محمد بودويك - يومَ كِدْنا نموتُ غَرَقاً، ويومَ أكَلْنا الجَرادَ

كم مرَّةٍ هَدَّدَنا الموتُ والهلاكُ. كم دُفِعْنا، في كل اتجاه، كالقطيع الذاهل وقد خضَّهُ العواء البعيد أو القريب، وفرقته، أيدي سبأ، جماعةٌ من الكلاب الضالة المسعورة، أو أسرابٌ من العِقْبان والغِربان وهي تنعق وتدفدف عازفة بأجنحتها الغدافيةِ الرهيبة، موسيقا الفناءِ والإفناءِ.
خَضْخَضتْنا أخبارُ موتانا العمالِ الذين كانوا يموتون اختناقاً تحت ركام الغبار الأسود، والرُّدَم الفحمية المفاجئة، وبـ « السيليكوز «. وهَزْهَز،َ هناءَتَنا، وباءُ الكوليرا، ومرضُ الحصبة، و» لْكْرينة لْكَحْلَة « التي كانت تحصد أرواح الصغار، والصغيرات الأبرياء، في غياب أمصالٍ وتمنيعٍ تَقِيهم غائلةُ الموت المتربص الغادر، أو في غياب مَشافٍ قريبة من المداشر والدواوير المبثوثة والنابتة في خواصر الجبال والوديان.
لكن وَقْعَ الموت الجماعي ـ هذه المرة ـ لا سابقَ له، وتهديده لنا.. للساكنة طُرّاً، لا مثيلَ له، إذْ أنَّ السماء التي هاجمتها، على حين غرة، أمواجٌ مُزَمْجرةٌ متلاطمةٌ من غيوم صفراءَ غاضبةٍ متوعدةٍ؛ وظلماتٌ فوق ظلماتٍ سوداءَ ناعبةٍ تنذر بالويل والثبور، وتهدد بأهوالٍ لا قِبَلَ لنا بها، لا قِبَل لآبائنا وأمهاتنا، والساكنة بها الذين هُرِعوا ذاهلين يتنادون، وينادون أبناءهم وبناتهم، وقد بلغت القلوبُ الحناجرَ، أن يتجمعوا، ويغادروا منازلهم على الفور. فالخَطْبُ جسيمٌ، وما سيأتي عقابٌ إلهيٌّ عظيمٌ. طفق الجميع يبسمل ويحوقل، ويقرأ اللطيف، والمعوذتين، وآية الكرسي. صارت النساء يندبن ويولولن، والرجالُ يستغفرون ويتوسلون، ويبتهلون. كأن القيامةَ قامتْ، والساعة دقتْ، والسماء انشقتْ، وأذنت لربها وحُقَّتْ، ورمتْ بغضبها وغيظها المكبوت، دُفْعَةً واحدةً إلى الأرض. حبالٌ متداخلةٌ « مُتهارشةٌ «، متلاحقة لاَهِثَةٌ من أمطار ورياح. أفواهٌ قِرَبٍ مفتوحةٌ على سَعَتِها، ودِلاءٌ، عَرْضُها عرضَ السماوات والأرض، تُصَبُّ صبّاً، وتنزل ماءً مِدْراراً، وسيولاً على الخَلْقِ، على المنازل والمساكن، والسُّوح، والحارات والأحياءِ، وسط صراخٍ وعويلٍ، وَتَنادٍ يقطع نياط القلوب. يا لَلْماء « الفاجر» يعلو علواً فيمتطي ويجرف في صعوده ونزوله، وهجومه، وهياجه، الأغطيةَ والأفرشةَ، والمواعين، والأواني، والموائد، والكراسي. يحمل في غثائه كل شيء يراهُ. والخطى المتعثرة، المتسارعة المتخبطة، تبحث عن سلالمَ مُنْقذَة لتصل بأصحابها إلى أعالي البنايات، إلى السطوح التي لم يصلها الغضب الساطع والضاري، بغيةَ الاحتماء من خطر مُحْدِق، وموتٍ مُحَقَّقٍ يحمل المنجلَ الحادَّ حاصدا الضعاَفَ، والعجزةَ، والأطفالَ النّحافَ.
تعالت التكبيراتُ والتلاواتُ، والنداءاتُ الآيِسَةُ والآملةُ في خضَّم رَعدٍ يُجلجلُ، ويهدر تِباعاً ومن دون هوادةٍ؛ وبرقٍ مخيفٍ يضيءُ المدينةَ في كل أركانها وزواياها، كأنما يسدد ضوءَهُ الكاشفَ الخاطفَ جهَةَ رؤوسٍ أينعتْ وحان قِطافُها، أو جِهةَ دُورٍ من طينٍ وتبن وطوبٍ، فاتحاً الطريقَ للصاعقة المُدَوّيّةِ، وللرعد المُدَمْدِمِ قصد تدميرها، وخطف أرواح قاطنيها.
ــ هاتوا الدِّلاءَ، اُرموا بالحبال. الصغارَ.. الصغارَ. اُنشروا ما لديكم من أغطية « الميكا « على رؤوس النساء والأطفال والشيوخِ. افسحوا الطريق أمام المياه المتدفقة الهادرة، وحوّلوا اتجاهها بما معكم من معاولَ، ومَرافشَ، وسُطولٍ. اِرفعوا غطاءات تُرَعِ الوادي الحار، وقنوات الصرف. هيا يا رجالُ، تكاثفوا، تساندوا، فَيدُ الله مع الجماعةِ. إنه يوم الحسم والامتحان الإلهي: قدَرٌ مقدورٌ من المولى. سيرحمنا الله.. إنه رحيم بعباده. اِرفعوا أصواتكم بالصلاة على النبي العدنان.
هكذا كانت الرسائل التعبوية، وخطابات التشجيع وَدَرْءِ الخوف، تُمَرّرُ من سطح إلى سطحٍ، ومن دار إلى دار؛ فانخرط الجميع في التهليل والتسبيح، وفي كشط الأوحال التي تحملها السيول، وفي دفع الماء ليعود أدراجه أسفلَ فأسْفلَ. وانعقدت الأغطية البلاستيكية لتحميَ رؤوس الصغار والنساء والعجزة من البرودة اللاَّسعة، وتساقطات الأمطار الغاضبة التي بدأت تتناقص وتقل. وبعد حين، خِلْناه دهراً، هدأت الجلبةُ، وخَفَّ الصراخُ والضوضاء، وانفرجتْ أساريرُ السماء، وانشرحتْ قلوبٌ كانتْ منقبضةً، واستبشرتْ وجوهٌ كانت جامدةً عابسةً.
وغيضَ الماءُ، واستوينا واقفين مُهلّلين مُكَبّرينَ، ونازلين أدراج السلالمِ الخشبية، ونحن نتعانق ونبكي، ونسعل سعالا متواصلا صائتا وصامتاً.
بعد ساعات من المحنة والامتحان، وصلتنا أسماء ضحايا السيول، وعرفنا من قضوا، وكيف قضوا تحت رُدَم الطوب والحجارة، وكيف استوت الأكواخ القصديرية بالأرض، وانْعَجَنتْ بالطينِ والأوْحالِ.
قضينا أكثر من أسبوع ونحن انهماكٌ وتشْميرٌ واجتهادٌ، نعيد الأشياءَ إلى أماكنها، والأغطيةَ والأفرشةَ بعد تجفيف أمام المدافيء، إلى الدواليب، والرفوف الحائطية، ونستعيد ما مر بنا، وشجاعة أو جبن رجال وشباب الحي، وصبر أو انكسار نسائه وبناته. ثم شرعنا نَسْتَمْريءُ عيشنا اليومي، ونتحسس الدروب إليه، ونختلفُ إلى مدارسنا، وكتاتيبنا، و» مكاتبنا»، ومناجمنا. عاد السوقُ إلى مجراه، والذهاب والإياب إلى سابق عهدهما؛ ونحن إلى لهونا ولعبنا وشيطنتنا. عدنا إلى سيرتنا الأولى.
وذات نهار حارٍّ ومشمسٍ يُغْري بمداورة الكرة، أو التسكع، أو المُسايفة بأعواد الدفلى، وأغصان شجر الصفصاف، زارنا، على غير موعد، حشدٌ جرَّارٌ من جرادٍ ممشوقٍ يختال ويرقص في لباس أصفرَ فاقعٍ، في سَلاَهيمَ زعفرانية فاتحةٍ، وبٌنيّة غامقة. لاَحَقناهُ ـ نحن الأطفالَ ـ بعِصيّنا الصغيرةِ، وحجارتنا الملتقطة، وبصراخاتنا الحادّةِ: أَجْرَادَةْ مالْحَهْ فينْ كنتِ سارْحَهْ. لم يكترثْ، ولم يتقهقرْ، ويَقفلْ راجعا من حيثُ أتى، بل طَفِقَ يحط رِحالهُ مستعجلاً بيننا، ضيفا ثقيلا لمْ يَسْألْنا عن قَبول أو صَدٍّ. ثم تلاحقت أسرابٌ وحشودٌ غطت سريعاً، وكأنما في لمح البصر، سماءَ جرادةَ التي تلفَّعَتْ ببِرْنوسٍ عريضٍ أصفرَ، وبغيمٍ غير الغيم سدَّ منافذ الرؤية إلى السماء، وكَسَفَ أشعة الشمس. وها هي ذي السطوحُ والأزقةُ، وحبالُ الغسيلِ، وأعمدةُ الكهرباءِ، وأغصانُ الأشجار، ورؤوسُ الرَّائين والماشين، مُثقلةٌ بالضيف « العظيم «. أهلا وسهلا بك بيننا. أهلا وسهلا بك فوق المدافيء الموقدة اللاَّهبة غداءً شهياً، وشِواءً يُسيلُ اللُّعابَ.
شَمَّرْنا عن سواعدِ الجد والشطارة، ورُحْنا نجمعه جمعاً في قِصاعٍ من بْلاستيكْ، وألمنيومْ، لشَيِّهِ وتَحْميصِه بغاية أكله لأنه غنيٌّ بالبروتينات: أين منه لحمُ الدواجن، أو لحمُ الأغنام والبقر؟. وهي « فتوى « سمعناها من أفواه رجال « عقلاء «، من مدينة ما مغربية، يعملون بمفاحم جرادة، دأبوا على أكل الجراد متى ما زارهم، وحل ضيفا عزيزاً على قريتهم وديارهم، إذ خَبَروا منافعه وفوائده الغذائية والطبية والعلاجية.
أكلناه أكلاً لَمّاً، وأحببناه حباً جَمّاً. وَالتَذَذْنا به وهو يتكسر « مُقَرْمشاً» تحت أضراسنا. ولما شبعنا منه وكان من الكثرة الكاثرة، تصدينا للمتلاحق الزاحف علينا، نهش عليه هَشّاً، وندعسه بأرجلنا دَعْساً إلى أن تقلص عددهُ، ورحل ما فضُلَ منه إلى وجهة أخرى أغنى حشائشَ، ونباتاً، وشجراً وأَبّاً، وقَضْباً، ومرعى.
ولم نكن نعلم أن هذا الزائرَ العجيبَ، عاثَ فساداً في أرضنا: قَضَمَ أوراق الأشجار حتى عرّاها. وأتى على الأخضر واليابس من نبات وفاكهة وزرع وضَرْعٍ.
عام « الحَمْلَة « الكبيرة، أيْ الفيضان العظيم، الطوفان النُّوحيُّ الحفيدُ، وعام الجراد. وهما اللحظتان المُرْعبتان اللتان وقعتا في عام واحدٍ، بينهما أشهرٌ قلائلُ، إنْ لم تكن أسابيعَ معدوداتٍ؛ زادتا محنةً على مِحَنِنا، وأضافتا بؤسا إلى بؤسنا، وألما إلى آلامنا، وصبراً أيّوبياً إلى صبرنا، واستغفاراً إلى استغفاراتنا، لكنْ تسليةً ولاَمُبالاةً إلى تسلياتنا ولاَمبالاتنا، نحنُ الصغارَ تحديداً.
وهل كانتْ سِنُّنا تسمحُ لنا باستفظاع الأمورِ والمُلِمّاتِ، وتقديرِ الحوادثِ حقَّ قَدْرِها، واستيعاءِ عظائِمها، وجسامتِها حتى نَحْزَنَ ونَبْتَئسَ طَوَالَ الوقتِ.


محمد بودويك



08/01/2021


أعلى