عزيزتي إتيل،
تروين في رسالتك الأخيرة عن برشلونة مشاهدتك امرأة عارية تشق طريقها عبر الجموع على أرصفة المدينة ("الرامبلاس"). المشهد يثير فيّ ذكريات المناظر الملحمية من أفلام يانشكو المجري. وحده الجسد العاري يعلن الحرية. فلا عجب أن يكون الفوضويون الأسبان قد مارسوا طقوس التعري الجماعية.
لم أشاهد على الرامبلاس في برشلونة امرأتك العارية. لكني شاهدت اسبانيا تتحرر من الصمت الذي فرضته على نفسها حول الحرب الأهلية. إضافة إلى صور فرنكو اليومية "دياريو 16" تنشر فصولا من كتاب المؤرخ البريطاني هيو طوماس وهو المرجع الكلاسيكي عن الحرب. أخيرا، صار في مكنة الأسبان أن يعرفوا عن حربهم ما قد عرفه عنها الغرب وسائر العالم منذ عقود من الزمن. "تتذكر أو لا تتذكر"، تلك هي المسألة. والاسبانيون على الحد بين الاحتمالات. هناك جيلان على الأقل ولدا بعد الحرب الأهلية.
لبلنسية علاقة مميزة بالجمهورية والحرب. كانت المدينة عاصمة الحكومة الجمهورية خلال ما يقارب السنة عندما اشتد الحصار على مدريد عام 1936 - 1937 فانتقلت إليها الحكومة الجمهورية تاركة العاصمة في يد لجنة ثورية لعب فيها الشيوعيون والفوضويون دورا بارزا. وكانت بلنسية أيضا آخر معقل جمهوري سقط في يد الفرنكويين. وها هي الآن المدينة الاسبانية الوحيدة التي تنظم احتفالا في مناسبة مرور خمسين عاما على الحرب الأهلية. لم تكن المهمة سهلة، ففرض الاحتفال فرضا بواسطة الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الحاكم الذي يسيطر على الحكومة المحلية لبلنسية. خلال حفل الاستقبال الذي نظمته البلدية يرحب بنا الشاعر خوان جيل آلبرت، معاصر لوركا وماتشادو وآخر الشهود الأحياء من مثقفي جيل الحرب. وفي عشية اليوم نفسه، شاهدنا عبر التلفزة برنامجا خاصا عن دور الحزب الشيوعي في النضال ضد فرنكو، ولكن أين الحزب الذي بدا لفترة كأنه طليعة عملية تجديد في الحركة الشيوعية العالمية؟ مع صعود الاشتراكيين إلى الحكم، تضاءل وزنه الانتخابي ودوره في المجتمع والسياسة وقد أنهكته النزاعات الداخلية. طرد أمينه العام سانتياغو كاريّو الذي كان نظّر للتداول السلمي والديموقراطي للسلطة إلا انه عجز عن أن يكون ديموقراطيا داخل حزبه. وللحزب الآن قيادة شابة. أما الأقلية التي خرجت مع كاريّو فارتدّت إلى خط متزمت والى الولاء المطلق للاتحاد السوفياتي.
المؤتمر نفسه يكشف غنى التنوع الثقافي واللغوي في اسبانيا الديموقراطية حيث اللغة الرسمية هي الكاستيانية تجاورها ثلاث لغات شبه رسمية هي الغاليسية والكاتالونية والباسكية. يشرح لنا احد الكتّاب أن الأمة الاسبانية، بعد عملية اللامركزية الواسعة التي اعتمدتها، لم يعد يجمع بين أجزائها سوى مؤسستين: العرش والقوات المسلحة. اللافت هو إصرار معظم المثقفين الكاتالونيين على إلقاء مداخلاتهم بلغتهم الأم، ولتلك اللغة جرس يذكّر باللغة الفرنسية، والقول المأثور بين الأدباء الأسبان قاطبة: "وطننا الوحيد هو اللغة".
في المساء، إلى المسرح لحضور آمانثيو برادو، نجم الغناء الاسباني الكبير، يغني للوركا "أغاني الحب السري": خمسون دقيقة كثيفة تؤكد تلازم الشعر مع الغناء لأداء كل غموض الحب المثالي ولوعته، تليها جولة لنا في مدينة تشبه ساحتها ساحة البرج في بيروت شبهاً غريباً. يطل على الساحة فندق فيكتوريا حيث كان يقيم لوركا في زياراته للمدينة وحيث كتب "أغاني الحب السري". دليلنا إلى بلنسية الكاتب الكبير خوان غويتسولو يروي لنا كيف انه، بعد وفاة فرنكو، عمل ومجموعة من أصحابه على تدمير تمثال لفرنكو كان يتوسط الساحة. لم يكن الأمر سهلا، كانت عصابات من حزب الكتائب تحرس النصب واقتضى الأمر التحايل عليهم أو الاضطرار إلى الاشتباك معهم ناهيك بأن المهاجمين اكتشفوا ان لأسفل التمثال قضبانا من حديد مغروسة عميقا في الأرض. يا لها من رمزية دالة على عمق جذور الفرنكوية في تلك التربة.
16 نيسان 1986
في السهرة التالية، انطونيو غاديس وفرقته يعرضون "كارمن" على شكل مسرحية راقصة هي أشبه بسخرية من "كارمن" الأصلية لميريميه وبيزيه، وإعادة استيعابها اسبانياً بواسطة الفلامنكو. فرقة رقص تتدرب على تمثيل اوبريت "كارمن" وتتكرر خلال التدريب قصة الحب التي تدور مدارها اوبريت "كارمن" بين مدير الفرقة وراقصتها الأولى. لا يستبقي غاديس من الأوبرا الأصلية غير المقطعين الغنائيين الأشهر عن "الحب طفل بوهيمي"، أما الباقي فتعبّر عنه لغة الأيدي والأرجل والمناكب والأنامل في لوحات فردية أو زوجية أو جماعية من الفلامنكو. ومن المشاهد التي لا تنسى رقصة الحسد والتحدي بين المتنافستين على حب مدير الفرقة وفيها كل الوحشية والشبق في استدعاء الرجل.
تعليق خوان ونحن خارجون: تستطيعون أكثر من سواكم تقدير الرقص الأندلسي لشبهه الكبير بالرقص في بلادكم. لست متأكدا من صحة المقارنة. فما من رقصة عربية تضاهي جنون الرقصة الغجرية. أما لغة الأيدي والأنامل فلعله يمكن تشبيهها برقصة السماح، وهي الرقصة الجماعية التي ترقصها النساء خاصة على أنغام الموشحات الأندلسية في دمشق وحلب. لكن السماح أكثر هدوءا وعذوبة من الفلامنكو. مرافقتنا الاشتراكية، واسمها أيضا كارمن، ترى في عنف الرقصة تعبيرا عن عنف الصراعات الاجتماعية في الأندلس.
- هل استطيع أن أسألك ماذا كنت تفعل إبان الحرب الأهلية؟
سؤال موجّه إلى الرجل الصغير القامة الذي نشأ بيني وبينه تواطؤ كبير خلال تلك الأيام القليلة وقد جاء لتوديع الوفد العربي العائد إلى باريس.
-كل شيء، كان جوابه.
انه مستشار وزير الثقافة في حكومة منطقة بلنسية المستقلة ذاتيا. في مقهى الفندق، يكشف ضيفنا عن نفسه بصعوبة. فهمنا في ثنايا الحديث انه كان مسؤول الحزب الشيوعي الاسباني عن العمل السري في بلنسية إبان الحكم الفرنكوي. يخبرنا صديقه انه عاش عشر سنين في غرفة واحدة. ليس في الغرفة، بل في خزانة الغرفة لأنه كان مختبئا لدى أسرة لا تملك غير تلك الغرفة وكان عليه أن يختبىء في الخزانة كلما جاءهم زائر. ترك الحزب الشيوعي بعد خطاب خروتشوف الشهير الذي فضح فظائع الستالينية. وهو الآن يساري مستقل يؤيد الحزب الاشتراكي الحاكم.
- يقولون لي إن اسم آسرتي من أصل عربي Suay ويرجح انه "شوي" بالعامية أو "سويد"، ويفيدنا أن قسما كبيرا من قرى منطقة بلنسية مسمّاة على أسماء القبائل العربية التي استوطنتها.
نضج من العمر، كما يقول. والمهم بالنسبة إليه أن لا يتكرر النزاع المسلح. فبعد المعاناة أيام الفرنكويين، باتت الديموقراطية أثمن شيء حتى ولو تمّت على حساب إنجازات أخرى.
هل هو نادم على شيء من خلال تجربته الطويلة؟
حادثة مهمة أثرت في مجرى حياته: أقدم على قتل احد القادة الفوضويين في بلنسية بناء على أوامر الحزب. لا يريد لمثل تلك الأمور أن تتكرر.
جاء دوره لكي يمطرني بالأسئلة عن لبنان. لم أجد صعوبة في التفسير بالإشارة إلى حربهم ذاتها منذ خمسين سنة. يعترف لي انه لا يفهم كثيرا ما يجري في لبنان. مازحا أقول: إن هذا لسان حالي أيضا. أما على صعيد الجدّ، فأشرح: تصور لو أن الحرب الأهلية لم تنته بانتصار احد طرفيها بل استمرت خلال الأربعينات، كم كانت ستكون الشراذم والانقسامات في داخل المعسكرين المتحاربين، إن تلك الحال تشبه كثيرا ما يجري الآن في لبنان.
استأذن للوداع: نحن عجّزنا، لعلنا صرنا متشائمين أكثر مما يجب، أوصيكم بالأمل. نتمنى لكم الأمل والنجاح.
- ولا يهمّك، الأمل مرضنا الذي لا شفاء منه.
الأحد 20 نيسان 1986
انفصلُ عن الفريق العائد إلى باريس لوقفة في مدريد من اجل مقابلة "غيرنيكا" وجها لوجه. في ملحق متحف "البرادو" أجدها اكبر حجما مما تصورت، إلا أن الألوان مثيرة. فلم أكن أتصور أن اللوحة تحوي ذلك العدد الكبير من دقاق الرمادي والأزرق. ولكن فات الأوان. لكثرة ما شاهدت من صور منسوخة عن الجدارية الأصلية، ولكثرة ما أنعمت النظر تأملا وتحليلا في أدق تفاصيلها، افتقد لقائي باللوحة الأصلية سحر النظرة الأولى. ومهما يكن، فقد فات الأوان، لسبب آخر هو أن مخطوطتي عن "غيرنيكا" في المطبعة. زد على ذلك أن الإجراءات الأمنية المفروضة لحماية رائعة بيكاسو - كأنها زعيم سياسي خطير - تضفي على المشهد جوا غرائبيا حرمني الاستغراق في تأملها. فبين الجدارية والمشاهدين تنتصب درع زجاجية واقية من الرصاص والى جانبها يقف خفير من "الحرس المدني".
كنت أتصور "غيرنيكا" معروضة في ساحة عامة. أما في ذلك الملحق من متحف "البرادو" فأنها تبدو ملتبسة الدلالات بما هي آخر شاهد"حي" على الحرب الأهلية. فالمرء يتساءل هل يجري حماية هذه "اللوحة - الذاكرة" من النسيان أم انه فرض عليها الانزواء في ذاك المكان خلف درعها الواقية لكونها تحيي الأليم من الذكريات، تلك التي تريد اسبانيا اليوم نسيانها؟
عزيزتي إيتل،
كيف ينسى المرء حربا أهلية؟
5
في بلنسية مجددا لذكرى أخرى، هي ذكرى "المؤتمر الدولي للكتّاب المعادين للفاشية" الذي عقد في المدينة عام .1939 نحن لا نزال نفكر في الحروب الأهلية، فيما معظم مثقفي أوروبا وأميركا - بمن فيهم الذين حضروا المؤتمر الأصلي أمثال ستيفن سبندر واوكتافيو باث - جاؤوا لتلاوة أفعال الندامة ولسان حالهم: إذا كان العدو في الثلاثينات هو الفاشية، فالعدو الواجب محاربته اليوم هو الشيوعية. وهذا دانيال كون بندت، احد أبطال حركة الطلاب الأوروبية عام ،1968 وقد صار "داني الأخضر" نسبة إلى "الخضر" الألمان الذين ينتسب إليهم، بعدما كان لقبه "داني الأحمر"، ينضم إلى الجيل القديم في تأدية رسالة مماثلة. أما الندوة التي عقدها المثقفون العرب، من إعداد خوان غويتسولو وتقديمه عن العلاقات العربية - الاسبانية، زمن الجمهورية والحرب الأهلية، فلا بد أنها بدت كأنها من عصر آخر. حتى إن الروائي البيروفي فارغاس يوسّا لم يطق سماع مداخلاتنا أصلا، ففتح جريدته بكل صفاقة في وسط القاعة وأخذ يقرأ فيها.
ما أعجب أن تقولي: "أحب ما يجري في اسبانيا. لا هي غنية ولا هي فقيرة، إنها "عالم عمالي" مثلما الشيوعية حلمت به من دون أن تنجح في تحقيقه"! خلال زيارتي لبلنسية خطر لي فجأة أن اسبانيا أفضل نموذج يقتدي به العرب في تنميتهم، بديلا من النموذجين الأميركي والسوفياتي. هي صناعية ومع ذلك فلها قطاع زراعي واسع ونشيط، وهي مدينية لكنها عميقة الجذور في تراثها الريفي، وهي موحدة ولكن على قاعدة لامركزية رحبة تحترم التنوعات الاقوامية واللغوية والإقليمية والثقافية، وشعبها مكدّ مجتهد وهو مع ذلك حيوي ومحب للفرح والملذات إلى ابعد حد، وخصوصا الشباب. واسبانيا أخيرا ليس آخرا ديموقراطية ويسودها إلى ذلك حس عميق بالعدالة الاجتماعية.
6
عزيزتي إيتل،
لو إن المدن نساء، لكانت غرناطة أجمل النساء قاطبة.
مع أني لست استسيغ هذا التشبيه بين المدن والنساء، يستحيل الإفلات منه في غرناطة.
"غرناطة، إن شئت/ اتخذك لي زوجة"، يعرض عليها دون خوان في "الرومانثيرو الاسباني". فتجيبه غرناطة: "إني ذات بعل، يا دون خوان/ متزوجة ولست بأرملة/ والعربي الذي يملكني/ يحبّني حبا عظيما".
بعد زيارة طويلة لقصر الحمراء والحدائق التي تحفّ به وترقى صعودا إلى أعلى التلة المسماة generalife التي أحب ترجمتها "جنة الريف" مع أن الدليل السياحي يقول إنها "جنة العريف" جلست وشريك الرحلة الفرنسي صامتين على درج قرب بركة صغيرة، غارقين في التأمل. يمر بها السياح يحدقون في أدلتهم السياحية والخرائط. ثمة خاصة مشتركة بين السياح. يحتاجون دوما إلى التأكد من أن الواقع الذي يعاينون يتطابق والخريطة أو الدليل السياحي بين أيديهم. فكأن موقعا اثريا، أو نصبا تذكاريا، أو لوحة أو تمثالا لا وجود له في الواقع إلا إذا وجد في الدليل أو كان مرسوماً على الخريطة!
يدور حولي السياح وأنا لا أزال مطرقا ساهما أدون على دفتري محاولة في تعريف غرناطة:
غرناطة، هندسة الظل/ ورمّانة الغجر/ نرجسة الماء /ونقش الروح على حجر...
فجأة اكتشفت ما جعل هذه الزيارة إلى غرناطة مناسبة جد مميزة: ما من زيارة أخرى غير هذه الزيارة كانت لتتلاءم وفترة ما بعد حرب الخليج الثانية. كان على المرء أن يشعر انه ينتمي إلى شعب حقق انجازات حضارية من مثل تلك الانجازات الأندلسية لكي يحتمل الضربة الالكترونية - الدموية الكارثية التي تلقيناها في تلك الحرب.
كيفما نظرت إلى تحت من على تلك التلة المحصنة ترى "حي البياسين". أترجم العبارة لرفيقي: "البائسين". أي علاقة غريبة بين قصر الحمراء وحي البائسين. القصر وجنة الريف هما الجنة كما يتصورها العرب. لم يكن على سكان القصر سوى إلقاء نظرة إلى سفح التلة ليتأكدوا من أنهم يعيشون في جنة النعيم. وعكسا، ما عليك غير أن تقتعد كرسيا في احد المقاهي التي تحاذي النهر الذي يجري عند سفح تلك التلة لتنبهر بروع القصر وعظمته. من حيهم المتواضع كان البائسون الأندلسيون يتصورون أن ما يشاهدونه مهيمنا عليهم من ذلك العلو الشاهق إنما هو جنة النعيم إياها التي وعدوا بها، تجري من تحتها الأنهار وتحفّ بها الأشجار. على أنها جنة متوارية ومحتجبة خلف الأسوار الجبارة والقلاع المنيعة والأشجار الباسقة. وغرناطة ذات النارنج والعرعر والريحان والورد والرمان هي الجنة الموعودة والمحرّمة في آن معا. حاضرة أبدا لكنها محتجبة دوما مثل إرم ذات العماد. والآن افهم ماذا عناه لوركا عندما انشد:
"غرناطة تنضح بلغز/ لغز ما يستحيل وجوده/ وهو، رغم ذلك، موجود".
لغز غرناطة أنها تستحضر الجنة على الأرض. لذا أطلق الشاعر الاسباني الشهيد على غرناطة لقب "جنة العربي المفقودة".
قصة فقدان تلك الجنة معروفة. ولكن ما هو غير معروف كثيرا أن البائسين كانوا يثورون عندما لا يعودون يطيقون مفارقة العيش "تحت" فيما الآخرون يعيشون "فوق". وكانت آخر ثوراتهم تلك التي أعلنوها ضد أبي عبد الله، آخر ملوك اسبانيا العربية. فانكفأ في أعلى القصر إلى أن اخمد الجند الثورة بالحديد والنار. خلال ذلك، كانت غرناطة تحاصرها جيوش إيزابيل وفرديناند، قادة "الريكونكويستا"، حرب الملوك الكاثوليك لاسترداد الأندلس من العرب. اخمد أبي عبد الله ثورة فقراء شعبه لكنه انهزم أمام الأعداء الاسبانيين. فكأن إخماد الثورة الشعبية كان الإيذان بسقوط آخر مملكة عربية في الأندلس. هذه هي قصة غرناطة، "جنة العربي المفقودة". والعربي الذي فقد الجنة الغرناطية تسلل من خلال احد الأبواب الخلفية للقلعة، يسمّى "باب الغدر". وكان يبكي "مثل النساء مجداً لم يحافظ عليه كالرجال".
كيف لي أن افلت من المقارنة بين أبي عبد الله وصدام حسين؟ وكلاهما انهزم أمام الأعداء لكنه ارتكب المجازر في حق شعبه الذي ثار عليه. الفارق الوحيد هنا أن صدام لا يملك العنصر الأنثوي الذي كان لأبي عبد الله. فانا اشك في أن صدام حسين ذرف دمعة واحدة في حياته.
ومثلما كان لا بد من المقارنة بين أبي عبد الله وصدام حسين، كذلك تنبغي المقارنة بين قصرين في غرناطة. القصر الذي تكلمنا عنه حتى الآن هو القصر الذي بناه الناصريون من ملوك المدينة العرب. زائر غرناطة الآن يلقى فيها قصرا آخر، هو القصر الذي ابتناه الملك الاسباني شارل الخامس في مواجهة القصر العربي احتفالا بالانتصار على أصحاب القصر من العرب المسلمين. من دون مبالغة يمكن وصف قصر شارل الخامس، بأنه جريمة حرب "الريكونكويستا" المعمارية. تشعرك كتله الحجرية بأنها رابضة بكامل ثقلها على صدرك. البناء مربع في داخله فسحة دائرة مفتوحة إلى أعلى هي الترميز المطلق للقمع والاحتواء: إذ لا مخرج من ذلك المأزق الدائري، أو قل: من تلك الحلقة المفرغة، إلا نحو السماء. يحبسك القصر ليريك أن لا خلاص لك إلا بالملكوت السماوي.
في المقابل، تلقى القصر العربي عمارة مفتوحة على كل الجهات. هو نموذج رائع لتلك الميزة العبقرية لفن العمارة العربي حيث تنهار الفواصل بين داخل وخارج، تنعطف في البناء فيفضي بك إلى خارج هندسي التنظيم، أكان حديقة أم مجرى مياه. تعود إلى داخل، فيردك إلى فناء داخلي تحدق به الغرف وتتوسطه بركة ماء ذات نوفرة. هنا الزواج بين القنطرة وصفحة الماء، بين الطبيعة والثقافة، بين الروح والحجر.
والمقارنة بين العمارتين هي مقارنة بين نمطين من الروحانية. تلقى في العمارة العربية روحانية المنمنمات حيث يتبارى الرقش والتزيين والكتابة في تبديد الكتلة الحجرية، إلى أن ترقّ وتشفّ. فكان المادة ذاتها قد تحولت إلى روح. الحروفية تروحن الحجر، تتحايل على وطأته، تنحيفا وتخفيفا. العكس تماما هو ما ينتابك في القصر الاسباني حيث تبدو لك الروح أثقل من المادة وقد تجسدت هندسيا في كتل تسحقك تحت وطأة جلاميدها المدبّبة الثقيلة.
7
عزيزتي إيتل،
أردت أن اكتب لك عن زيارتي الأخيرة إلى عدن وعن نضال النساء اليمنيات للحفاظ على مكاسب حصلن عليها بالتضحيات العزيزة الطويلة وقد باتت مهددة بأن تكون أولى الضحايا على مذبح الوحدة بين شطري اليمن. ولكن بينما كنت أضع رسائلي بالانكليزية انعقد عرس الدم في قانا.
قد تكون قانا صور هي قانا الجليل، الوارد ذكرها في الأناجيل، وقد لا تكون هي قانا الجليل. قد تكون قانا هي البلدة التي زارها المسيح وحقق فيها أولى معجزاته وقد لا تكون البلدة التي زارها السيد المسيح وحقق فيها معجزة. لكن الأكيد أن قانا، في ذلك الثامن عشر من نيسان 1996 ميلادية، لم يقع فيها عرس من أي نوع. والأكيد أيضا أن قانا، في ذلك الثامن عشر من نيسان 1996 ميلادية، لم يتحول فيها المياه إلى خمر. في قانا، يوم الثامن عشر من نيسان 1996 ميلادية، حدثت معجزة من نوع آخر: تحول فيها الدم إلى... دم.
وقعت المجزرة نتيجة خطأ، تقول الرواية الإسرائيلية. وحدهم الإسرائيليون في هذا العالم يرتكبون "خطأ"، هكذا بالمفرد لا بالجمع وبين مزدوجين. ذلك أن ارتكاب خطأ عندهم من ثامن المستحيلات. فهم عادة ما يرتكبون "الدفاع المشروع عن النفس" أو يرتكبون "الضربات الاستباقية" حتى لا يضطروا إلى ارتكاب "الدفاع المشروع عن النفس" ارتكابا مباشرا. ولكن إذا صدف أن حدث ثامن المستحيلات هذا، ووقع "خطأ"، فقُل: هي معجزة قد وقعت، لا محالة.
سائر الشعوب ترتكب الأخطاء بالمفرد والجمع. لغير الإسرائيليين ارتكاب الاغتيالات والجرائم وأعمال ما يسمى بما يسمى بالإرهاب والمجازر الجماعية وإبادة الأقوام والأجناس والشعوب وصولا إلى ما يسمّى الجرائم في حق الإنسانية.
الحق يقال أن الإسرائيليين يقتلون على الخريطة. وهل من قتل أنظف من ذلك؟ والقتل على الخريطة يفترض فيه أن لا يخطئ. فإذا ما وقع خطأ ما في القتل على الخريطة، تقع المسؤولية عن الخطأ على... الخريطة. طبعا. وهي الخريطة تتحمل المسؤولية عما ينجم عن الخطأ من "ضرر جانبي" كقتل 108 كائنات بشرية. وبما أن الخريطة، بمعنى ما، إسرائيلية، مع أنها خريطة لمواقع في الجنوب اللبناني، إذ ذاك يجوز القول أن خطأ قد وقع في قراءة الخريطة.
أنا عائد من قانا. كنت في عداد موكب من ممثلي الهيئات الثقافية، انطلق نحو القرية الشهيدة بمبادرة من حبيب صادق والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي. عاينّا معجزة الخطأ، معجزة تحول الدم إلى دم. أنشدنا النشيد الوطني بشيء من الارتباك. ووقفنا خمس دقائق صمتاً من اجل الشهداء. ثم دلفنا واحدا تلو الآخر، كل منا يلقي وردته الحمراء على الضريح الجماعي. وفيما أنا انحني لأضع وردتي الحمراء، استوقفتني صورة لمريم العذراء موضوعة فوق الضريح. لقد وضعت من اجل المرأة المسيحية التي قضت إلى جانب المسلمين من إخوتها وأخواتها من أبناء البلدة وبناتها. كنت بين آخر الذين القوا بوردتهم الحمراء على الضريح، فطلب مني مصور تلفزيوني أن التقط وردتي واكرر عملية إلقائها على الضريح ليتسنى له تصوير اللقطة. امتثلتُ. لست ادري لماذا. فانا عادة لا استجيب مثل طلبات التمثيل هذه. كنت في غفلة من أمري. أفكر في معجزة "الخطأ".
لا أزال أتخيل نفسي الآن اكرر بلا نهاية حركة إلقاء وردتي الحمراء على الضريح الجماعي من اجل كل واحد من أطفال قانا وشيوخها ونسائها ورجالها. نعم، رجال قانا. لم لا نبكي الرجال أيضا؟ يقال في الحجة الذكورية أننا لا نبكي الرجال لأنهم يحسنون الدفاع عن أنفسهم. ولكن، أي رجل يستطيع أن يدافع عن نفسه في إزاء القنابل الانشطارية والعنقودية والحارقة والفراغية والنابالمية تتساقط على رأسه في بُرّاكية من الصفيح في مركز تابع لقوات الأمم المتحدة في قانا أو في أي مكان من العالم؟
خرجنا صامتين من المقبرة الجماعية التي تحرسها قوات الأمم المتحدة وسرنا صامتين نحو السيارات وأنا لا أزال أفكر في ذاك "الخطأ" الجراحي المرعب الدقة. انفلتتْ مني هذه العبارة: يا له من "خطأ" جراحي دقيق. إلى جانبي يسير جوزف سماحة مطأطئ الرأس يتمتم: لماذا؟ لماذا؟ ثم استدرك: يا له من سؤال سخيف!
مع المحبة.
فوّاز طرابلسي
تروين في رسالتك الأخيرة عن برشلونة مشاهدتك امرأة عارية تشق طريقها عبر الجموع على أرصفة المدينة ("الرامبلاس"). المشهد يثير فيّ ذكريات المناظر الملحمية من أفلام يانشكو المجري. وحده الجسد العاري يعلن الحرية. فلا عجب أن يكون الفوضويون الأسبان قد مارسوا طقوس التعري الجماعية.
لم أشاهد على الرامبلاس في برشلونة امرأتك العارية. لكني شاهدت اسبانيا تتحرر من الصمت الذي فرضته على نفسها حول الحرب الأهلية. إضافة إلى صور فرنكو اليومية "دياريو 16" تنشر فصولا من كتاب المؤرخ البريطاني هيو طوماس وهو المرجع الكلاسيكي عن الحرب. أخيرا، صار في مكنة الأسبان أن يعرفوا عن حربهم ما قد عرفه عنها الغرب وسائر العالم منذ عقود من الزمن. "تتذكر أو لا تتذكر"، تلك هي المسألة. والاسبانيون على الحد بين الاحتمالات. هناك جيلان على الأقل ولدا بعد الحرب الأهلية.
لبلنسية علاقة مميزة بالجمهورية والحرب. كانت المدينة عاصمة الحكومة الجمهورية خلال ما يقارب السنة عندما اشتد الحصار على مدريد عام 1936 - 1937 فانتقلت إليها الحكومة الجمهورية تاركة العاصمة في يد لجنة ثورية لعب فيها الشيوعيون والفوضويون دورا بارزا. وكانت بلنسية أيضا آخر معقل جمهوري سقط في يد الفرنكويين. وها هي الآن المدينة الاسبانية الوحيدة التي تنظم احتفالا في مناسبة مرور خمسين عاما على الحرب الأهلية. لم تكن المهمة سهلة، ففرض الاحتفال فرضا بواسطة الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الحاكم الذي يسيطر على الحكومة المحلية لبلنسية. خلال حفل الاستقبال الذي نظمته البلدية يرحب بنا الشاعر خوان جيل آلبرت، معاصر لوركا وماتشادو وآخر الشهود الأحياء من مثقفي جيل الحرب. وفي عشية اليوم نفسه، شاهدنا عبر التلفزة برنامجا خاصا عن دور الحزب الشيوعي في النضال ضد فرنكو، ولكن أين الحزب الذي بدا لفترة كأنه طليعة عملية تجديد في الحركة الشيوعية العالمية؟ مع صعود الاشتراكيين إلى الحكم، تضاءل وزنه الانتخابي ودوره في المجتمع والسياسة وقد أنهكته النزاعات الداخلية. طرد أمينه العام سانتياغو كاريّو الذي كان نظّر للتداول السلمي والديموقراطي للسلطة إلا انه عجز عن أن يكون ديموقراطيا داخل حزبه. وللحزب الآن قيادة شابة. أما الأقلية التي خرجت مع كاريّو فارتدّت إلى خط متزمت والى الولاء المطلق للاتحاد السوفياتي.
المؤتمر نفسه يكشف غنى التنوع الثقافي واللغوي في اسبانيا الديموقراطية حيث اللغة الرسمية هي الكاستيانية تجاورها ثلاث لغات شبه رسمية هي الغاليسية والكاتالونية والباسكية. يشرح لنا احد الكتّاب أن الأمة الاسبانية، بعد عملية اللامركزية الواسعة التي اعتمدتها، لم يعد يجمع بين أجزائها سوى مؤسستين: العرش والقوات المسلحة. اللافت هو إصرار معظم المثقفين الكاتالونيين على إلقاء مداخلاتهم بلغتهم الأم، ولتلك اللغة جرس يذكّر باللغة الفرنسية، والقول المأثور بين الأدباء الأسبان قاطبة: "وطننا الوحيد هو اللغة".
في المساء، إلى المسرح لحضور آمانثيو برادو، نجم الغناء الاسباني الكبير، يغني للوركا "أغاني الحب السري": خمسون دقيقة كثيفة تؤكد تلازم الشعر مع الغناء لأداء كل غموض الحب المثالي ولوعته، تليها جولة لنا في مدينة تشبه ساحتها ساحة البرج في بيروت شبهاً غريباً. يطل على الساحة فندق فيكتوريا حيث كان يقيم لوركا في زياراته للمدينة وحيث كتب "أغاني الحب السري". دليلنا إلى بلنسية الكاتب الكبير خوان غويتسولو يروي لنا كيف انه، بعد وفاة فرنكو، عمل ومجموعة من أصحابه على تدمير تمثال لفرنكو كان يتوسط الساحة. لم يكن الأمر سهلا، كانت عصابات من حزب الكتائب تحرس النصب واقتضى الأمر التحايل عليهم أو الاضطرار إلى الاشتباك معهم ناهيك بأن المهاجمين اكتشفوا ان لأسفل التمثال قضبانا من حديد مغروسة عميقا في الأرض. يا لها من رمزية دالة على عمق جذور الفرنكوية في تلك التربة.
16 نيسان 1986
في السهرة التالية، انطونيو غاديس وفرقته يعرضون "كارمن" على شكل مسرحية راقصة هي أشبه بسخرية من "كارمن" الأصلية لميريميه وبيزيه، وإعادة استيعابها اسبانياً بواسطة الفلامنكو. فرقة رقص تتدرب على تمثيل اوبريت "كارمن" وتتكرر خلال التدريب قصة الحب التي تدور مدارها اوبريت "كارمن" بين مدير الفرقة وراقصتها الأولى. لا يستبقي غاديس من الأوبرا الأصلية غير المقطعين الغنائيين الأشهر عن "الحب طفل بوهيمي"، أما الباقي فتعبّر عنه لغة الأيدي والأرجل والمناكب والأنامل في لوحات فردية أو زوجية أو جماعية من الفلامنكو. ومن المشاهد التي لا تنسى رقصة الحسد والتحدي بين المتنافستين على حب مدير الفرقة وفيها كل الوحشية والشبق في استدعاء الرجل.
تعليق خوان ونحن خارجون: تستطيعون أكثر من سواكم تقدير الرقص الأندلسي لشبهه الكبير بالرقص في بلادكم. لست متأكدا من صحة المقارنة. فما من رقصة عربية تضاهي جنون الرقصة الغجرية. أما لغة الأيدي والأنامل فلعله يمكن تشبيهها برقصة السماح، وهي الرقصة الجماعية التي ترقصها النساء خاصة على أنغام الموشحات الأندلسية في دمشق وحلب. لكن السماح أكثر هدوءا وعذوبة من الفلامنكو. مرافقتنا الاشتراكية، واسمها أيضا كارمن، ترى في عنف الرقصة تعبيرا عن عنف الصراعات الاجتماعية في الأندلس.
- هل استطيع أن أسألك ماذا كنت تفعل إبان الحرب الأهلية؟
سؤال موجّه إلى الرجل الصغير القامة الذي نشأ بيني وبينه تواطؤ كبير خلال تلك الأيام القليلة وقد جاء لتوديع الوفد العربي العائد إلى باريس.
-كل شيء، كان جوابه.
انه مستشار وزير الثقافة في حكومة منطقة بلنسية المستقلة ذاتيا. في مقهى الفندق، يكشف ضيفنا عن نفسه بصعوبة. فهمنا في ثنايا الحديث انه كان مسؤول الحزب الشيوعي الاسباني عن العمل السري في بلنسية إبان الحكم الفرنكوي. يخبرنا صديقه انه عاش عشر سنين في غرفة واحدة. ليس في الغرفة، بل في خزانة الغرفة لأنه كان مختبئا لدى أسرة لا تملك غير تلك الغرفة وكان عليه أن يختبىء في الخزانة كلما جاءهم زائر. ترك الحزب الشيوعي بعد خطاب خروتشوف الشهير الذي فضح فظائع الستالينية. وهو الآن يساري مستقل يؤيد الحزب الاشتراكي الحاكم.
- يقولون لي إن اسم آسرتي من أصل عربي Suay ويرجح انه "شوي" بالعامية أو "سويد"، ويفيدنا أن قسما كبيرا من قرى منطقة بلنسية مسمّاة على أسماء القبائل العربية التي استوطنتها.
نضج من العمر، كما يقول. والمهم بالنسبة إليه أن لا يتكرر النزاع المسلح. فبعد المعاناة أيام الفرنكويين، باتت الديموقراطية أثمن شيء حتى ولو تمّت على حساب إنجازات أخرى.
هل هو نادم على شيء من خلال تجربته الطويلة؟
حادثة مهمة أثرت في مجرى حياته: أقدم على قتل احد القادة الفوضويين في بلنسية بناء على أوامر الحزب. لا يريد لمثل تلك الأمور أن تتكرر.
جاء دوره لكي يمطرني بالأسئلة عن لبنان. لم أجد صعوبة في التفسير بالإشارة إلى حربهم ذاتها منذ خمسين سنة. يعترف لي انه لا يفهم كثيرا ما يجري في لبنان. مازحا أقول: إن هذا لسان حالي أيضا. أما على صعيد الجدّ، فأشرح: تصور لو أن الحرب الأهلية لم تنته بانتصار احد طرفيها بل استمرت خلال الأربعينات، كم كانت ستكون الشراذم والانقسامات في داخل المعسكرين المتحاربين، إن تلك الحال تشبه كثيرا ما يجري الآن في لبنان.
استأذن للوداع: نحن عجّزنا، لعلنا صرنا متشائمين أكثر مما يجب، أوصيكم بالأمل. نتمنى لكم الأمل والنجاح.
- ولا يهمّك، الأمل مرضنا الذي لا شفاء منه.
الأحد 20 نيسان 1986
انفصلُ عن الفريق العائد إلى باريس لوقفة في مدريد من اجل مقابلة "غيرنيكا" وجها لوجه. في ملحق متحف "البرادو" أجدها اكبر حجما مما تصورت، إلا أن الألوان مثيرة. فلم أكن أتصور أن اللوحة تحوي ذلك العدد الكبير من دقاق الرمادي والأزرق. ولكن فات الأوان. لكثرة ما شاهدت من صور منسوخة عن الجدارية الأصلية، ولكثرة ما أنعمت النظر تأملا وتحليلا في أدق تفاصيلها، افتقد لقائي باللوحة الأصلية سحر النظرة الأولى. ومهما يكن، فقد فات الأوان، لسبب آخر هو أن مخطوطتي عن "غيرنيكا" في المطبعة. زد على ذلك أن الإجراءات الأمنية المفروضة لحماية رائعة بيكاسو - كأنها زعيم سياسي خطير - تضفي على المشهد جوا غرائبيا حرمني الاستغراق في تأملها. فبين الجدارية والمشاهدين تنتصب درع زجاجية واقية من الرصاص والى جانبها يقف خفير من "الحرس المدني".
كنت أتصور "غيرنيكا" معروضة في ساحة عامة. أما في ذلك الملحق من متحف "البرادو" فأنها تبدو ملتبسة الدلالات بما هي آخر شاهد"حي" على الحرب الأهلية. فالمرء يتساءل هل يجري حماية هذه "اللوحة - الذاكرة" من النسيان أم انه فرض عليها الانزواء في ذاك المكان خلف درعها الواقية لكونها تحيي الأليم من الذكريات، تلك التي تريد اسبانيا اليوم نسيانها؟
عزيزتي إيتل،
كيف ينسى المرء حربا أهلية؟
5
في بلنسية مجددا لذكرى أخرى، هي ذكرى "المؤتمر الدولي للكتّاب المعادين للفاشية" الذي عقد في المدينة عام .1939 نحن لا نزال نفكر في الحروب الأهلية، فيما معظم مثقفي أوروبا وأميركا - بمن فيهم الذين حضروا المؤتمر الأصلي أمثال ستيفن سبندر واوكتافيو باث - جاؤوا لتلاوة أفعال الندامة ولسان حالهم: إذا كان العدو في الثلاثينات هو الفاشية، فالعدو الواجب محاربته اليوم هو الشيوعية. وهذا دانيال كون بندت، احد أبطال حركة الطلاب الأوروبية عام ،1968 وقد صار "داني الأخضر" نسبة إلى "الخضر" الألمان الذين ينتسب إليهم، بعدما كان لقبه "داني الأحمر"، ينضم إلى الجيل القديم في تأدية رسالة مماثلة. أما الندوة التي عقدها المثقفون العرب، من إعداد خوان غويتسولو وتقديمه عن العلاقات العربية - الاسبانية، زمن الجمهورية والحرب الأهلية، فلا بد أنها بدت كأنها من عصر آخر. حتى إن الروائي البيروفي فارغاس يوسّا لم يطق سماع مداخلاتنا أصلا، ففتح جريدته بكل صفاقة في وسط القاعة وأخذ يقرأ فيها.
ما أعجب أن تقولي: "أحب ما يجري في اسبانيا. لا هي غنية ولا هي فقيرة، إنها "عالم عمالي" مثلما الشيوعية حلمت به من دون أن تنجح في تحقيقه"! خلال زيارتي لبلنسية خطر لي فجأة أن اسبانيا أفضل نموذج يقتدي به العرب في تنميتهم، بديلا من النموذجين الأميركي والسوفياتي. هي صناعية ومع ذلك فلها قطاع زراعي واسع ونشيط، وهي مدينية لكنها عميقة الجذور في تراثها الريفي، وهي موحدة ولكن على قاعدة لامركزية رحبة تحترم التنوعات الاقوامية واللغوية والإقليمية والثقافية، وشعبها مكدّ مجتهد وهو مع ذلك حيوي ومحب للفرح والملذات إلى ابعد حد، وخصوصا الشباب. واسبانيا أخيرا ليس آخرا ديموقراطية ويسودها إلى ذلك حس عميق بالعدالة الاجتماعية.
6
عزيزتي إيتل،
لو إن المدن نساء، لكانت غرناطة أجمل النساء قاطبة.
مع أني لست استسيغ هذا التشبيه بين المدن والنساء، يستحيل الإفلات منه في غرناطة.
"غرناطة، إن شئت/ اتخذك لي زوجة"، يعرض عليها دون خوان في "الرومانثيرو الاسباني". فتجيبه غرناطة: "إني ذات بعل، يا دون خوان/ متزوجة ولست بأرملة/ والعربي الذي يملكني/ يحبّني حبا عظيما".
بعد زيارة طويلة لقصر الحمراء والحدائق التي تحفّ به وترقى صعودا إلى أعلى التلة المسماة generalife التي أحب ترجمتها "جنة الريف" مع أن الدليل السياحي يقول إنها "جنة العريف" جلست وشريك الرحلة الفرنسي صامتين على درج قرب بركة صغيرة، غارقين في التأمل. يمر بها السياح يحدقون في أدلتهم السياحية والخرائط. ثمة خاصة مشتركة بين السياح. يحتاجون دوما إلى التأكد من أن الواقع الذي يعاينون يتطابق والخريطة أو الدليل السياحي بين أيديهم. فكأن موقعا اثريا، أو نصبا تذكاريا، أو لوحة أو تمثالا لا وجود له في الواقع إلا إذا وجد في الدليل أو كان مرسوماً على الخريطة!
يدور حولي السياح وأنا لا أزال مطرقا ساهما أدون على دفتري محاولة في تعريف غرناطة:
غرناطة، هندسة الظل/ ورمّانة الغجر/ نرجسة الماء /ونقش الروح على حجر...
فجأة اكتشفت ما جعل هذه الزيارة إلى غرناطة مناسبة جد مميزة: ما من زيارة أخرى غير هذه الزيارة كانت لتتلاءم وفترة ما بعد حرب الخليج الثانية. كان على المرء أن يشعر انه ينتمي إلى شعب حقق انجازات حضارية من مثل تلك الانجازات الأندلسية لكي يحتمل الضربة الالكترونية - الدموية الكارثية التي تلقيناها في تلك الحرب.
كيفما نظرت إلى تحت من على تلك التلة المحصنة ترى "حي البياسين". أترجم العبارة لرفيقي: "البائسين". أي علاقة غريبة بين قصر الحمراء وحي البائسين. القصر وجنة الريف هما الجنة كما يتصورها العرب. لم يكن على سكان القصر سوى إلقاء نظرة إلى سفح التلة ليتأكدوا من أنهم يعيشون في جنة النعيم. وعكسا، ما عليك غير أن تقتعد كرسيا في احد المقاهي التي تحاذي النهر الذي يجري عند سفح تلك التلة لتنبهر بروع القصر وعظمته. من حيهم المتواضع كان البائسون الأندلسيون يتصورون أن ما يشاهدونه مهيمنا عليهم من ذلك العلو الشاهق إنما هو جنة النعيم إياها التي وعدوا بها، تجري من تحتها الأنهار وتحفّ بها الأشجار. على أنها جنة متوارية ومحتجبة خلف الأسوار الجبارة والقلاع المنيعة والأشجار الباسقة. وغرناطة ذات النارنج والعرعر والريحان والورد والرمان هي الجنة الموعودة والمحرّمة في آن معا. حاضرة أبدا لكنها محتجبة دوما مثل إرم ذات العماد. والآن افهم ماذا عناه لوركا عندما انشد:
"غرناطة تنضح بلغز/ لغز ما يستحيل وجوده/ وهو، رغم ذلك، موجود".
لغز غرناطة أنها تستحضر الجنة على الأرض. لذا أطلق الشاعر الاسباني الشهيد على غرناطة لقب "جنة العربي المفقودة".
قصة فقدان تلك الجنة معروفة. ولكن ما هو غير معروف كثيرا أن البائسين كانوا يثورون عندما لا يعودون يطيقون مفارقة العيش "تحت" فيما الآخرون يعيشون "فوق". وكانت آخر ثوراتهم تلك التي أعلنوها ضد أبي عبد الله، آخر ملوك اسبانيا العربية. فانكفأ في أعلى القصر إلى أن اخمد الجند الثورة بالحديد والنار. خلال ذلك، كانت غرناطة تحاصرها جيوش إيزابيل وفرديناند، قادة "الريكونكويستا"، حرب الملوك الكاثوليك لاسترداد الأندلس من العرب. اخمد أبي عبد الله ثورة فقراء شعبه لكنه انهزم أمام الأعداء الاسبانيين. فكأن إخماد الثورة الشعبية كان الإيذان بسقوط آخر مملكة عربية في الأندلس. هذه هي قصة غرناطة، "جنة العربي المفقودة". والعربي الذي فقد الجنة الغرناطية تسلل من خلال احد الأبواب الخلفية للقلعة، يسمّى "باب الغدر". وكان يبكي "مثل النساء مجداً لم يحافظ عليه كالرجال".
كيف لي أن افلت من المقارنة بين أبي عبد الله وصدام حسين؟ وكلاهما انهزم أمام الأعداء لكنه ارتكب المجازر في حق شعبه الذي ثار عليه. الفارق الوحيد هنا أن صدام لا يملك العنصر الأنثوي الذي كان لأبي عبد الله. فانا اشك في أن صدام حسين ذرف دمعة واحدة في حياته.
ومثلما كان لا بد من المقارنة بين أبي عبد الله وصدام حسين، كذلك تنبغي المقارنة بين قصرين في غرناطة. القصر الذي تكلمنا عنه حتى الآن هو القصر الذي بناه الناصريون من ملوك المدينة العرب. زائر غرناطة الآن يلقى فيها قصرا آخر، هو القصر الذي ابتناه الملك الاسباني شارل الخامس في مواجهة القصر العربي احتفالا بالانتصار على أصحاب القصر من العرب المسلمين. من دون مبالغة يمكن وصف قصر شارل الخامس، بأنه جريمة حرب "الريكونكويستا" المعمارية. تشعرك كتله الحجرية بأنها رابضة بكامل ثقلها على صدرك. البناء مربع في داخله فسحة دائرة مفتوحة إلى أعلى هي الترميز المطلق للقمع والاحتواء: إذ لا مخرج من ذلك المأزق الدائري، أو قل: من تلك الحلقة المفرغة، إلا نحو السماء. يحبسك القصر ليريك أن لا خلاص لك إلا بالملكوت السماوي.
في المقابل، تلقى القصر العربي عمارة مفتوحة على كل الجهات. هو نموذج رائع لتلك الميزة العبقرية لفن العمارة العربي حيث تنهار الفواصل بين داخل وخارج، تنعطف في البناء فيفضي بك إلى خارج هندسي التنظيم، أكان حديقة أم مجرى مياه. تعود إلى داخل، فيردك إلى فناء داخلي تحدق به الغرف وتتوسطه بركة ماء ذات نوفرة. هنا الزواج بين القنطرة وصفحة الماء، بين الطبيعة والثقافة، بين الروح والحجر.
والمقارنة بين العمارتين هي مقارنة بين نمطين من الروحانية. تلقى في العمارة العربية روحانية المنمنمات حيث يتبارى الرقش والتزيين والكتابة في تبديد الكتلة الحجرية، إلى أن ترقّ وتشفّ. فكان المادة ذاتها قد تحولت إلى روح. الحروفية تروحن الحجر، تتحايل على وطأته، تنحيفا وتخفيفا. العكس تماما هو ما ينتابك في القصر الاسباني حيث تبدو لك الروح أثقل من المادة وقد تجسدت هندسيا في كتل تسحقك تحت وطأة جلاميدها المدبّبة الثقيلة.
7
عزيزتي إيتل،
أردت أن اكتب لك عن زيارتي الأخيرة إلى عدن وعن نضال النساء اليمنيات للحفاظ على مكاسب حصلن عليها بالتضحيات العزيزة الطويلة وقد باتت مهددة بأن تكون أولى الضحايا على مذبح الوحدة بين شطري اليمن. ولكن بينما كنت أضع رسائلي بالانكليزية انعقد عرس الدم في قانا.
قد تكون قانا صور هي قانا الجليل، الوارد ذكرها في الأناجيل، وقد لا تكون هي قانا الجليل. قد تكون قانا هي البلدة التي زارها المسيح وحقق فيها أولى معجزاته وقد لا تكون البلدة التي زارها السيد المسيح وحقق فيها معجزة. لكن الأكيد أن قانا، في ذلك الثامن عشر من نيسان 1996 ميلادية، لم يقع فيها عرس من أي نوع. والأكيد أيضا أن قانا، في ذلك الثامن عشر من نيسان 1996 ميلادية، لم يتحول فيها المياه إلى خمر. في قانا، يوم الثامن عشر من نيسان 1996 ميلادية، حدثت معجزة من نوع آخر: تحول فيها الدم إلى... دم.
وقعت المجزرة نتيجة خطأ، تقول الرواية الإسرائيلية. وحدهم الإسرائيليون في هذا العالم يرتكبون "خطأ"، هكذا بالمفرد لا بالجمع وبين مزدوجين. ذلك أن ارتكاب خطأ عندهم من ثامن المستحيلات. فهم عادة ما يرتكبون "الدفاع المشروع عن النفس" أو يرتكبون "الضربات الاستباقية" حتى لا يضطروا إلى ارتكاب "الدفاع المشروع عن النفس" ارتكابا مباشرا. ولكن إذا صدف أن حدث ثامن المستحيلات هذا، ووقع "خطأ"، فقُل: هي معجزة قد وقعت، لا محالة.
سائر الشعوب ترتكب الأخطاء بالمفرد والجمع. لغير الإسرائيليين ارتكاب الاغتيالات والجرائم وأعمال ما يسمى بما يسمى بالإرهاب والمجازر الجماعية وإبادة الأقوام والأجناس والشعوب وصولا إلى ما يسمّى الجرائم في حق الإنسانية.
الحق يقال أن الإسرائيليين يقتلون على الخريطة. وهل من قتل أنظف من ذلك؟ والقتل على الخريطة يفترض فيه أن لا يخطئ. فإذا ما وقع خطأ ما في القتل على الخريطة، تقع المسؤولية عن الخطأ على... الخريطة. طبعا. وهي الخريطة تتحمل المسؤولية عما ينجم عن الخطأ من "ضرر جانبي" كقتل 108 كائنات بشرية. وبما أن الخريطة، بمعنى ما، إسرائيلية، مع أنها خريطة لمواقع في الجنوب اللبناني، إذ ذاك يجوز القول أن خطأ قد وقع في قراءة الخريطة.
أنا عائد من قانا. كنت في عداد موكب من ممثلي الهيئات الثقافية، انطلق نحو القرية الشهيدة بمبادرة من حبيب صادق والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي. عاينّا معجزة الخطأ، معجزة تحول الدم إلى دم. أنشدنا النشيد الوطني بشيء من الارتباك. ووقفنا خمس دقائق صمتاً من اجل الشهداء. ثم دلفنا واحدا تلو الآخر، كل منا يلقي وردته الحمراء على الضريح الجماعي. وفيما أنا انحني لأضع وردتي الحمراء، استوقفتني صورة لمريم العذراء موضوعة فوق الضريح. لقد وضعت من اجل المرأة المسيحية التي قضت إلى جانب المسلمين من إخوتها وأخواتها من أبناء البلدة وبناتها. كنت بين آخر الذين القوا بوردتهم الحمراء على الضريح، فطلب مني مصور تلفزيوني أن التقط وردتي واكرر عملية إلقائها على الضريح ليتسنى له تصوير اللقطة. امتثلتُ. لست ادري لماذا. فانا عادة لا استجيب مثل طلبات التمثيل هذه. كنت في غفلة من أمري. أفكر في معجزة "الخطأ".
لا أزال أتخيل نفسي الآن اكرر بلا نهاية حركة إلقاء وردتي الحمراء على الضريح الجماعي من اجل كل واحد من أطفال قانا وشيوخها ونسائها ورجالها. نعم، رجال قانا. لم لا نبكي الرجال أيضا؟ يقال في الحجة الذكورية أننا لا نبكي الرجال لأنهم يحسنون الدفاع عن أنفسهم. ولكن، أي رجل يستطيع أن يدافع عن نفسه في إزاء القنابل الانشطارية والعنقودية والحارقة والفراغية والنابالمية تتساقط على رأسه في بُرّاكية من الصفيح في مركز تابع لقوات الأمم المتحدة في قانا أو في أي مكان من العالم؟
خرجنا صامتين من المقبرة الجماعية التي تحرسها قوات الأمم المتحدة وسرنا صامتين نحو السيارات وأنا لا أزال أفكر في ذاك "الخطأ" الجراحي المرعب الدقة. انفلتتْ مني هذه العبارة: يا له من "خطأ" جراحي دقيق. إلى جانبي يسير جوزف سماحة مطأطئ الرأس يتمتم: لماذا؟ لماذا؟ ثم استدرك: يا له من سؤال سخيف!
مع المحبة.
فوّاز طرابلسي