رسالتان بين أنس الفيلالي وحميد الهجام

1- رسالة الى القاص والشاعر حميد الهجام في غربته بسنغافورة.. من أنس الفيلالي

تحية عطرة معطرة بنسيم ورد بنفسجي وآخر أحمر وأخير بعبق الليمون ..
الى مبدعنا وقيس حديقة الغرباء
في هذا الوطن حيث الثلج الكاسح، كنت ألمح المارة بين خليل الصياح في ذلك الليل القاحل، الموبوء بالكائنات الغريبة عن وطننتا، بعد أن حطتني الحافلة الهاربة من شوارع ودروب مدينة الضباب، والجمال والغربة، وليست أي غربة، لعلها المذاق الذي أشتهيه اليوم في هذا القصر اللاقصر واللاكبير في اللاساعة، ساعة الاغاثة..
الشارع قاحل من المارة.. الحانات مملوءة عن آخرها بأناس يلهثون ضجرا.. الشعراء استغوتهم المكيدة.. الفقراء حيث نحن يتوسدون وسادة للحب، وأنا الحالم والخراب الذي قادني الى ذاك السحاب العارم في شوارع قصرنا الباكي، صدمتني الشمس بانحناءات الربيع وانبلاج الخريف الى الخضرة والزرقة والأمل، حينما حط كائن غريب على شرفتنا، من شرفة غير شرفة.. صلابة مليئة بالعبق البلوري الجميل ،حيث نحتمي ضباب هذا الضباب، من فصائل الغربة المحتمية بنار الحرية أوالحب أو الجمال، ليس أي جمال. الجمال الذي يلهب الخارجين عن عزف الحرية، قانون الغرباء ..
حميد الهجام ..
أيها العاشق الأزلى.. لعطر المكان
هاأنت هنا ترهب السكينة بالربيع، تفاوض الحكاية من البداية حتى النهاية، تستجلي أرقة العبور في أزقة القصيدة الجميلة في الساحة القفراء، حيث لا غير حميد الهجام هناك. حيث لا ملائكة غير ملائكته التي تسكب نبيذ المارة بالأزل.
الصديق الغالي.. حميد
ذاكالفضاء البيضاوي الكبير، سيعلن عطلة، أناملها عشرين سنة لكل ماهو جميل، وتلك المدينة الصغيرة، حيث سنغافورة واقفة لاستقبال البندقية، ستعلن الحداد، أربيعين يوما غرقا في متاهة، لن تخرج منها حتى الانعثاق البلوري ومصائب قوم أزهار رعناء للشعراء، أنا المتعطش لفوضى الشعر..
الغالي حميد
أتمنى ان أشعر بأيام عطلة الربيع كي أباشر أطياف الأوراق الخالدة حتى يكتمل الربيع. ويزف الرحيل عبقه البلوري، أيها الخالد هناك، بين محافل القصيدة الرعناء التي تجري شمالا وجنوبا في مخيلة الغرباء...
مودتي التي لا تبلى أبدا
أنس الفيلالي

القصر الكبير، الاثنين 26 أكتوبر 2010


* منشورة في جريدة المنعطف المغربية، السبت – الأحد، 30،31 أكتوبر 2010، العدد 301.


***
**
*

2 - رسالة الى الشاعر أنس الفيلالي في معرته القسرية الكبيرة


ها أنذا أيها الشاب النازف شعراً أحيا صقيع غربتي الآسيوية بعيداً عن الوطن، قريباً من النفس، وكأن للمسافات معلم آخر حين تقاس بمانوميتر البوح. هاأنذا من حين إلى آخر حين تنهمر سهام الشوق إلى الوطن والأحبة شآبيب على الروح، أقصد منتجع Changi Village. قرية شانغي قرية سياحية متاخمة للبحر،بين أحضان جسورها العائمة ومطاعمها البحرية ذوات السقائف المكسوة بالقرميد الأحمر، أحسني أكثر قرباً من بيضائي العزيزة، أعدم الزمان وأخال نفسي في كورنيشي المسلوب ذات غدر . السكينة تقبل شفاه الروح وتزرع فيها طاقة سحرية تدغدغني نشوتها ويغمرني رذاذها الهامس بموسيقاه العذبة عذوبة الندى في فجر الربيع . ها أنذا صديقي العزيز أرعى ربرب ذكرى الوطن تحت سماء في لونالبحر ومروج المحيط الهادئ تبسط أمام قدماي روعة عشبها الحريري الزرقة المنداح إلى ما لا نهاية. إنه المكان الوحيد الذي أحس فيه بالطمأنينة في هذه البقعة، رغم أن تمث أماكن عديدة تفوقه جمالاً في الجزيرة. لا أدري سرّ هذا الحب الذي يكنه الإنسان لبعض الأمكنة دون أخرى؟
أعلم أني لا أرغب في أن أعلم جوهر هذا السر لأني حينها سوف أفقد نشوة اللوعة، وسيذوب أثر المكان في محلول تفسير علم الزمان .
البارحة مساء يممت ضجري شطر حي Little India، وكانت الشوارع هناك كلّها مزينة بالأضواء، فالهنود يحتفلون بعيد «ديوالي» أو «ديبافالي» أو «عيد الأنوار». وهذا العيد كما شرحت لي حسنائي الهندية الممكورة نوميتا، تخليد لذكرى انتصار ملك مدينة أيوديا? ترجمتها الحرفية من السنسكريت تعني «المدينة التي لا يمكن احتلالها- إحدى مدن مقاطعة فيروزآباد، راما علىالوحش رافانا ذو العشرة رؤوس والعشرين دراعاً. كانت الروح غائصة في عينيها البنيتين. والأقراط في أنفها العربي كانت تضيف سحراً إلى جمالها الآسيوي ومن شفتيها الداكنتين اللحيمتين كانت الأسطورة تنثال طازجة كما لو أنها كانت واقعية. نوميتا فتاة العشرين ربيعاً لا تفارق الابتسامة شفتيها حتى وهي تتكلم، لديها قدرة غريبة على إبقاء البسمة فراشة ملونة ترفرف حول شفتيها، تلهب القلب برقتها ورخامة صوتها، حين تتكلم كأنها تعزف. قتل رامارافانا وحرر زوجته سيتا وعاد إلى أيوديا حيث أستقبله سكان المدينة مزينين واجهات المساكن والشوارع بالأضواء، ومنذ ذلك الحين سمي العيد بعيد الأنوار، وترمز الأسطورة إلى انتصار الخير على الشرّ.
تنبعث البخور فواحة من المعابد البودية و تماثيل الآلهة تزين جدران المعابد الهندوسية، أما قطارات الأنفاق فإنها لا تتوقف عن الذهاب والإياب، من باسيريس إلى جو كون ومن جو كون إلى باسيريس، والزمن يسير الهوينى تارة وخبباً تارة أخرى، وأنا محمول على متن تياره أحلم بوطن لا مكان فيه للغرباء -هذه لك أيها العظيم-، وطن كالأوطان، وطن لا يجهض أجنة الإبداع وهي في الأرحام. أقرأ في هذه الأيام رواية لجوزيف كونراد، «اللورد جيم» التي تدور أحداث بعض فصولها في جنوب شرق آسيا. التنانين أصابها مسّ من جنون بريق الحديد غير القابل للصدأ وصار ت تلتهم أخضر الإنسان ويابسه بشره عاهر لا يلين. نمور المكان المرقطة ضلت الطريق في دغل الزمن الشرقي وها هيذي الآونة تقتفي آثار خيط النسيم الدرائعي الهوى ماضية نحو حتفها الورقي هناك خلف الأفق الغربي. إنه زمن التشرد في أرصفة مرافئ جزر الضياع القصية في انتظار سراب غودو. آه، كم تلتهمني رغبة في أن أفقأ عين اللحظة وفي أن أبقر بطن التردد وأفض بكارة الخوف الأزلي .... وأطلق عنان فرس البوح الجموح وأصرخ في وجه الشرط البائر» كفى بربّك أيها الشرط القاهر، كفاك تمزيقاً لأرواحنا، فقد انهزم الألم أمام أحلامنا وأصبحنا عتاة، قساة. اغتدت قلوبنا شبيهة بقلوب قراصنة العصور البائدة، أيها الشِرْطُ المِشْرَطُ. راهقنا الموت غير ما مرة لكنّا لا زلنا كما عهدنا أنفسنا ذا تربيع زاهر، واقفون كطود نخرته المغائر ولا يزال منتصباً مكابراً.
لكن ماذا عن الوطن؟
صادفت الوطن هذا الصباح هائمة حروفه على وجهها، فأحببت أن أحاوره مثلما فعل أدونيس وقبله ريمبو، لم يمانع فقصدنا أقرب حديقة. آن اقتعدنا كرسياً في أحد الممرات تراءى الوطن نسراً مهيض الجناحين ثاقب الرؤية يترنح مرفرفاً بعناء مزمن محاولاً الإفلات عبثاً من السلاسل التي تكبله إلى صخرة جبال الأطلس بعد أن أصابته لعنة آلهة يونان المكان. لا تتبرم من هذياني، أحببت فقط أن أعبث بالأسطورة هذا الصباح وبدا لي وطني نسراً وبروميثيوس هو الجلاد. أليس الرمز أسطورة تخاتل الشرط لتتمسك بقش طوف البوح حين تتلاطمها أمواج البداهة. بروميثيوس سرق النار من الألهة رأفة بالإنسان في ذلك الزمن الأسطوري الخالد. فعاقبته الآلهة العقاب الأبدي بتوثيقه إلى الصخرة وتسليط النسر عليه، لطالما نهش أحشاء بروميتيوس دونما رحمة. هذي الأيام انقلبت الصورة على ما يبدو وصار بروميثيوس ممتثلاً طائعاً للآلهة بينما النسر ²أصبح الثوري المنبوذ. الآلهة غيرت رأيها وهي المعروفة بتقلب المزاج كلما عنّ لها خطر فقدان ألوهيتها وامتيازاتها هناك في جبل أوليمب حيث تستعذب حياة الرغد والرفاه. لي عندك طلب يا شيخ الإمارات الأدبية المتحدة، طلب ملحاح نحن في مسيس الحاجة إلى. استقل الحافلة الماضية نحو طنجيس القديس محمد شكري التي تسلك الطريق الثانوية، ولا تنس أن تأمر السائق بأن يوقف الحافلة في مدينة العرائش لبضع دقائق حتى يتسنى لك القيام بزورة خاطفة لقبر جان جينيه وتبلغه سلامي، وقبل أن تصل الحافلة طنجيس أطلب من سائقها أن ينزلك في الطريق الفرعي على يسارك، ذلك الطريق المؤدي إلى مغارة هِرَقْلَ. أستطيع أن أكبس على زرّ مركبة الخيال وأدع الروح تسافر إلى هنا ك وأرافقك أثناء تلك الرحلة وننفذ معاً هذه المهمة الملحة، سوف نقدم ملتمساً إلى هرقل ونطلب منه أن يفك أسر النسر من براثن بروميثيوس الثوري الذي ضل طريق الثورة فارتمى في حضن حلم التروة، وصار إمعة لدى الآلهة المفلسة.
وماذا عن البغاث؟
أنتحدث عن البغاث الأدبي الذي يؤرقك؟ ذاك البغاث الصاغر نفسه الآتي منسراديب الأحزاب الذي ملأ سماء الأدب سرقة ونحلاً وتلاصاً ونضيف تزلفاً أملاً في منصب صغير أو شهرة مبتغاها ومنتهاها موقع في حزب تابع أو جمعية مائعة أو اتحاد واهن. هذا ديدنه في كل المجتمعات وفي كلّ الحقب. صدقني إنزمنه قصير مثل حبل الأفاك، سيندثر حين تبزغ شمس الأدب في الوطن.
معلوم أن البغاث الأدبي يستنسر في أزمنة الجزر، ويلفظ أنفاسه أنفاسه مقاوما المدّ، يعود إلى أصله بغاثاً أدبياً بائداً.
حميد الهجام
محبتي الخالصة
سنغافورة

28 أكتوبر 2010


* منشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية، 10 نونبر 2010.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى