د. خالد أقلعي - سمات القصة: قراءة في تصور خوليو كورتاثار النظري

ولد خوليو كورتاثار ببروكسيل البلجيكية سنة 1914 من أبوين أرجنتينيين. قضي في الأرجنتين أكثر من ثلاثين سنة قبل أن يستقر في باريس سنة 1961 بعد أن أبعدته السلطات الديكتاتورية في بلاده. وبها قضي سنة 1984 وكان صنع لنفسه اسما أدبيا جعله من كبار أدباء القرن الماضي. ونظرا لما تكتسيه آراء كورتاثار من أهمية ودقة في كشف خصوصيات القصة القصيرة وابراز مكامن قوتها، نقدم لعشاق هذا الجنس الأدبي الشقي، ابداعا ونقدا، قراءة في هذه الآراء .في أثناء تأملاته بخصوص مظاهر القصة القصيرة وسماتها الفنية النوعية يحذر خوليو كورتاثار من أثر الصدمة التي قد تحدثها آراؤه في القراء، مشدّدا علي خصوصية تحديده هذا الجنس السردي الذي يعشقه ويستمد منه القدرة علي ادراك مكونات هذا العالم وعلاقاته بأسلوب متميز مخصوص. ويحرص كورتاثار، تبعا لذلك،علي تصنيف معظم ما كتبه من قصص ضمن (النوع السردي الخارق) الذي يتعارض، من وجهة نظره، والسرد الواقعي المزيف (1). يكفر كورتاثار، اذن، بهذا النوع من القصص الواقعي ويعلن: أما بالنسبة اليّ، فان من بين المبادئ التي حفزت بحثي الشخصي عن أدب يوجد علي هامش كل واقعية بالغة السذاجة، الشك في وجود نظام آخر أكثر سرية وأقل تصريحا، فضلا عن اعتقادي القوي في اكتشاف ألفريد جاري الواعد الذي يعتقد في أن الدراسة الحقيقية للواقع لا ينبغي أن تستمد من القوانين المتحكمة فيه، وانما من استثناءات هذه القوانين (2).والحق أنه مهما اختلفنا مع مضمون هذا الشاهد، فانه يزكي بشكل واضح ميل كورتاثار الي كل ما هو استثنائي في الكون القصصي، سواء من ناحية الموضوعات أو الأشكال التعبيرية، ما يسهم في تفسير الموقع الذي يتخذه أثناء كتابته القصة القصيرة أو نقده لها، وتنظيره.يخامر كورتاثار شعور قوي بأن ثمة حضورا لثوابت وقيم تحكم كل القصص علي وجه الاطلاق، خارقة كانت أو واقعية أو دراماتيكية أو رمزية… وهي بمنزلة سمات تُعلّم القصة الجيدة وتصون ما يعتريها من أجواء متخيلة أو لحظات جمالية. غير أنه يعتقد، في نفس الآن، ألا أحد يملك أن يدعي بأن كتابة القصص لا يمكن أن تتأتي لمن لم يطلع علي قواعد كتابتها لأنه ليست هناك قوانين محددة يمكن اعتمادها في كتابة القصص، اللهم ما يمكن اعتباره بمنزلة وجهة نظر، أو ثوابت تمنح هذا الجنس العصيّ تكوينا معينا (3). ان سؤال القصة القصيرة، من حيث هي جنس أدبي مخصوص، لا يبدو حديثا قليل الأهمية بالنسبة لكورتاثار، اذ أنه يمنح المتأمل الفرصة ليكوّن فكرة مقنعة حول هذا الشكل المتميز من أشكال التعبير الأدبي، فكرة تسهم في تشييد سلّم قيم للأنطولوجيا النموذجية التي ينبغي أن تكونها القصة القصيرة(4).وحتي يتمكن من تبديد اللبس وسوء الفهم الحاصلين في هذا المجال يعلن كورتاثار عن ضرورة تأمل وتيرة الابداع القصصي ذاتها، التي لم تتأثر بكم الأسئلة الحرجة المثارة حول خصوصيات هذا الجنس الأدبي ونوعيته.. اذ من الأنسب، في نظره، أن يكوّن المبدع فكرة حيّة حول ماهية القصة القصيرة، رغما عن صعوبة ذلك نتيجة ثورة الأفكار عن معايير الرصد والضبط:فاذا لم تكن لدينا فكرة حيّة حول ماهية القصة نكون، في واقع الأمر، بددنا كثيرا من الوقت. اذ ان القصة،في نهاية المطاف، تنمو في اطار هذا المخطّط البشريّ حيث يحرّر كلّ من الحياة والتعبير المستمد منها معركة أخوية، ان صحّ القول، تكون نتيجتها القصة ذاتها، تركيبا حيّا وبالمرة حياة مركبة، شيئاً هكذا، مثل اهتزاز الماء في جوف صحن زجاجي، فناء في ثبات.. ان ارسال هذه الكيمياء السرية،التي تفسر الانطباع الحسن الذي تحدثه فينا قصة جيدة وقصص عظيمة أخري، لا يمكن أن يتم الا بواسطة الصور (5).ولا شك في أن أهم السمات الفنية التي يمكن استخلاصها من هذا التصور الدقيق لكيفية صياغة الفكرة قصصيا تكمن في أهمية معيار الصورة في قراءة القصة وتذوق شهد لحظاتها الجمالية المكثفة والمركزة.يدعونا كورتاثار، بعد ذلك، الي مقارنة القصة القصيرة بالرواية: الجنس الأدبي الأكثر شعبيا ورزءا تحت غزارة الافتراضات النقدية. اذ ما أكثر ما يتم الاعلان بأن الرواية لا تتطور الا علي الورق ولحظة القراءة تحديدا، وأن حجمها لا يتحكم فيه سوي نفاذ المادة الروائية، في حين تبدو القصة القصيرة جزءا من معرفة الحدود، الحد الفيزيقي بالدرجة الأولي، حتي أطلق الفرنسيون اسم نوفيل علي كل قصة يتجاوز عدد صفحاتها العشرين. أما مقارنة كل من القصة القصيرة والرواية، تناظرا، بكل من السينما والفوتوغرافيا، فيمكن أن تتم قياسا الي أن الفيلم، في الأساس، بمنزلة (نظام مفتوح)، روائي، بينما تستلزم صورة فوتوغرافية مأخوذة بدقة تحديدا مسبقا، مشروطا برحابة الحقل المحيط بعدسة التصوير، من جهة، وبالشكل الذي يستعمل به الفوتوغرافي جماليا هذا التحديد من جهة أخري (6). ويتساءل كورتاثار حول ما اذا سبق لأحد أن سمع فوتوغرافيا يتحدث عن فنه، مؤكدا علي أنه غالبا ما يفاجأ بحقيقة أن يعبر الفوتوغرافي بنفس القوة التي يعبر بها القصاص، وأن فوتوغرافيين في مستوي كارتيي بريسون أو براساي يشكلون آثارهم الفنية استنادا الي تناقض ظاهري: انتقاء عينة من الواقع وتثبيت حدود معينة لها، ولكن بأسلوب يسمح لهذه العينة المنتقاة باحداث انفجار تدريجي يسمح بخلق واقع متخيل أكثر رحابة واتساعا.. تماما، كما (الرؤية) الحركية التي تكتسح بعبق روحي الحقل المرصود من قبل عدسة الكاميرا(7).بيد أن القبض علي هذا الواقع المتخيل الأكثر رحابة وتنوعا لا يتم في الحقل السينمائي كما في الابداع الروائي،بحسب كورتاثار، الا عبر نمو العناصر الجزئية للابداع وتطورها المتراكم، مع استحضار واع (لأجواء) التجربة الجمالية. وهو ما يتحقق بشكل عكسي في ابداع الفوتوغرافيين والقصاصين الذين يجدون أنفسهم ملزمين بانتقاء الصورة أو الحدث الدالين وتحديدهما ليس استنادا الي ما يتمتعان به من قيمة ذاتية،ولكن بالنظر الي مدي فعاليتهما في التأثير في المتلقي، وذلك بواسطة اختمار ينتج عنه ذكاء وحساسية نحو تكوين فني يمضي أبعد من الحكاية البصرية أو الأدبية الكامنة في الصورة الفوتوغرافية أو القصة(8).انظر كيف يضفي كورتاثار علي فكرته بعدا تشخيصيّا هو بمنزلة سمة مميزة لأسلوبه باعتباره منظرا قصصيا: أخبرني كاتب أرجنتيني، مغرم بالملاكمة، أن الصراع الذي ينشب بين نص مشوق وقارئه غالبا ما تفوز فيه الرواية (بالنقط)، في حين ينبغي علي القصة أن تفوز (بالضربة القاضية). وهذا صحيح قياسا الي أن الرواية تراكم تأثيراتها في المتلقي بشكل متنام، بينما يبدو الأمر حاسما في القصة الجيدة،لاذعا وبدون رأفة منذ العبارات الأولي. قد يبدو الأمر صعب الاستيعاب أدبيا لأن القصاص الجيد ملاكم ماكر، ومعظم لكماته الأساس تبدو، في الظاهر، غير ذات فعالية بينما هي، في الواقع، تلغّم المقاومة العنيدة للخصم (9). وسعيا منه الي اضاءة نقدية لهذا التصور التمثيلي الذي يجتهد لرصد الفروق الكامنة بين فعالية كل من الرواية والقصة القصيرة، يدعونا كورتاثار الي تأمل النصوص القصصية العظيمة، والعمل علي تحليل صفحاتها الأولي. اذ سوف يكون من المستغرب فعلا، حسب كورتاثار، العثور علي عناصر مجانية أو مجرد تفاصيل ديكور.. لأن القصاص يدرك جيدا أنه لن يستطيع احداث تراكم في غياب حليف أساس مثل المكون الزمني: ان مطلبه الوحيد هو الاشتغال في العمق، بشكل عمودي، سواء الي أعلي الفضاء الأدبي أو الي أسفله (10).ولعل هذا ما يجعل زمان القصة القصيرة وفضاءها محكمين بدقة، وخاضعين لتوترات شكلية وجوهرية حادة تسهم بفعالية في خلق الانفراج المنشود.وهنا يشكك كورتاثار في أهمية سؤال تقليدي حول رداءة نص قصصي ما، اذ أنه لا يعتبر الموضوع سبب هذه الرداءة استنادا الي اعتقاد راسخ لديه بأنه ليس في الحقل الأدبي موضوع جيد وموضوع رديء، وانما معالجة أدبية جيدة للموضوع ومعالجة رديئة. مثلما أن الحكم برداءة القصة استنادا الي أهمية الشخصية فيها يفتقر الي كثير من الصواب والحق أنه حتي الصخرة تكتسب قيمة وشأنا عندما تعتني بها أنامل كل من هنري جيمس أو فرانز كافكا (11).ان القصة القصيرة الرديئة،من وجهة نظر كورتاثار، هي تلك التي لا يعلن (التوتّر) عن وجوده التكويني بها منذ العبارات أو المشاهد الأولي. وهكذا تفسح لنا سمات الدلالة والحدة والتوتر الاقتراب بشكل كبير من جوهر القصة القصيرة وأسس تكوينها.يشتغل القصاص بأدوات يمكن وصفها (بالدّالة)، فمكون الدلالة في القصة القصيرة يكمن بشكل رئيس في موضوعها؛ بمعني أن القصة تكون دالة، بحسب كورتاثار،عندما تنجح في نسف حدودها الذاتية بواسطة هذا الانفجار الجوهري الذي يضيء، بشكل فجائي، تكوينا سرديا يمضي الي أبعد من (الحدوتة) الصغيرة، الحزينة أحيانا، التي يقصصها: أفكر، مثلا، في موضوع معظم قصص أنطون تشيخوف القصيرة. هل تتضمن غير ما هو يومي، ضعيف، منسجم وغير ذي نفع ثوري؟ ما يحكي في هذه القصص أشبه ما يكون بنظيره الموجه الي الأطفال(…) ومع ذلك تبدو قصص كل من كاترين مانسفيلد وتشيخوف دالة. ثمة وجود لشيء ما في تكوينها يقترح علينا، اثر قراءتها، نوعا من القطيعة مع كل ما هو عادي. شيء أبعد بكثير عن الحكاية الموصوفة (12).ان الدلالة الملغزة، بحسب كورتاثار، لا تكمن طيّ مضامين القصة وحسب، لأن معظم القصص الرديء يتضمن، في حقيقة الأمر، حلقات شبيهة بتلك التي يعالجها القصص الجيد. بهذا يصح الاعتقاد في أن فكرة الدلالة في القصة القصيرة لا يمكن أن يكون لها مغزي بعيدا عن علاقتها بالكثافة والتوتر،الآن، بعد أن لم يعد يُنظر اليها من زاوية الموضوع فقط، وانما من المعالجة الأدبية لهذا الموضوع، ومن التقنية المستخدمة لغرض تطويره عند هذه النقطة بالضبط يبرز الفرق الكامن بين قصاص جيد وآخر رديء (13).ويعتقد كورتاثار أن الموضـــوع الذي يصدر عن قصة ما هو دائما موضوع استثنائي،من غير ضرورة أن يكون خارقا للعادة، ملغزا أو غير مألوف. علي العكس تماما، قد يتعلق الأمر بحكاية تافهة وعادية جدا: ان الاستثناء يكمن في خاصية أشبه ما تكون بالمغنطيس، موضوع جيد يستلزم، بالضرورة، نظاما من العلاقات المترابطة، تخثر عند المؤلف، وعند القارئ في وقت لاحق، كمية ضخمة من التصورات والتنبؤات والمشاعر، وحتي أفكارا تطفو افتراضيا في مخيلته ووجدانه، موضوع جيد مثل الشمس، نجم متحرك يسبح في فلك سيّار لا نفطن اليه الاّ بعد أن ينبهنا القصّاص، فلكي الألفاظ، الي وجوده (14). وينتهي كورتاثار الي التساؤل عن ميزة بعض القصص الخالدة التي نعجز عن نسيانها في اللحظة التي تنمحي فيها من ذاكرتنا عشرات القصص الأخري: تمر الأيام، وينجح الانسان في نسيان أشياء كثيرة.. ولكن تبقي القصص الصغيرة الدالة، ذرات الرّمل هذه في محيط الأدب الشاسع، متحدية كل نسيان (15).



ہہ يجدر التنبيه الي أن خوليو كورتاثار يطلق اسم القصة ويقصد بذلك القصة القصيرة، والكل يعلم الفروق التكوينية الكامنة بين الجنسين
.ـ Ibid : 1 وهو الفيلسوف والمفكر الفرنسي صاحب نظرية La patophysique أو علم الحلول المتخيلة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى