د. رسول محمد رسول - ما يكشفه (فالتر بنيامين) إزاء الرأسمالية بوصفها دينًا

بالعودة إلى ماكس فيبر (1864 - 1920) نجد أن هذا الفيلسوف الألماني كان بحث في علاقة الرأسمالية مع الدين؛ بل كان يريد القول إن الرأسمالية تطوّرت منذ القرن السابع عشر بالانطلاق من أساس ديني؛ بل تعود وتنطلق من أساس ديني - بروتستانتي على وجه الخصوص، ولذلك جاء كتاب ماكس فيبر (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)، الذي صدر بعد وفاته في سنة 1905 وكان ألّفه وهو في قمّة نضجه؛ حيث رأى أن الأخلاق البروتستانتية ساعدت على تكوين الرأسمالية الجديدة، خصوصاً أن "الروح البروتستانتية" هي التي "أنتجت قيماً وخلقت شروطاً فكرية أسهمت إيجاباً في تطوّر الرأسمالية وتقدّمها".

ويبدو أن هذه الرؤية التي ابتناها ماكس فيبر راقت لفالتر بنيامين (1892 – 1940) وهو فيلسوف يهودي ألماني مدقّق لكي يتأمّل فيها؛ ويذهب فيها مذهبه فكتب مقالته الشهيرة (الرأسمالية كدين) = (Le capitalismecomme religion) ذهب فيها إلى إظهار أن الرأسمالية، بأنها دين طائفي المنحى، وبلا رحمة أو هدنة، ويقود البشرية إلى "بيت اليأس".
وثيقة مذهلة
إنها وثيقة مذهلة، وهي تستند مباشرة إلى الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس فيبر، ولكن - وبطرق مشابهة لأرنست بلوخ (1885 - 1977) أو إريك فروم (1900 - 1980) – سيتم تحويل تحليل فيبر "الخالي من القيمة" إلى حجّة شرسة مناهضة للرأسمالية، ربما مستوحاة من جوستاف لانداور (1870 - 1919) صاحب الاشتراكية الرومانسية والتحرّرية. وهنا تحلّل هذه المقالة شظيّة بنيامين عن العلاقة بين الطرفين الرأسمالية والدين، وتستكشف علاقتها بأطروحة ماكس فيبر، إضافة إلى تقليد مناهضة الرأسمالية الرومانسية.
لقد تصدّى البروفيسور "كمال بو منير" إلى ترجمة مقال بنيامين إلى اللغة العربية وفعل الخير بذلك لمعرفة رؤية بنامين هذه؛ إذ إن هذا الأخير يعتقد بأنه "يمكننا النظر إلى الرأسمالية على أنها دين بالنظر إلى لما تقوم به من تخفيف من هموم الناس وقلقهم وانشغالاتهم بمثل ما كانت تقوم به الأديانُ في الزمن الماضي".
وقد تكون هكذا رؤية تخيفنا لكن بنيامين يفرز بعض سمات ذلك فالرأسمالية هي:
"دين طائفي (Cultuel) خالص؛ بل هي ربما دين تعبُّدي إلى حدّ لم يسبق له مثيل. وبهذا الصدد، يجدر بنا أن نشير إلى أنّ الرأسمالية لا تحتوي على دلالة خارج هذا الطابع التعبّدي، رغم أنها تفتقد إلى عقيدة معيّنة وإلى علم لاهوت (Theologies) وإذ ذاك لا غرابة أن تكتسي النزعة النفعيّةطابعاً دينياً".
ذنب تقديس العبادة
كما أن "الرأسمالية ارتبطت بتقديس العبادة، فمن المعلوم أنّ مدّة التعبّد دائمة وغير منقطعة، والجدير بالذكر هو أنّ الرأسمالية كانت، في واقع الأمر، عملاً تعبدياً بلا توقّف ولا رحمة! بحيث لا توجد "أيّام عاديّة"؛ إذ يتم الاحتفال في كل يوم، ويُقام موكب مقدّس يصطحبه توترٌ شديدٌ يسكن داخل المتعبِّد".
ومن ناحية ثانية، يبدو "هذا التعبّد أنه يجعل المرء يشعر دوماً بالذنب، وعلى الأرجح فإنّ الرأسمالية أول مثال عن تعبّد غير مكثرت بالتكفير عن الذنوب والخطايا؛ بل مثير للشعور بهذه الذنوب والخطايا. وعلى هذا، كانت المنظومة الدينية في خدمة حركة مخيفة للغاية" في الأوساط الرأسمالية بحيث و"من الناحية التاريخية، أنّ الدين لم يعد إصلاحاً وإنما هو بالأحرى انهيار للكينونة برمتها" وتلك كارثة جذريّة.
ومن هنا لا بد من التأكيد على أن "الرأسمالية هي دين تعبّدي لكن،من دون عقيدة"!، وتطوّرت "الرأسمالية في الغرب بنوع من التطفّل على حساب الدين المسيحي"؛ ولذلك فإن "تأريخ المسيحية هو في الوقت نفسه تأريخ الرأسمالية".
يقول بنيامين: "هكذا انهار ذلك التعالي الإلهي، ولكن هذا لا يعني البتة أنّ الإله مات فعلاً، وهذا ما يذكرنا بمناقشات فريدريش نيتشه (1844 – 1900). والحقُ أنّ هذا الأمر بالذات كان مرتبطاً – بطبيعة الحال - بمصير الإنسان نفسه. إنّ الانتقال من كوكب الإنسان وفق مداره المنفرد إلى مسكن اليأس والقنوط هو بكل تأكيد ما كان يسعى إلى تحقيقه فكر نيتشه؛والمقصود بالإنسان هنا هو الإنسان الأعلى، الذي كان يسعى لتحقيق مطلب الدين الرأسمالي". أما "السمة الرابعة للرأسمالية فإنّ إلهاها مخيف، وبالتالي لا يصح من منظورها التوجّه إليه إلا في اللحظة التي يبلغ فيها شعور الإله بالذنب أوجه".
فرويد ونيتشه
ولذلك يرى بنيامين فالتر أن "الفكر الفرويدي - نسبة الى سيجموند فرويد (1856 - 1939) - هو رأسمالي بالكامل"، كما أن "نمط التفكير الديني الرأسمالي قد عبّر عن نفسه بشكل كبير من خلال فلسفة نيتشه"، وهي فلسفة أقامت الدنيا وأقعدتها وتجرأت على بحث فكرة موت الإله.
يبدو أن موقف بنيامين بشأن الدين وعلاقته بالرأسمالية موقف نقدي جذري (Radikale) قرأ ماكس فيبر بهدوء وتابع توقفاته لدى الفلاسفة كما مرّ على فرويد ونيتشه وربما آخرون، وبقي من أتباع الماركسية وظل ناقداً ينطلق منها، لكنّه الموقف الشجاع في مسألة معقّدة لا أدري ما مديات العلاقة بين الدين والرأسمالية في العالم العربي، فالرأسمالية في العالم العربي مشوهّة والممارسة الدينية هي الأخرى مشوّهة، لكن الأمر بحاجة إلى التوقّف عنده. يبقى موقف فالتر بنيامين تدخلاً تأويلياً مع الآخرين يستحق الاحترام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى