على النوتة يشترون طلبات البيت، المندوه البقال ذمته لامعة كالرخام، والولد الصغير الممصوص الوجه، ناجي، يتهجى الحروف والأرقام بصعوبة. يكتب على اللوح الإردواز بالطباشير حروفًا يمسحها، ويحاول طول اليوم أن يتذكرها. يجري بأعوامه القليلة وخطواته القصيرة ليحضر الحاجات لأمه، يطبق على النوتة بشدة، يجري إلى المندوه فيعطيه المطلوب ويسجل فيها بخطه العاجز المبلغ والتاريخ، عندما ميز الأرقام أخذ يقرأ فيها، تعلم الجمع، فبدأ يراجع جمع المندوه، ذات يوم صحح للمندوه خطأ في الجمع، رأى المندوه أنه أخطأ لصالح ناجي قال له:
= ربنا يحميك يا ابني وينجحك.
أسرع ناجي وأخبر والدته، سطع وجهها بابتسامة رائقة، لكنها لوت شفتيها غيظًا لما عرفت أن تصحيح الخطأ أضاف إلى حسابهم سبعين قرشًا، قالت بحزن:
= سبعين قرش حتة واحدة.
يضع ناجي النوتة داخل طاقة في حائط حجرة النوم تحت علبة من الصاج بها حجة البيت وأوراق أخرى مهمة. تقبض أمه المعاش فتأخذه معها قائلة:
= تعال نحاسب المندوه.
يجري إلى الطاقة، يأخذ النوتة، ويسرع ليلاحق خطواتها الواسعة، ناجي لا يرى الفلوس إلا أول الشهر، يتعجب من الأولاد الذين يذهبون إلى المندوه بدون نوتة، يأخذون طلباتهم ويدفعون، بينما يقف أمام الطاولة الخشبية المغطاة بلوح لامع من الصاج، يده مطبقة على النوتة، يجيء دوره فيعطي النوتة للمندوه ليسجل ويجمع ثم يكتب الإجمالي في دفتر طويل أوراقه مزيتة بالية الحواف، يعطيه الطلبات، ويقول في لهجة حانية:
= خد بالك يا ناجي، النوتة أمانة.
يسأل ناجي أمه، فتقول بصوت محزون:
= معاش أبوك صغير.
ينظر إلى الصورة المعلقة أمام السرير، ويسأل:
= متي يرجع.. ونستغني عن النوتة؟
لا ترد، يعاود النظر إلى السترة المحبوكة على الرقبة تزينها أزرار كبيرة، يفكر، هل كانت الأزرار لامعة كأزرار سترة ضابط المطافي الذي رآه في زفة مولد النبي؟ يسأل أمه كأنه يحدث نفسه:
= هي الصحراء واسعة يا امه؟
= الصحراء توهة يا ابني.
يقول ساهمًا:
= نفسي يرجع قبل دخول المدارس.
تحاول لضم الإبرة، تزوي ما بين عينيها، تمد يدها بالإبرة والخيط، يفرح ناجي ويلضم الإبرة، تبتسم له أمه فيسألها:
= الحرب لازم تكون في الصحراء؟
ترد وهي تواصل رتق الثوب:
= نصيبنا يا ابني.
قال بتردد وهو يخشى بكاءها:
= لما أكبر، أحارب وأدور عليه في الصحرا.
قالت وهي تبذل جهدا لتملك نفسها:
= يا ريت يا ناجي، لما تكبر تكون الحرب انتهت.
ومسحت دمعة فرت من عينها.
ذات مساء أرسلته أمه ليشتري لها صابونة غسيل، صابونة واحدة يا ناجي، أمام الطاولة الخشبية بسطحها المعدني اللامع انتبه إلى علي بركة، بشعره الغزير الناعم، وملامح وجهه المستفزة، ونظراته الإبرية المدببة، كان يشتري علبة حلاوة كبيرة وزيتونا أسود وجبن رومي رائحته تسطل، سرح ناجي في طعم الحلاوة ونعومة حبات الزيتون والزيت ينز من الجبن الرومي. أفاق على الولد وهو يمعن النظر في النوتة، أحسن ناجي أن نظرات الولد تحرقه، أدار عينه نحوه فوجد على وجهه ابتسامة استخفاف. تجاحش ناجي وحرن، مد يده ودفع الولد في صدره، ثم اختطف النوتة من يد المندوه، وجرى والدموع تملأ عينيه.
فكر ناجي أن يمزق النوتة، خاف أن يزعل المندوه منه، ولا يستطيع شراء أي حاجة، لن تقول أمه لجاراتها: ناجي ولد شاطر. الحل أن يرجع الغائب ومعه فلوس كثيرة. أمه تقول إن الولد علي بركة حاله مائل مع أن فلوسهم ليس لها عدد. ناجي في حيرة، آآآه لو يأتي أبوه ويخلصه من النوتة، يتعب من التفكير ويروح في النوم.
على الطبلية بجوار الباب يجلس ناجي بجانب أمه يتعشيان، على ضوء اللمبة الجاز المرتعش رأى ظلًا يفرش جانب الطبلية، رفع بصره فرأى فرحات ابن بائعة الفجل واقفًا بجواره، لا يكاد يصلب طوله، الكلمات لا تريد الخروج، يلفظها وكأنه يسحبها بيديه من داخل فمه، مدت أمه يدها وجذبته في حنو ليجلس بجانبها، جلس في ذهول وهي تقول له:
= كل معنا يا فرحات.
مد الولد يده ليأكل، لم يستطع فانفجر في البكاء، اقترب ناجي منه، وطبطب على كتفه وهو لا يدري ماذا يقول، أم ناجي صاحت في جزع:
= مالك يا حبيبي، أمك لا أراها من يومين على الفرشة.
استطال بكاء فرحات، خرجت الكلمات مسحوبة من فمه حرفًا حرفًا:
= أمي "بتموت" يا خالة.
صاحت أم ناجي وهي تنتفض واقفة:
= بعد الشر.
عدلت الطرحة على رأسها وأخذت فرحات في يدها تجري نحو العشة الصغيرة، ناجي فقد الرغبة في الأكل، ترك الطبلية، سحب الباب وراءه ولحق بهما. الدنيا أصبحت كحلًا، أم ناجي بحثت عن اللمبة السهراية حتى وجدتها على طرف المصطبة الطينية التي تضع أم فرحات فوفها الحلة والوابور وعدة الشاي، أشعلتها، اقتربت من أم فرحات والقلق يفترسها:
= مالك يا أختي؟
أحست بها أم فرحات فرقعت بالصوت، لكن صوتها الواهن لم يصل إلى أبعد من مكانها، كف الولد عن البكاء لمَّا سمع صوت أمه، زغردت عيناه، نظر إلى أم صاحبه في امتنان وهو يفرك يديه. ناجي يحب فرحات الذي يلعب معه دون أن يعايره بالنوتة، يريد أن يفعل شيئًا، لكنه لا يعرف، يقف بالقرب من أمه التي انحنت على رأس أم فرحات تفيقها، نهضت وهي تقول له:
= هات الأكل وتعال نأكل مع فرحات وخالتك.
جذب ناجي صاحبه من يده، السرور أطلق أرجلهم نحو البيت، أحضروا الطعام من فوق الطبلية ووضعاه على الأرض، أم ناجي أجلست أم فرحات التي استندت إلى الحائط وهي تبكي بدون صوت. حلفت أم ناجي عليها أن تأكل معهم لأجل خاطر المحروس. ما إن مدت يدها إلى الطعام حتى صاح فرحات والكلمات تخرج من فمه صافية مجلجلة معجونة بالفرحة:
= ربنا يخليك يا خالة.
شبع ناجي، لكنه تململ، أحست به أمه، تعرف كم يحب فرحات، قامت لتشعل الوابور فلم تجد به جازًا، نظرت، فألقت المريضة بنظراتها إلى الأرض، هتفت بناجي:
= خذ النوتة ورح للمندوه، هات جازًا وشايًا وسكرًا وورقة ينسون وورقة كراوية.
تعصف الفرحة بناجي فيجذب صاحبه من ذراعه وهو يقول:
= حاضر يا امه.
تباعدت خطواتهما قليلًا، فاستدركت أم ناجي فقامت، وقفت على باب العشة وأطلت برأسها نحو الشارع وصاحت بناجي، الذي التفت إليها، وسمعها تقول:
= هات كفين حلاوة.. وأربع صوابع عسلية.
محمود عرفات
كفر الزيات في 4/8/2003م
= ربنا يحميك يا ابني وينجحك.
أسرع ناجي وأخبر والدته، سطع وجهها بابتسامة رائقة، لكنها لوت شفتيها غيظًا لما عرفت أن تصحيح الخطأ أضاف إلى حسابهم سبعين قرشًا، قالت بحزن:
= سبعين قرش حتة واحدة.
يضع ناجي النوتة داخل طاقة في حائط حجرة النوم تحت علبة من الصاج بها حجة البيت وأوراق أخرى مهمة. تقبض أمه المعاش فتأخذه معها قائلة:
= تعال نحاسب المندوه.
يجري إلى الطاقة، يأخذ النوتة، ويسرع ليلاحق خطواتها الواسعة، ناجي لا يرى الفلوس إلا أول الشهر، يتعجب من الأولاد الذين يذهبون إلى المندوه بدون نوتة، يأخذون طلباتهم ويدفعون، بينما يقف أمام الطاولة الخشبية المغطاة بلوح لامع من الصاج، يده مطبقة على النوتة، يجيء دوره فيعطي النوتة للمندوه ليسجل ويجمع ثم يكتب الإجمالي في دفتر طويل أوراقه مزيتة بالية الحواف، يعطيه الطلبات، ويقول في لهجة حانية:
= خد بالك يا ناجي، النوتة أمانة.
يسأل ناجي أمه، فتقول بصوت محزون:
= معاش أبوك صغير.
ينظر إلى الصورة المعلقة أمام السرير، ويسأل:
= متي يرجع.. ونستغني عن النوتة؟
لا ترد، يعاود النظر إلى السترة المحبوكة على الرقبة تزينها أزرار كبيرة، يفكر، هل كانت الأزرار لامعة كأزرار سترة ضابط المطافي الذي رآه في زفة مولد النبي؟ يسأل أمه كأنه يحدث نفسه:
= هي الصحراء واسعة يا امه؟
= الصحراء توهة يا ابني.
يقول ساهمًا:
= نفسي يرجع قبل دخول المدارس.
تحاول لضم الإبرة، تزوي ما بين عينيها، تمد يدها بالإبرة والخيط، يفرح ناجي ويلضم الإبرة، تبتسم له أمه فيسألها:
= الحرب لازم تكون في الصحراء؟
ترد وهي تواصل رتق الثوب:
= نصيبنا يا ابني.
قال بتردد وهو يخشى بكاءها:
= لما أكبر، أحارب وأدور عليه في الصحرا.
قالت وهي تبذل جهدا لتملك نفسها:
= يا ريت يا ناجي، لما تكبر تكون الحرب انتهت.
ومسحت دمعة فرت من عينها.
ذات مساء أرسلته أمه ليشتري لها صابونة غسيل، صابونة واحدة يا ناجي، أمام الطاولة الخشبية بسطحها المعدني اللامع انتبه إلى علي بركة، بشعره الغزير الناعم، وملامح وجهه المستفزة، ونظراته الإبرية المدببة، كان يشتري علبة حلاوة كبيرة وزيتونا أسود وجبن رومي رائحته تسطل، سرح ناجي في طعم الحلاوة ونعومة حبات الزيتون والزيت ينز من الجبن الرومي. أفاق على الولد وهو يمعن النظر في النوتة، أحسن ناجي أن نظرات الولد تحرقه، أدار عينه نحوه فوجد على وجهه ابتسامة استخفاف. تجاحش ناجي وحرن، مد يده ودفع الولد في صدره، ثم اختطف النوتة من يد المندوه، وجرى والدموع تملأ عينيه.
فكر ناجي أن يمزق النوتة، خاف أن يزعل المندوه منه، ولا يستطيع شراء أي حاجة، لن تقول أمه لجاراتها: ناجي ولد شاطر. الحل أن يرجع الغائب ومعه فلوس كثيرة. أمه تقول إن الولد علي بركة حاله مائل مع أن فلوسهم ليس لها عدد. ناجي في حيرة، آآآه لو يأتي أبوه ويخلصه من النوتة، يتعب من التفكير ويروح في النوم.
على الطبلية بجوار الباب يجلس ناجي بجانب أمه يتعشيان، على ضوء اللمبة الجاز المرتعش رأى ظلًا يفرش جانب الطبلية، رفع بصره فرأى فرحات ابن بائعة الفجل واقفًا بجواره، لا يكاد يصلب طوله، الكلمات لا تريد الخروج، يلفظها وكأنه يسحبها بيديه من داخل فمه، مدت أمه يدها وجذبته في حنو ليجلس بجانبها، جلس في ذهول وهي تقول له:
= كل معنا يا فرحات.
مد الولد يده ليأكل، لم يستطع فانفجر في البكاء، اقترب ناجي منه، وطبطب على كتفه وهو لا يدري ماذا يقول، أم ناجي صاحت في جزع:
= مالك يا حبيبي، أمك لا أراها من يومين على الفرشة.
استطال بكاء فرحات، خرجت الكلمات مسحوبة من فمه حرفًا حرفًا:
= أمي "بتموت" يا خالة.
صاحت أم ناجي وهي تنتفض واقفة:
= بعد الشر.
عدلت الطرحة على رأسها وأخذت فرحات في يدها تجري نحو العشة الصغيرة، ناجي فقد الرغبة في الأكل، ترك الطبلية، سحب الباب وراءه ولحق بهما. الدنيا أصبحت كحلًا، أم ناجي بحثت عن اللمبة السهراية حتى وجدتها على طرف المصطبة الطينية التي تضع أم فرحات فوفها الحلة والوابور وعدة الشاي، أشعلتها، اقتربت من أم فرحات والقلق يفترسها:
= مالك يا أختي؟
أحست بها أم فرحات فرقعت بالصوت، لكن صوتها الواهن لم يصل إلى أبعد من مكانها، كف الولد عن البكاء لمَّا سمع صوت أمه، زغردت عيناه، نظر إلى أم صاحبه في امتنان وهو يفرك يديه. ناجي يحب فرحات الذي يلعب معه دون أن يعايره بالنوتة، يريد أن يفعل شيئًا، لكنه لا يعرف، يقف بالقرب من أمه التي انحنت على رأس أم فرحات تفيقها، نهضت وهي تقول له:
= هات الأكل وتعال نأكل مع فرحات وخالتك.
جذب ناجي صاحبه من يده، السرور أطلق أرجلهم نحو البيت، أحضروا الطعام من فوق الطبلية ووضعاه على الأرض، أم ناجي أجلست أم فرحات التي استندت إلى الحائط وهي تبكي بدون صوت. حلفت أم ناجي عليها أن تأكل معهم لأجل خاطر المحروس. ما إن مدت يدها إلى الطعام حتى صاح فرحات والكلمات تخرج من فمه صافية مجلجلة معجونة بالفرحة:
= ربنا يخليك يا خالة.
شبع ناجي، لكنه تململ، أحست به أمه، تعرف كم يحب فرحات، قامت لتشعل الوابور فلم تجد به جازًا، نظرت، فألقت المريضة بنظراتها إلى الأرض، هتفت بناجي:
= خذ النوتة ورح للمندوه، هات جازًا وشايًا وسكرًا وورقة ينسون وورقة كراوية.
تعصف الفرحة بناجي فيجذب صاحبه من ذراعه وهو يقول:
= حاضر يا امه.
تباعدت خطواتهما قليلًا، فاستدركت أم ناجي فقامت، وقفت على باب العشة وأطلت برأسها نحو الشارع وصاحت بناجي، الذي التفت إليها، وسمعها تقول:
= هات كفين حلاوة.. وأربع صوابع عسلية.
محمود عرفات
كفر الزيات في 4/8/2003م
