جميلة شحادة - الصوص.. قصة للفتيان

رفع رأسه عن الدفتر الموضوع أمامه على الطاولة، نظر الى ساعته، ثم نظر ناحية اليسار حيث النافذة المطِلّة على دربٍ لا يتعدى اتساعه المتر الواحد، وقد تناثرت البيوت على جانبيْه دون نظام. ثم، نهض عن كرسيه وحوَّل نظره الى تلاميذه المنشغلين بتنفيذ مهمة كتابية كان قد طلب منهم تنفيذها، وقال بهدوء، وبصوت خفيض:
- لم يحن الوقت بعد.
لم يفهم التلاميذ ما عنى استاذهم، عادل، بجملته هذه، وبدت الدهشة على وجوههم. لكن الأستاذ عادل عاد ليقول وكأنه يتحدث مع نفسه:
- لم يحن الوقت بعد لمرور الصوص.
إزداد استغراب الطلاب وتضاعفت دهشتهم، لكنهم فهموا هذه المرة، ما قصده استاذهم، وأيقنوا، أن أمرهم قد فُضح، وأن شفرتهم السرية قد انكشفت. إنتظر الطلاب أن يتابع استاذهم الحديث عن الموضوع، لكنه لم يفعل؛ فعادوا الى تنفيذ المهمة المطلوبة منهم. وما هي الا دقائق مضت، حتى سمعوا استاذهم يقول وهو يشير بيده نحو النافذة:
- أنظروا. ها هو الصوص يمرُّ مسرعا في خطواته.
حوَّل الطلاب نظرهم نحو النافذة، فرأوا الصوص، لكن ابتساماتهم هذه المرة، قد غابت عن وجوههم.
كان الأستاذ عادل، مدرس اللغة العربية، قد لاحظ أن أمرا ما، يشغل بال تلاميذ الصف السادس؛ فمنذ شهرين، أي منذ بدء العام الدراسي الجديد، وهو يراهم يكررون ذات السلوك في حصة التعبير الأسبوعية، يوم الأربعاء. كان كلما طلب منهم تنفيذ المهمة الكتابية وشرعوا في ذلك، يرى يوسف والفرح يكاد بقفز من عينيه، يهمس لأصدقائه الجالسين بالقرب منه:
- الصوص.
وعندها؛ يتناقل التلاميذ كلمة الصوص فيما بينهم همسا، وتتجه الانظار نحو النافذة المطلّة على ذاك الدرب الضيق، وتشرئب الأعناق لرؤية الصوص. وما أن يحظوا بمشاهدة الصوص مارا مسرعا الخطى؛ حتى ترتسم الابتسامات على وجوههم، وتلمع فرحة في عيونهم، نقية كبراءة طفولتهم. ثم يعودون الى دفاترهم لمتابعة تنفيذ مهمتهم الكتابية، دون أن تخلو المسألة من غمزٍ في العيون.
لم يشأ الأستاذ عادل أن يناقش سلوك تلاميذه هذا، قبل أن يعرف بعض التفاصيل عن الصوص، فقد أيقن أن تأجيل الحديث مع طلابه عن سلوكهم هذا كلما مرّ "الصوص" لن يضر أحدا. وبدأ الأستاذ عادل رحلته بجمع المعلومات عن الصوص ليعرف مَن هو وما هي حكايته؟ وكانت محطته الأولى ابنة خالته سحر، التي تسكن الحي المجاور للمدرسة وهو الحي الذي يسكنه الصوص ايضا.
انتظر طلاب الصف السادس ردة فعل استاذهم، بعد أن كشف مستورهم وفضح أمرهم؛ لكن الاستاذ عادل أخرج بتأنٍ ورقة مطوية من جيب سترته، وراح يقرأ:
- ولد سليم أحدبا، لكن نتوء ظهره هذا، ونحول جسمه الشديد، لم يمنعاه من الدراسة والمثابرة. فقد تابع سليم تعليمه وحصل على شهادة محاسب، وتمكن بعد إنهاء دراسته من الزواج وبناء اسرة. لكن الحظ لم يكن لجانبه؛ فقد توفت زوجته وهي تلد مولودها البكر، وهكذا وجد سليم نفسه المسؤول الأول عن طفله، وعن والدته المريضة أيضا، مما اضطره لأن يبدأ دوامه كمحاسب في مرآب الحي، في الساعة العاشرة صباحا. ولمّا كان مكان عمله قريبا من مكان سكنه، كان يذهب اليه مشيا على الأقدام، مارا في الدرب الضيق المحاذي للمدرسة، مسرعا في خطواته خشية تأخره عن عمله. ولمّا كان سليم أحدب الظهر، نحيل الجسم وقصير القامة؛ كان شكله هذا مع مشيته السريعة، مثارا للهُزء والسخرية منه من قِبل كل مَن لا يعرف حقيقته، ومِن قبل هؤلاء الذين ينظرون الى المظهر لا الجوهر، ويحكمون على الأشخاص من هذا المنظور فقط.

قصة للفتيان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى