أمل الكردفاني- العبور- قصة

ها هو منتصف الظهيرة، في قلب الصحراء الأفريقية حول النيل، قبل السافنا الفقيرة، حيث هربت الوحوش من شدة العطش إلى الجنوب. يرفع أكتومو رأسه نحو الشمس ويغطي عينيه بكفه ذات الأصابع النحيلة القاسية. على يده اليسرى حربة رقيقة حادة الطرف، ويشم رهاب الصهد الحارق عبر منخرين واسعين..
كان النهر قد بات ممراً جافاً، لا يعبره أحد..والجدب ينزح نحو الجنوب..هنا حيث لا أحد يدون تاريخ الأمس ولا اليوم.. وحيث فقدت القبيلة روح القتال..لم يبق من يحمل حربة سوى أكتومو..المحارب الذي لم يقتل حشرة من قبل..أغلب نساء القبيلة توفين اثناء الولادة وما تبقى منهن بعد الولادة ببضعة أسابيع أو أشهر..والطفل نفسه لم يكن يكمل ساعة بعد خروجه من كهفه البشري..لم يكن من أحد يعلم ما حدث للأرض..لقد حدث شيء رهيب.. حدث لم يفهمه أكتومو ولا قبيلته حتى الآن... جفت كل الاغصان ثم احترقت وانهالت على الكثبان.. وغطى التراب السماء لثلاثة أشهر بلونه الأحمر الداكن..وتبخر النهر بأكمله..فرقصت الاسماك فوق الطين ثم همدت..ثم تحللت بشكوها وغابت في العدم..القبائل التي كانت تحاذي السافنا، توغلت في العمق، لكنها كانت تفاجأ بانهيار البيئة الغابية..عم الجوع والموت والمرض كل أرض الشمس التي لا تغيب..يحمل اكتومو حربته ويشق هياكل الاشجار الميتة بحذر، إذ يتربص الجميع بالجميع ليأكلوا بعضهم ويشربوا الدماء البشرية..فيؤجل ذلك هلاكهم لبضعة أيام أخرى..قتل اوكتومو أحد مهاجميه ثم بقر بطنه وأكل أحشاءه قبل أن يمص ما تخثر من دماء حول العضلات وداخل الأوردة والشرايين، ثم قطعه لقطع، خاطها في خيط واحد ليعلقها بين الأغصان المتيبسة..هذه وجبة ستكفيه ثمانية أيام..بعض الحشرات كانت بطونها تحتوي على القليل من الماء، فجمعها ومنحها قطعة لحم حتى تمتص ما تبقى من دماء وتخزنها ليوم الحاجة. انقشع التراب من السماء، فأدرك اكتومو أن الشمس سترسل نيران الموت الزاحفة بعدها مباشرة..فنزل إلى الحفرة..كان قد حفر حفرة أسطوانية وفي قعرها حفر نفقاً جانبياً، لقد ألهمته الآلهة هذه الفكرة..ففعلها بجسد متعب.. وحين أغمض عينيه مترقباً للنيران الزاحفة سمع صوتها يعبر فوق رأسه كأمواج البحر..ورأى باطن الحفرة على يساره وهو يلتهب..لقد أصبحت الأرض جحيماً لا يطاق.. هذه الزخات تتكرر كل بضعة أسابيع مما عرقل الزحف البشري الهارب كثيراً، ويبدو آن الآلهة قد ألهمت الكثيرين بما ألهمت به أكتومو...
ما الحل؟
لم يكن هنالك من جواب..
عجز أكتومو وغيره عن الإجابة، فليس بالإمكان مواجهة الطبيعة حين تغضب، لكنهم إتفقوا على ألا يأكلوا بعضهم بعد اليوم..
كانت الشائعات قد انتشرت حول نجاة منطقة مرتفعة في الجنوب من غضبة الطبيعة، وأن النازحين الذين بلغوها قد أضحوا في أمان بل رغد من العيش...وهكذا نشط اكتومو وتقدم الحشود التي خلفه لأشهر، لكنه وقف على حافة جرف هائل والحشود من خلفه يتأملون صحراء ملح بلا نهاية على مد البصر.. كان ذلك موتاً محققاً.. غير أن أكتومو لم يجد بداً من الهروب من الموت إلا بمواجهة مخاطر النجاة منه... فأسرع خطاه وتبعه عدد قليل..مضت ستة أشهر منذ السير فوق صحراء الملح، والتي رأى فيها اكتومو لأول مرة جثث أسماكٍ هائلة الحجم، منحتهم بعض الطعام والحماية من النيران الزاحفة، فاستمروا في سيرهم. ونتيجة الصمت الطويل، جفت أوتارهم الصوتية فأصبحو يهمهمون...مروا بجبال شاهقة... وحفر عميقة مظلمة فاستداروا حولها.. ثم المزيد والمزيد من صحاري الملح..وأخيراً -بعد قرابة سنتين- رأوا صحراءً رملية... ثم بضعة أشجار بدأت أوراقها تخضر...نبضت قلوبهم فحثوا خطاهم للأمام.. كانوا يرون بعض الطمي المتحجر يترامي على مساحة واسعة، ثم أخذ يتجمع في ممر أضيق..ومن على البعد رأوا بعض الطمي اللين، ثم اعشاب خضراء قليلة تنمو من بين فجواته...وأخيراً بعض الشجيرات الخضراء والماء ينساب بخفة في مجراه... لم تعنهم حناجرهم على الصراخ فرحاً لكن أوكتومو لاحظ أن هذا المجرى النهري.. كان هو نفسه مجرى النيل الذي تركه قبل أكثر من عامين ...فضاقت عيناه..ثم بكى بنحيب واهن..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى