاسيما أن هذه المحاولة بداية جادة لطرح الأسئلة و الإشكاليات المتعلقة بشعرية هذه الكتابة الجديدة و طريقة التعامل معها إبداعا و نقدا و توجيها، وإلا سيبقى باب القصيدة النثرية مفتوحا لكل من هب و دب، وسيؤدي ذلك إلى تمييع الشعر وكساده كما هو الواقع الآن.

الهوامش:

1- رشيد يحياوي: الشعري و النثري، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 2001؛

2- محمد الصالحي: شيخوخة الخليل، بحثا عن شكل لقصيدة النثر العربية، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 2003؛

3- حسن مخافي: القصيدة الرؤيا، دراسة في التنظير الشعري، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 2003؛

4-عبد الله شريق: في شعرية قصيدة النثر، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 2003؛

5- Bernard‚ Susan : jusqu’à nos jours Le poème en prose de Baudelaire.Librairie Nizet‚ Paris‚ 1959.

6- د.عز الدين المناصرة: قصيدة النثر جنس كتابي خنثى، منشورات بيت الشعر، فلسطين1998؛

7- عبد الله شريق: في شعرية قصيدة النثر، ص:16؛

8- نفسه، ص:28 الهامش؛

9- مثل نازك الملائكة في كتابها: قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط6/1981، ص: 213؛

10- عبد الله شريق:نفسه، ص:29؛

11- نفسه، ص:41؛

12- محمد جمال باروت: ( الحداثة الأولى)، المعرفة، العدد283-284، 1985، ص:121؛

13- سركون بولص: ( حوار)، نزوى، عدد6، أبريل 1996، ص: 188؛

14- محمد الصالحي: شيخوخة الخليل، بحثا عن شكل لقصيدة النثر العربية، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 2003؛

15- عبد الله شريق: نفسه، 28؛

16- شربل داغر: الشعرية العربية الحديثة، تحليل نصي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1988، ص:60؛

17- شربل داغر: الشعرية العربية الحديثة، ص: 60، الهامش.

ملاحظة: الدكتور جميل حمداوي( عمرو)، ص.ب:5021 الناظور ، المغرب/JAMIL HAMDAOUI AMAR




د. جميل حمداوي - المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى