عذراً..لأنني لا استطيع كتابة قصة إيجابية ترضي ذوق الجماهير..إنني متعب جداً..ولا اتحمل تزييف حقيقتي..
ومضيت واعتزلت في منزل جدتي..كانت صورتها معلقة في غرفة قديمة الجدران..وكلما رأيتها أرى نفسي داخل القبر..حيث ألتحق بأزمنة الغابرين السحيقة.. لا شيء يستدعي أن أزيف نفسي، فالحياة لا معنى لها كي اقدسها لدرجة عيشها في عدة شخصيات.. أليس كذلك..ولو كانت خسارتي لعملي في الصحيفة مؤخراً تعني الكثير، وقبل كل شيء تعني أن الواقع قد تجاوزني وأنا في الخامسة والخمسين..فهذا لا يعني أن عليَّ أن أعترف بعجزي عن التطور، ولأكن مثل الكُتَّاب المغمورين الذين ينتظرون أن يفهمهم العالم يوماً ما..لست عاجزاً ولكنني لست راغب.. هناك فرق..أليس كذلك..
يمكنني البقاء داخل هذه الغرفة لأشهر دون أن يتذكرني أحد..إن جدتي قد يتذكرها أحد ما...ولولا الجوع ..لولا الجوع فقط لما خرجت من غرفة الجدة..كانت صورتها تؤنسني..تزيد حدة الإكتآب داخلي وهذا جيد...فأنا أحتاج لتلك الروح العاشقة للموت..ما يفعله الإعتزال هو انه يدفعك للتفكير في اللا شيء.. أي أن تتعالى على واقعك..حتى حين أمارس العادة السرية أضطر لقلب صورة جدتي حتى لا أشعر بأنها تراقبني..رغما عن أنها رأتني أفعلها وأنا في سن المراهقة فلم تبدِ أي رد فعل..لا شك أنها رأت كل أبنائها يفعلون ذلك..ولكنني اليوم في الخامسة والخمسين..وهذا مقرف جداً وأنا أرى كرشي منتفخة تغطي كل شيء..لا أستطيع تخيل امرأة مثيرة...ويبدو أنني سأتخلى عن هذه الفكرة.. جسدي بارد..بعض الذبابات تحوم حول أنفي لتدفعني إلى العطس حين تنجز غزوات سريعة نحو منخريَّ بكر وفر وهي تبتعد وتدور في الفضاء المعتم..وحين أقف ناظراً لوجهي في المرآة ألاحظ تجاعيدي والهالات السوداء..والبثور السوداء فوق أرنبة انفي وشاربي الكث ينحدر حتى الذقن كما لو كنت محارباً منغولياً...إنني مرهق جداُ..ولذلك اتخيل تسلل عصابة إلى منزل جدتي فتضربني وتجرح وجهي بالسكاكين الحادة ثم تبحث عن شيء لتسرقه فلا تجد سوى هاتفي الذي لم يتلق إتصالاً منذ أسابيع وصورة جدتي التي قضت قبل خمسة وعشرين عاماً..هل سأذهب للشرطة؟ أفكر في هذه النقطة طويلاً وأرى تارة بأن ذهابي للشرطة يعني اعترافي برغبتي في المضي قدماً وهذا غير صحيح..ليس عليَّ أن أزيف حقيقة أنني لا أريد الاستمرار..لست عاملاً يجمع القمامة لمصلحة شركة تدوير النفايات مقابل أن يعتبر نفسه إنسانا يعمل، مرضياً بالتالي معايير المجتمع التي رسختها فيه منذ الطفولة..إذا كانت هذه هي الحياة فإنها ليست عادلة بالمرة..إذا كانت كذلك فالموت سيكون أكثر قرار ذكي يتخذه ذلك العامل..إما أن نعيش الحياة كما يجب..أو فلنتركها... هذا ما أفهمه والذي لا يرغب الكثيرون في أن يفهمه الآخرون.. فشركة تدوير النفايات لن ترغب في أن يفهم العامل هذا..هنا..في هذه الأيام السوداء يكون الجنس هو الشيء الوحيد الذي يمنح لذة ما.. تلك الأكولة في الجلد التي تختلط بخيال ما..خيال امرأة أو ذكر شاذ..يحرك خيالُ الدماغِ الجسدَ..علاقة غريبة..القبلات الساخنة تنفذ حرارتها الوهمية داخل الفم..تحدث أغنية ما بين جسدين أحدهما مرئي وآخر غير مرئي..يبدو المشهد مثيراً للسخرية..مبكياً لأنه يعكس معنى طغيان الفردانية على العالم الشاحب..لا أحد مسؤولٌ عن ذلك..لستُ مسؤولاً عن ذلك..لا مسؤولية على أحد..وهذا بديع جداً..أليس كذلك..
زجاجات العطر هذي جافة.. جف العطر داخلها بعد خمسة وعشرين عاماً من العزلة بعد وفاتها.. تناقص العطر كالحزن عليها، ..زجاجات بأشكال متنوعة.. كروية ومستطيلة ومربعة ومثلثة، حمراء وزرقاء وشفافة.. وهناك علبة حلوى ماكنتوش مفتوحة..مددت يدي وأخرجت الحلي الرخيصة منها..حلي من الخرز والذهب المزيف وأحمر شفاه..لم تكن جدتي تضع احمر شفاه..آه..هذا ليس أحمر شفاه بل مرطب شفاه..انتزعت غطاء الفتيل وأدرت أسطوانة صغيرة من تحته فارتفعت ورقة من داخله..فتحت الورقة..كانت رسالة..رسالة حب..مكتوبة بقلم الرصاص..بخط رديئ مذيلة بتوقيع اسم رجل ما..يدعي.. لا أستطيع قراءة الإسم..رسالة حب..لم تكن رقيقة أبداً كان حباً جنسياً فاحشاً يذكرها بأشياء ما.."هل تذكرين عندما مزقت صدريتك..كنت جائعاً ونهداك" ..يا للعنة.. لمن أرسل تلك التفاهة؟ لجدتي؟..كم ذلك مقزز..ألقيت نظرة على صورتها.. وعدت لقراءة الرسالة.."كانت رائحته مثل الشمام"..مثل الشمام؟ حقاً أم أنه كان يكذب.. أيها السفيه..كان فيلماً إباحياً كاملاً وليس مجرد رسالة..لغتها الركيكة تدل على أنها كُتبت ورعشة الشبق تربك كاتبها فوضعت الرسالة داخل مرطب الشفاه وأعدت كل شيء إلى داخل العلبة..لا شك أنهما قد فعلا ذلك بالفعل..فعلاه بروح شرهة للحياة.. نعم..كانا يحبان الحياة ولولا ذلك لبقيا مثلي.. لاعتزلا العالم..إن عدم وجودهما اليوم..الآن..في هذه اللحظة..يجعلهما أسطورة تاريخية..لا اختلاف بينهما وبين أخيل وبرسيس..إن طروادة ليست من الماضي إذاً.. ففي كل ساعة تتكرر تلك الأساطير.. لأشخاص خاضوا حروباً حباً في الحياة.. ذلك القتال في المسرح العريض.. مسرح يغطس غارقاً في محيطات الفناء الرمادية ثم يعود ليعلوا من جديد.. فتمدد فوقه قارة أطلانطس داخل أجساد الكائنات الحياة..ذلك ما قصده أفلاطون عبر استعاراته الحوارية..عدت وأفرغت علبة الحلوى وأخرجت مرطب الشفاه ثم نزعت غطاءه وأخرجت الرسالة وقرأتها...سرت في جسدي نشوة ما..نشوة لم تكن عابرة أبداً..وضعت الرسالة في جيب قميصي ثم توجهت نحو الصحيفة...وها هو ينظر نحوي ويقول:
- جئت لتعتذر..؟
- نعم..
- ستكتب قصصاً متفائلة..
- بل أفضل من هذا..سأكتب مسلسلاً كاملاً..
رأيت عينيه تبرقان..وهمس:
- سيعجب ذلك القراء..طبعاً إذا كان مسلسلاً مشوقاً..
نظرت إلى صورة صغيرة فوق مكتبه.. كانت صورته هو وزوجته وأطفاله..مددت يدي وأدرتها نحوي..فرأيتهم جميعاً يبتسمون..
- جميعكم تبتسمون..
وكما توقعت..
إكفهر وجهه وبدا حزيناً..حزيناً جداً..
فشرعت في كتابة المسلسل
بسم الله نبدأ..
مسلسل بعنوان:
أطلانطس الغارقة..
الحلقة الأولى....
.
.
(تمت)..
ومضيت واعتزلت في منزل جدتي..كانت صورتها معلقة في غرفة قديمة الجدران..وكلما رأيتها أرى نفسي داخل القبر..حيث ألتحق بأزمنة الغابرين السحيقة.. لا شيء يستدعي أن أزيف نفسي، فالحياة لا معنى لها كي اقدسها لدرجة عيشها في عدة شخصيات.. أليس كذلك..ولو كانت خسارتي لعملي في الصحيفة مؤخراً تعني الكثير، وقبل كل شيء تعني أن الواقع قد تجاوزني وأنا في الخامسة والخمسين..فهذا لا يعني أن عليَّ أن أعترف بعجزي عن التطور، ولأكن مثل الكُتَّاب المغمورين الذين ينتظرون أن يفهمهم العالم يوماً ما..لست عاجزاً ولكنني لست راغب.. هناك فرق..أليس كذلك..
يمكنني البقاء داخل هذه الغرفة لأشهر دون أن يتذكرني أحد..إن جدتي قد يتذكرها أحد ما...ولولا الجوع ..لولا الجوع فقط لما خرجت من غرفة الجدة..كانت صورتها تؤنسني..تزيد حدة الإكتآب داخلي وهذا جيد...فأنا أحتاج لتلك الروح العاشقة للموت..ما يفعله الإعتزال هو انه يدفعك للتفكير في اللا شيء.. أي أن تتعالى على واقعك..حتى حين أمارس العادة السرية أضطر لقلب صورة جدتي حتى لا أشعر بأنها تراقبني..رغما عن أنها رأتني أفعلها وأنا في سن المراهقة فلم تبدِ أي رد فعل..لا شك أنها رأت كل أبنائها يفعلون ذلك..ولكنني اليوم في الخامسة والخمسين..وهذا مقرف جداً وأنا أرى كرشي منتفخة تغطي كل شيء..لا أستطيع تخيل امرأة مثيرة...ويبدو أنني سأتخلى عن هذه الفكرة.. جسدي بارد..بعض الذبابات تحوم حول أنفي لتدفعني إلى العطس حين تنجز غزوات سريعة نحو منخريَّ بكر وفر وهي تبتعد وتدور في الفضاء المعتم..وحين أقف ناظراً لوجهي في المرآة ألاحظ تجاعيدي والهالات السوداء..والبثور السوداء فوق أرنبة انفي وشاربي الكث ينحدر حتى الذقن كما لو كنت محارباً منغولياً...إنني مرهق جداُ..ولذلك اتخيل تسلل عصابة إلى منزل جدتي فتضربني وتجرح وجهي بالسكاكين الحادة ثم تبحث عن شيء لتسرقه فلا تجد سوى هاتفي الذي لم يتلق إتصالاً منذ أسابيع وصورة جدتي التي قضت قبل خمسة وعشرين عاماً..هل سأذهب للشرطة؟ أفكر في هذه النقطة طويلاً وأرى تارة بأن ذهابي للشرطة يعني اعترافي برغبتي في المضي قدماً وهذا غير صحيح..ليس عليَّ أن أزيف حقيقة أنني لا أريد الاستمرار..لست عاملاً يجمع القمامة لمصلحة شركة تدوير النفايات مقابل أن يعتبر نفسه إنسانا يعمل، مرضياً بالتالي معايير المجتمع التي رسختها فيه منذ الطفولة..إذا كانت هذه هي الحياة فإنها ليست عادلة بالمرة..إذا كانت كذلك فالموت سيكون أكثر قرار ذكي يتخذه ذلك العامل..إما أن نعيش الحياة كما يجب..أو فلنتركها... هذا ما أفهمه والذي لا يرغب الكثيرون في أن يفهمه الآخرون.. فشركة تدوير النفايات لن ترغب في أن يفهم العامل هذا..هنا..في هذه الأيام السوداء يكون الجنس هو الشيء الوحيد الذي يمنح لذة ما.. تلك الأكولة في الجلد التي تختلط بخيال ما..خيال امرأة أو ذكر شاذ..يحرك خيالُ الدماغِ الجسدَ..علاقة غريبة..القبلات الساخنة تنفذ حرارتها الوهمية داخل الفم..تحدث أغنية ما بين جسدين أحدهما مرئي وآخر غير مرئي..يبدو المشهد مثيراً للسخرية..مبكياً لأنه يعكس معنى طغيان الفردانية على العالم الشاحب..لا أحد مسؤولٌ عن ذلك..لستُ مسؤولاً عن ذلك..لا مسؤولية على أحد..وهذا بديع جداً..أليس كذلك..
زجاجات العطر هذي جافة.. جف العطر داخلها بعد خمسة وعشرين عاماً من العزلة بعد وفاتها.. تناقص العطر كالحزن عليها، ..زجاجات بأشكال متنوعة.. كروية ومستطيلة ومربعة ومثلثة، حمراء وزرقاء وشفافة.. وهناك علبة حلوى ماكنتوش مفتوحة..مددت يدي وأخرجت الحلي الرخيصة منها..حلي من الخرز والذهب المزيف وأحمر شفاه..لم تكن جدتي تضع احمر شفاه..آه..هذا ليس أحمر شفاه بل مرطب شفاه..انتزعت غطاء الفتيل وأدرت أسطوانة صغيرة من تحته فارتفعت ورقة من داخله..فتحت الورقة..كانت رسالة..رسالة حب..مكتوبة بقلم الرصاص..بخط رديئ مذيلة بتوقيع اسم رجل ما..يدعي.. لا أستطيع قراءة الإسم..رسالة حب..لم تكن رقيقة أبداً كان حباً جنسياً فاحشاً يذكرها بأشياء ما.."هل تذكرين عندما مزقت صدريتك..كنت جائعاً ونهداك" ..يا للعنة.. لمن أرسل تلك التفاهة؟ لجدتي؟..كم ذلك مقزز..ألقيت نظرة على صورتها.. وعدت لقراءة الرسالة.."كانت رائحته مثل الشمام"..مثل الشمام؟ حقاً أم أنه كان يكذب.. أيها السفيه..كان فيلماً إباحياً كاملاً وليس مجرد رسالة..لغتها الركيكة تدل على أنها كُتبت ورعشة الشبق تربك كاتبها فوضعت الرسالة داخل مرطب الشفاه وأعدت كل شيء إلى داخل العلبة..لا شك أنهما قد فعلا ذلك بالفعل..فعلاه بروح شرهة للحياة.. نعم..كانا يحبان الحياة ولولا ذلك لبقيا مثلي.. لاعتزلا العالم..إن عدم وجودهما اليوم..الآن..في هذه اللحظة..يجعلهما أسطورة تاريخية..لا اختلاف بينهما وبين أخيل وبرسيس..إن طروادة ليست من الماضي إذاً.. ففي كل ساعة تتكرر تلك الأساطير.. لأشخاص خاضوا حروباً حباً في الحياة.. ذلك القتال في المسرح العريض.. مسرح يغطس غارقاً في محيطات الفناء الرمادية ثم يعود ليعلوا من جديد.. فتمدد فوقه قارة أطلانطس داخل أجساد الكائنات الحياة..ذلك ما قصده أفلاطون عبر استعاراته الحوارية..عدت وأفرغت علبة الحلوى وأخرجت مرطب الشفاه ثم نزعت غطاءه وأخرجت الرسالة وقرأتها...سرت في جسدي نشوة ما..نشوة لم تكن عابرة أبداً..وضعت الرسالة في جيب قميصي ثم توجهت نحو الصحيفة...وها هو ينظر نحوي ويقول:
- جئت لتعتذر..؟
- نعم..
- ستكتب قصصاً متفائلة..
- بل أفضل من هذا..سأكتب مسلسلاً كاملاً..
رأيت عينيه تبرقان..وهمس:
- سيعجب ذلك القراء..طبعاً إذا كان مسلسلاً مشوقاً..
نظرت إلى صورة صغيرة فوق مكتبه.. كانت صورته هو وزوجته وأطفاله..مددت يدي وأدرتها نحوي..فرأيتهم جميعاً يبتسمون..
- جميعكم تبتسمون..
وكما توقعت..
إكفهر وجهه وبدا حزيناً..حزيناً جداً..
فشرعت في كتابة المسلسل
بسم الله نبدأ..
مسلسل بعنوان:
أطلانطس الغارقة..
الحلقة الأولى....
.
.
(تمت)..