حمل الشاب اللطيف عبد اللطيف، شهادة تخرجه من كلية الآداب قسم اللغة، وقد هيأه تفاؤله لاقتحام سوق العمل..قال عمه:
- دراسة اللغة لا قيمة لها..
وقالت صديقته:
- عليك البدء في كتابة الروايات يا عزيزي..
وقال صاحب كشك بيع السجائر:
- دعك من هذا الوهم وتعال لتعمل عندي وتتعلم شغل الاكشاك..
وقال الجالس قربه في المواصلات:
- ليس سوى مصحح لغوي..ولكن سيحتاجون لمعرفة مستواك أولاً..
وقال أحد لاعبي كرة القدم في حيه:
- بقليل من التمارين يمكنك التوقيع مع نادٍ كبير..ويمكنك هناك أن تمارس مهنتك في تصحيح كتابة أسماء اللاعبين في قمصانهم من الخلف..
ولما حار عبد اللطيف، وضع ورقة وقلماً وبدأ في كتابة مقال نموذجي، تمهيداً لنشره في إحدى الصحف..قضى يوماً وليلة حتى أكمل المقال، ثم مضى إلى والدته فقرأ لها المقال، وبعد أن انتهى قالت:
- لم أفهم شيئا..ولكن.. فليوفقك الله يا بُني..
هزَّ راسه وخرج ليلتقي بصديق والده الذي قرأ المقال على عجالة وهو يصحح فيه بعض الجمل..
- لا يا عبد اللطيف..هذه كلمات قوية جداً ..حاول تجنبها بقدر الإمكان...احذف كلمة مومس هذه..وكلمة الدكتاتوريات...وهذه الجملة التي تعرض بالقيم الإجتماعية..ها..أنظر..هكذا أصبح مقالك مسبوكا كالوجبة الشهية..
فرح عبد اللطيف، وخرج من مكتب صديق والده، ثم جلس مع بائعة الشاي، فرأى شاباً يضفر شعره ويضع فوق الشعر قبعة متعددة الألوان..وبعد حديث خفيف قرأ الشاب المقال، ثم زمَّ شفتيه وقال:
- أممم..لا بأس.. ولكن عليك أن تفهم أن تموضعك في الذاتية يعكس ترانستدنتالية غير محبذة في أفق التداول الثقافي..أنظر لهذه المفردة الساقطة من رحم اللا جدوى.. أحذفها..ساحذفها لك.. طور بعض بنائك الابستمولوجي حتى تعكس تشظيات الروح في هذا العالم المتداعي..
رمش عبد اللطيف ثلاث رمشات وأخذ المقال وانصرف، وأثناء سيره وجد صحفية نحيلة تعاني من سوء التغذية، فاقترح عليها أن تقرأ المقال، فرفعت الورقة واخذت تغمغم:
- الحب كذبة..الحب كذبة..الحب كذبة..
ثم أدخلت أصبعها في فمها وأخرجته ومسحت بعض الجمل من المقال بلعابها، وقالت:
- كن واقعياً يا عبد اللطيف لتكون كاتباً محترماً..
ثم مضت والدموع تترقرق في عينيها..قرر العودة إلى الجامعة لمقابلة أستاذه، وحين فتح باب مكتبه، نظر له الاستاذ وقال بجفوة:
- نعم؟؟
ارتبك عبد اللطيف وقال:
- انا عبد اللطيف كنت احد طلابك في الكلية..
فقال الأستاذ:
- نعم؟؟
أخرج عبد اللطيف المقال وقدمه وهو يقول بصوت مرتعش:
- لقد تخرجت وكتبت هذا المقال النموذجي..
أخذ الأستاذ المقال، وارتدى نظارته، لكنه لم يكمل ثانيتين في قراءته ثم قال:
- إشترِ كتابي "فن المقال الادبي" ستجده في مكتبة كوزمو ..
ثم أخذ قلماً وكتب على ورقة المقال:
- وسأمنحك تخفيضا بنسبة خمسة في المائة.. تفضل..
وهكذا خرج من مكتب الأستاذ وذهب إلى مكتبة كوزمو فوجد البائع رجلاً عجوزاً يتصفح إحدى الجرائد..ولما كان الرجل بشوشاً عرض عليه عبد اللطيف المقال، قرأ الرجل المقال بتأني، لأكثر من عشر دقائق، فالعجائز صبورون في القراءة..وبعدها قال:
- هل ترى هذه الكرتونة..بها قلم تصحيح..هاته..
أخذ العجوز يحذف بعض الكلمات والجمل ثم قال:
- هكذا يكون المقال..بعض المعلومات التاريخية..فانا كنت شاهداً على تلك الحقبة...
وسرح ببصره بعيداً، ثم أضاف وابتسامة ترف على شفتيه:
- كانت تلك حقبة ذهبية يا ولدي..
ثم أخذ يحكي بلا انقطاع عن تلك الحقبة لمدة ساعتين..بعدها شعر عبد اللطيف بالإرهاق فاستأذن بلطف وغادر إلى منزله.. وبعد غفوة سريعة التقط المقال من الدرج قرب سريره..وقرأه..فاكتشف أنه مقال جديد تماماً..لم يكن له أي علاقة بالمقال الذي كتبه..
صاح صاحب الكشك:
- ها.. هل نشرت مقالك..
قال عبد اللطيف:
- لا.. ولن افعل..لقد قررت العمل معك..
ابتسم الرجل وقال:
- عين العقل..بضع سنوات وسيكون لك كشكك الخاص..والآن سنبدأ من أسعار السلع..طبعا..هي ليست كثيرة فهذا ليس سوبر ماركت.. غير أن أول معلومة يجب أن تعرفها هو أن الغرض الأساسي لأي كشك هو توفير السلع الخفيفة وكثيرة التداول مثل السجائر وكروت رصيد التلفون وغير ذلك..لا تتعجل..ستتعلم كل شيء بالممارسة الطويلة..
(تمت)
- دراسة اللغة لا قيمة لها..
وقالت صديقته:
- عليك البدء في كتابة الروايات يا عزيزي..
وقال صاحب كشك بيع السجائر:
- دعك من هذا الوهم وتعال لتعمل عندي وتتعلم شغل الاكشاك..
وقال الجالس قربه في المواصلات:
- ليس سوى مصحح لغوي..ولكن سيحتاجون لمعرفة مستواك أولاً..
وقال أحد لاعبي كرة القدم في حيه:
- بقليل من التمارين يمكنك التوقيع مع نادٍ كبير..ويمكنك هناك أن تمارس مهنتك في تصحيح كتابة أسماء اللاعبين في قمصانهم من الخلف..
ولما حار عبد اللطيف، وضع ورقة وقلماً وبدأ في كتابة مقال نموذجي، تمهيداً لنشره في إحدى الصحف..قضى يوماً وليلة حتى أكمل المقال، ثم مضى إلى والدته فقرأ لها المقال، وبعد أن انتهى قالت:
- لم أفهم شيئا..ولكن.. فليوفقك الله يا بُني..
هزَّ راسه وخرج ليلتقي بصديق والده الذي قرأ المقال على عجالة وهو يصحح فيه بعض الجمل..
- لا يا عبد اللطيف..هذه كلمات قوية جداً ..حاول تجنبها بقدر الإمكان...احذف كلمة مومس هذه..وكلمة الدكتاتوريات...وهذه الجملة التي تعرض بالقيم الإجتماعية..ها..أنظر..هكذا أصبح مقالك مسبوكا كالوجبة الشهية..
فرح عبد اللطيف، وخرج من مكتب صديق والده، ثم جلس مع بائعة الشاي، فرأى شاباً يضفر شعره ويضع فوق الشعر قبعة متعددة الألوان..وبعد حديث خفيف قرأ الشاب المقال، ثم زمَّ شفتيه وقال:
- أممم..لا بأس.. ولكن عليك أن تفهم أن تموضعك في الذاتية يعكس ترانستدنتالية غير محبذة في أفق التداول الثقافي..أنظر لهذه المفردة الساقطة من رحم اللا جدوى.. أحذفها..ساحذفها لك.. طور بعض بنائك الابستمولوجي حتى تعكس تشظيات الروح في هذا العالم المتداعي..
رمش عبد اللطيف ثلاث رمشات وأخذ المقال وانصرف، وأثناء سيره وجد صحفية نحيلة تعاني من سوء التغذية، فاقترح عليها أن تقرأ المقال، فرفعت الورقة واخذت تغمغم:
- الحب كذبة..الحب كذبة..الحب كذبة..
ثم أدخلت أصبعها في فمها وأخرجته ومسحت بعض الجمل من المقال بلعابها، وقالت:
- كن واقعياً يا عبد اللطيف لتكون كاتباً محترماً..
ثم مضت والدموع تترقرق في عينيها..قرر العودة إلى الجامعة لمقابلة أستاذه، وحين فتح باب مكتبه، نظر له الاستاذ وقال بجفوة:
- نعم؟؟
ارتبك عبد اللطيف وقال:
- انا عبد اللطيف كنت احد طلابك في الكلية..
فقال الأستاذ:
- نعم؟؟
أخرج عبد اللطيف المقال وقدمه وهو يقول بصوت مرتعش:
- لقد تخرجت وكتبت هذا المقال النموذجي..
أخذ الأستاذ المقال، وارتدى نظارته، لكنه لم يكمل ثانيتين في قراءته ثم قال:
- إشترِ كتابي "فن المقال الادبي" ستجده في مكتبة كوزمو ..
ثم أخذ قلماً وكتب على ورقة المقال:
- وسأمنحك تخفيضا بنسبة خمسة في المائة.. تفضل..
وهكذا خرج من مكتب الأستاذ وذهب إلى مكتبة كوزمو فوجد البائع رجلاً عجوزاً يتصفح إحدى الجرائد..ولما كان الرجل بشوشاً عرض عليه عبد اللطيف المقال، قرأ الرجل المقال بتأني، لأكثر من عشر دقائق، فالعجائز صبورون في القراءة..وبعدها قال:
- هل ترى هذه الكرتونة..بها قلم تصحيح..هاته..
أخذ العجوز يحذف بعض الكلمات والجمل ثم قال:
- هكذا يكون المقال..بعض المعلومات التاريخية..فانا كنت شاهداً على تلك الحقبة...
وسرح ببصره بعيداً، ثم أضاف وابتسامة ترف على شفتيه:
- كانت تلك حقبة ذهبية يا ولدي..
ثم أخذ يحكي بلا انقطاع عن تلك الحقبة لمدة ساعتين..بعدها شعر عبد اللطيف بالإرهاق فاستأذن بلطف وغادر إلى منزله.. وبعد غفوة سريعة التقط المقال من الدرج قرب سريره..وقرأه..فاكتشف أنه مقال جديد تماماً..لم يكن له أي علاقة بالمقال الذي كتبه..
صاح صاحب الكشك:
- ها.. هل نشرت مقالك..
قال عبد اللطيف:
- لا.. ولن افعل..لقد قررت العمل معك..
ابتسم الرجل وقال:
- عين العقل..بضع سنوات وسيكون لك كشكك الخاص..والآن سنبدأ من أسعار السلع..طبعا..هي ليست كثيرة فهذا ليس سوبر ماركت.. غير أن أول معلومة يجب أن تعرفها هو أن الغرض الأساسي لأي كشك هو توفير السلع الخفيفة وكثيرة التداول مثل السجائر وكروت رصيد التلفون وغير ذلك..لا تتعجل..ستتعلم كل شيء بالممارسة الطويلة..
(تمت)